مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

رسالة الشيخ ابن أبي زيد القيرواني إيرادات وأجوبة (13)

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده

وبعد فهذه أوراق في محاولة الذب عن هذا العلق النفيس «متن الرسالة» من خلال أجوبة عن إيرادات عليه تغض من قيمته الفقهية، وتزري بمكانته الاجتهادية؛ استنادا إلى تمهيد أسست على متين بنيانه إيرادات قادحة، سنوردها بعده واحدة واحدة محاولين تثويرها والإجابة عنها:

وقد أنيخت مطايا النظر في رحاب الإيراد الخامس، وبالضبط في الإبانة عن مكنون اختيارات الشيخ في رسالته، وقد مضت مدارسة خفيفة لاختيار التخيير، وانتخاب الإطلاق، واجتباء الإهمال، وفي هذا المعقد نقف عند ترجيح الشيخ بالتعيين لقول دون قول، ورواية دون أخرى:

ولعل الناظر هـهنا قد يستد له أن الاختيار نوع ترجيح أيضا؛ إذ لا يختار مختار التخيير أو الإطلاق أو الإهمال إلا بناء على مآخذ اعتنت له، ومسالك درجت بين أنظاره كما أسلفنا، وذلك أشبه إلا أن الترجيح في سياقنا أخص؛ لأنه مراجحة بين قولين فأكثر؛ مدارسة لأدلتهما، ونظرا في دلالة نصوصهما، واعتبارا بما احتف من قرائن الحال والمقال في سياقهما، حتى إذا ما استد النظر، وبان بالحجة قوة أحدهما انتزع من مجموع الأقوال انتزاعا، وضمن في الملخص محررا منقحا، ولعل اختيار الإطلاق والتقييد أو الإهمال عن هذا المسلك بمعزل، ويكون بالتوقف؛ لتساوي الأدلة أشبه، والله أعلم

فإذا ثبت ما زبرناه فإن مطلب الترجيح ينعقد في معاقد ثلاث: معقد ترجيح قول المدونة، وقد مضى، والثاني ترجيح الموطإ وقد غبر، أما الثالث فترجيح الضعيف وهو نادر لديه جدا؛ إذ لا يكاد رحمه الله يخرج عن المشهور الذائع، والصحيح المنصوص، لكن لدقيقة يراها، ونكتة يلحظها قد يستحسن غير ما استحسنه الجمهور، بل ويخالف مختار ابن القاسم رحمه الله، ومن ذلك استحسانه لمن نسي الفاتحة في ركعة من الرباعية أو الثلاثية أن يسجد القبلي ويعيد الصلاة؛ وذلك للاحتياط في شأن الصلاة، ومحاولة جمع الروايات والأقوال المضطربة في المذهب، وإن كان قولا لا يعضده وجه من النظر، ولا له سند من الأثر، وإنما هو تلفيق وتأويل، قال رحمه الله: «ولا يجزئ سجود السهو لنقص ركعة.. ولا لترك القراءة في الصلاة كلها، أو في ركعتين منها، وكذلك في ترك القراءة في ركعة من الصبح، واختلف في السهو عن القراءة في ركعة من غيرها، فقيل: يجزئ فيه سجود السهو قبل السلام، وقيل: يلغيها ويأتي بركعة، وقيل يسجد قبل السلام ولا يأتي بركعة، ويعيد الصلاة احتياطا، وهذا أحسن ذلك إن شاء الله تعالى»([1]) : والمراد بترك القراءة في الصلاة ترك قراءة الفاتحة؛ لأن ما بعدها سنة، وقد بين ذلك في موضع آخر بقوله: «والقراءة بأم القرآن في الصلاة فريضة..» ([2])، وذلك في حق الفذ والإمام، وأما المأموم فلا تجب عليه مطلقا، وهل تندب في السرية قولان.

أما الفذ والإمام فإما أن يقرأ بأم القرآن في جميع صلاته فلا كلام عليه، وإما أن يترك القراءة في جميعها أو في بعضها:

فمن تركها في جميع صلاته فالمذهب على قولين: البطلان، ومقابله الجواز، بناء على القول بسنيتها، وهو مهجور في المذهب؛

ومن تركها في بعضها: فإما أن تكون رباعية أو ثلاثية أو ثنائية: ونقتصر هـهنا على الرباعية: فإن ترك القراءة في ثلاث ركعات فالمذهب على قولين: الإعادة وهو المشهور، والثاني الإلغاء، وهو مذهب أشهب. وإن ترك في ركعتين فعلى القولين أيضا، وإن ترك في ركعة فالمذهب على أربعة أقوال: الأول: يلغي الركعة. والثاني:يعيد الصلاة. والثالث: يسجد قبل السلام. والرابع يسجد القبلي ويعيد الصلاة([3])، وهذا ما لخصه خليل بقوله: «وهل تجب الفاتحة في كل ركعة أو الجل؟ خلاف»([4])

فالقول الأول مشهور المذهب ـ أعني أنها واجبة في كل ركعة ـ ففي المواق: «وروي عن مالك وعن جماعة من أهل المدينة أن من لم يقرأها في كل ركعة فقد فسدت صلاته إلا أن يكون مأموما، وهو الصحيح من القول في ذلك عندنا، فمن سها عن قراءتها في كل ركعة ألغاها، وأتى بركعة بدلا منها كمن أسقط سجدة سواء، وهو اختيار ابن القاسم من أقوال مالك»([5])، ويؤيده ما في المدونة: «قال: وسألت مالكا غير مرة عمن نسي أم القرآن في ركعة؟ قال: أحب إلي أن يلغي تلك الركعة ويعيدها، وقال لي: حديث جابر هو الذي آخذ به أنه قال: (كل ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم تصلها إلا وراء أمام)، قال: فأنا آخذ بهذا الحديث»([6])، وهو الذي في موطئه.([7])

والقول الثالث عند الشيخ مستمد مما في المدونة من قول ابن القاسم: «ثم سمعته آخر ما فارقته عليه يقول: لو سجد سجدتين قبل السلام هذا الذي ترك أم القرآن يقرأ بها في ركعة لرجوت أن تجزئ عنه ركعته التي ترك القراءة فيها على تكره منه» وقد تعقب بالقول: «وما هو عندي بالبين، قال: وفيما رأيت منه أن القول الأول هو أعجب إليه، قال ابن القاسم: وهو رأيي»([8])، وإذا أضيف إليه قوله: «على تكره منه» بان أنه قول غير مختار.

والقول الرابع وهو ما استحسنه الشيخ، فهو تأويل منه للمدونة قال الرجراجي: «ورام بعض المتأخرين أن يرد قوله في كتاب الصلاة بالإعادة إلى ما فسره في كتاب الوضوء، وهو تأويل الشيخ أبي محمد ابن أبي زيد وغيره، فقالوا: معناه يسجد ويعيد، ولا فائدة للتأويل مع نصه على المسألة»([9]) ولعل مراده قوله في النوادر: «واستحب له ابن القاسم وأشهب أن يعيد»([10])

وبالجملة فمذهب مالك في المسألة مضطرب اضطرابا شديدا([11])، وما ذلك إلا للاحتمال الوارد في النص الشرعي والنقل المذهبي، وقد مر لك ما في المذهب من النقول، ومحاولة تأويل الشيخ للمدونة، وما روي عن مالك فيها من التردد بين الأخذ بأثر جابر بن عبد الله أو تركه، وإن كان أعجب إليه كما قال ابن القاسم.

وأما النص الشرعي فآية وحديثان: فالآية قوله تعالى: (فاقرؤوا ما تيسر من القرءان) ([12])، والحديث الأول: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرءان) ،  والثاني: (لاصلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ([13])، ويعضده حديث:(كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرءان فهي خداج)([14])

فمن احتج بحديث المسيء صلاته، وعضده بالآية؛ إذ ظاهرها أن المراد بها الصلاة، وحمل حديث الخداج، وحديث (لاصلاة) على نفي الكمال لم يجب الفاتحة في الصلاة.

ومن احتج بحديث (لاصلاة) ورأى أنه لنفي الصحة، وأيده بحديث الخداج التي يتعدى النقصان إلى البطلان، وحمل حديث المسيء على العهد الأول، والآية على غير الصلاة أو فيها لكن بمساق قيام الليل والاجتهاد في قراءة القرآن فيه دون التعرض لأركان أو واجبات قال بركنية الفاتحة في الصلاة

غير أن هؤلاء اعترضهم احتمال آخر: هل الركنية في الصلاة أو في الركعة؟ فاختلفوا: فمن رفع احتمال الحديث بالعمل، وعضد ذلك بأثر جابر، وصح له فيه حكم الرفع قال: بالركنية في كل ركعة. ومن رأى أن الاحتمال غير مرفوع قال بالركنية في جل الركعات.

وأما ما استحسنه الشيخ من كونه يسجد ويعيد فلا أدري ما وجهه إلا الاحتياط إن استدت لديه قاعدة: «إذا تعارض في التعبدات مذهبان فالتمسك بالأحوط أولى» أو محاولة جمع ما في المدونة من الروايات كما مر، على أنه ضعيف في النظر؛ إذ الأمر لا يخلو من سنية الفاتحة فتصح الصلاة، أو ركنيتها في الجل فهي كذلك، أو ركنيتها في كل ركعة فباطلة، ولا معنى لسجوده وإعادته. ثم هي إن صحت فلا معنى للإعادة، وإن بطلت فلا معنى للسجود ـ والله أعلم ـ.

 

([1]) ص 58-59.

([2]) ص 194.

([3]) مناهج التحصيل:1/256-257.

([4]) مختصر الشيخ خليل:31.

([5]) التاج والإكليل لمختصر خليل:2/213.

([6]) المدونة:1/164.

([7]) الموطأ كتاب الصلاة باب ما جاء في أم القرآن

([8]) المدونة:1/164.

([9]) مناهج التحصيل:1/258.

([10]) النوادر والزيادات:1/350.

([11]) مناهج التحصيل:1/253.

([12]) سورة المزمل: 20.

([13]) الحديث الأول والثاني في صحيح البخاري كتاب الأذان باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها، في الحضر والسفر، وما يجهر فيها وما يخافت.

([14]) صحيح مسلم كتاب الصلاة باب وجوب القراءة في كل ركعة.

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. لماذا بدأ أبو زيد مباشرة بنواقض الوضوء دون تعريف الوضوء مثلا؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق