مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

قصة رحلة الإمام ورش إلى نافع قارئ المدينة

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وبعد:

لا شك أن للرحلة في طلب العلم فضلا كبيرا، فإنّ العلمَ يكون مؤنسا له في الوحدة، ووطنا في الغربة، وشرفا للوضيع، وقُوة للضّعيف، ويسارا للمُقتر، ونباهة للمغمور حتى يُلحقهُ بالمشهور المذكور.

هذه الرِّحلة كانت سببا في بُروز وشُهرة علَم من أعلام القراءة، ألا وهو الإمام عثمان بن سعيد المصري، الملقب بورش (ت197ه‍)، حيث رحل إلى المدينة النبوية سنة خمس وخمسين ومائة ليقرأ على نافع بن أبي نعيم (ت169ه‍)، وكان الازدحام على الإمام نافع في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم شديدا، فاحتال نافعٌ لورش فختم عليه ختماتٍ، وقد أورد هذه القصةَ جمعٌ من المصنفين، فقد أوردَها مطولةً موسى بن الحسين المعدل في الروضة(1)، وياقوتُ الحمويّ في معجم الأدباء(2)، والحافظ الذهبيُّ في معرفة القراء الكبار(3)، وابنُ آجرّوم في فرائد المعاني(4)، وأوردها مختصرةً أبو القاسم الهذلي في كتاب الكامل(5)، وأبو الحسن علم الدين السخاوي في جمال القراء(6)، وابنُ الجزري في غاية النهاية(7).

وقد أسندها الذهبي من طريق أبي عمرو الداني، – ولعله نقلها من طبقات القراء له – عن علي بن الحسن وعلي بن إبراهيم وأبي محمد الإمام، قالوا: حدثنا محمد بن علي هو الأدفوي(8)، حدثني محمد بن سعيد، عن أبي جعفر أحمد بن هلال، حدثني محمد بن سلمة العثماني، وذكرها ابنُ آجروم عن محمد بن سلمة العثماني دون ذكر إسناد القصة، ولعلها من طريق أبي عمرو الداني كذلك، وأوردها أيضا ياقوت الحموي عن محمد سلمة العثماني من طريق الحافظ أبي العلاء الهمذَاني العطار لكن دون ذكر إسنادها، ولفظ القصة جدُّ متقارب بين ابن آجروم وياقوت الحموي، وإليكم هذه القصة الطريفة بلفظ ابن آجروم من كتابه فرائد المعاني:

قال رحمه الله:

«وعن محمَّد بن سلمة العثماني قال: قلتُ لأبي سلَمَةَ: أكان بينك وبين ورشٍ مودَّةٌ؟

قال: نعم.

قال: كيف كان مقرأُ ورشٍ على نافع؟

قال: قال لي ورْشٌ: خرجتُ من مصر إلى المدينة لأَقرَأ على نافع، فلما وصلتُ إلى المدينة، صرتُ إلى مسجد نافعٍ(9)، فإذا هو لا تُطاقُ القراءةُ عليه من كثرة أبناء المهاجرين والأنصار، وإنما هو يُقرئُ ثلاثين، فجلستُ خلف الحلْقَةِ، فقلتُ لإنسان إلى جانبي: مَن أكبَرُ الناس عند نافع؟ فقال لي: كبيرُ الجعفريين، قال: فقلت: كيف به(10)؟ فقال: أنا أجيءُ معك إلى منزله، فقام الرجلُ معي حتى أتى منزلَ كبير الجعفريِّين، فَدَقَّ البابَ، فخرَجَ إلينا شيخٌ تامٌّ من الرجال، فقلتُ: أصلحَكَ الله، أنا رجلٌ من مصرَ، جئتُ لأقرأ على نافع، فلم أصِلْ إليه، وأُخبِرْتُ أنك من أصدق الناس له، وأنا أريدُ أن تكون الوسيلةَ إليه، قال: فقال: نعَمْ وكرامةً، فأخذ طيلَسَانه، ومضى معنا إلى منزل نافع، وكان نافعٌ له كنيتان: كان يُكنى أبا رُوَيم، وأبا عبد الله، فبأيهما نودِيَ أجابَ، فقال له الجعفريُّ: إنَّ هذا وسيلتي إليك، جاء من مصرَ ليقرأ عليك، ليس معه تجارةٌ، ولا جاء للحج، وإنما جاء للقراءة خاصةً، فقال نافعٌ لصديقه الجعفري: ترى ما أَلْقَى من أبناء المهاجرين والأنصار؟! قال: فقال صديقه: تحتالُ له! قال: فقال لي نافعٌ: أيمكنُكَ أن تبيت في المسجد؟ قال: قلتُ: نعَم، إنما أنا إنسانٌ غريبٌ، قال: فبِت في المسجد، فلما كان الفجرُ، تقاطرَ الناسُ ثم قالوا: قد جاء نافعٌ، فلما أن قعد قال: ما فعل الغريب؟ قال: قلتُ: ها أنا ذا يرحمُكَ الله، قال: أَبِتَّ في المسجد؟ قلتُ: نعَم، قال: فأنت أولى بالقراءة، قال: وكنتُ مع ذلك حسنَ الصوت مَدَّاداً به، قال: فاستفتَحْتُ، فَعَلاَ صوتي مسجدَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقرأتُ ثلاثين آيةً، فقال بيدِه: أن اسكُتْ، فسَكَتُّ، فقام إليه شابٌّ من الحلْقة فقال: يا مُعَلِّمُ: أعزكَ الله، نحن معك، وهذا رجلٌ غريبٌ، وإنما وصل(11) للقراءة عليك، وأنت تُقرِئ ثلاثين آيةً، وأنا أحبُّ أعزك الله أن تجعلَ لي فيه نصيباً، وقد وهبْتُ له عشراً، وأقتصرُ أنا على عشرين، وكان ذلك الفتى ابن كبير المهاجرين، فقال: نعَم وكرامةً، ثم قال: اقرأ، فقرأتُ عشراً، ثمَّ أومأ إليَّ بيده أن اسكُتْ، فسَكَتُّ، فقام إليه فتىً آخرُ فقال: يا مُعَلِّمُ: أعزَّكَ الله، إني أحبُّ أن أهب لهذا الرجل الغريب عشراً، وأقتصر أنا على عشرين، فقد تفضل عليه ابنُ كبير المهاجرين، وأنت تعلم أني ابنُ كبير الأنصار، فأحببتُ أن يكون لي أنا أيضاً مثل ما له من الثواب، فلما أن قرأتُ خمسين آيةً، حتى لم يبقَ أحدٌ ممن له قراءةٌ(12)، قال لي: اقرأ، فأقرأني خمسين، فما زلتُ أقرَأُ عليه خمسين في خمسين، حتى قرأتُ عليه ختَماتٍ قبل أن أخرجَ من المدينة»(13).

  • روضة المعدل 1/ 369-371.
  • (2)  معجم الأدباء 4/ 1602-1603.
  • (3)  معرفة القراء الكبار 1/ 324-326.
  • (4) فرائد المعاني السفر الأول (لوحة 41-42) مخطوط محفوظ بالخزانة العامة بالرباط برقم 146ق.
  • (5) الكامل 1/ 175-176.
  • (6) جمال القراء 1/ 532، ونحوها عند عبد الوهاب بن وهبان المزي في أحاسن الأخبار ص 228.
  • (7) غاية النهاية 2/ 503.
  • (8) أسندها المعدل من طريق أبي الحسن المصاحفي عن الأدفوي.
  • (9) في الروضة: إلى مجلس نافع.
  • (10)                  في معجم الأدباء والمعرفة : كيف لي به.
  • (11)                  في معجم الأدباء والمعرفة: رحل.
  • (12)                   زاد في معجم البلدان: إلا.
  • (13)                   والقصة مختصرة عند الهذلي في الكامل، قال رحمه الله: «قال أبو يعقوب الأزرق: لما دخل ورشٌ المدينة، وكان نافع يؤخذ عليه السبق بالليل، فنام في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أتى نافعٌ عند الأذان وصلى ركعتين، أخذ ورشٌ السبقَ فقرأ عشرًا، فسمع المهاجرون والأنصارُ قراءتَه، فما زال كلُّ واحد يهبُه سبْقَهُ حتى قرأ مائة آية، فقُدِّم على أصحاب نافع بكمالهم». وكذلك هي مختصرة عند ابن الجزري في الغاية، قال رحمه الله: « ورُوِّينا عن يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا ورش وكان جيِّد القراءة، حسن الصوت، إذا قرأ يهمز ويمدُّ ويشدّد ويُبيِّنُ الإعرابَ، لا يَمَلُّه سامعُه، ثم سرد الحكاية المعروفة في قدومه على نافع، وفيها: فكانوا يهَبون لي أسباقهم حتى كنت أقرأ عليه كل يوم سبعًا، وختمت في سبعة أيام، فلم أزل كذلك حتى ختمت عليه أربع ختمات في شهر وخرجت».

ذ.سمير بلعشية

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق