الرابطة المحمدية للعلماء

حول التفاعل مع النصوص القرآنية قديما وحديثا..

في استحضار السياقات الفكرية والاجتماعية للمناهج التفسيرية للنص القرآني

اختتمت بالعاصمة التونسية الأحد الماضي ندوة علمية دولية حول موضوع قراءة النص القرآني قديما وحديثا نظمها المعهد العالي للحضارة الإسلامية التابع لجامعة الزيتونة ويشارك فيها عدد من الباحثين من عدة دول عربية، حيث بحثت الندوة على مدى ثلاثة أيام مواضيع تتعلق بأهم المناهج التفسيرية للنص القرآني من خلال تناول أبعادها وسياقاتها الفكرية والاجتماعية فضلا عن مقاربات عدد من العلماء الغربيين والمستشرقين في هذا الخصوص.

وتناولت الندوة خمسة محاور مهمة ذات صلة بالمناهج الحديثة وإشكالية القراءة ومسألة القراءة الفقهية والأخرى الأصولية للنص القرآني، إضافة إلى مداخلات نظرت في القراءة الكلامية والصوفية للنص القرآني وعلاقة هذا النص بالتاريخ، وصولا إلى التطرق إلى بعض إشكاليات القراءة الحديثة للنص القرآني، وهكذا، أبرز عبد الجليل سالم منسق الندوة، أحد وجوه الانفتاح في جامعة الزيتونة، في ورقته، أن الحضارة الإسلامية ليست  برمتها إلا صنيعة النص القرآني الذي لم يكن نصا عاديا في تصور المسلمين وغيرهم لأنه كلام الله تعالى المنزل بواسطة جبريل عليه السلام، ومن ثم اكتسب مشروعية لا ينازعه فيها مصدر آخر. إلا أنه كان كتابا، قابلا لتعدد القراءات متعدد المعنى، نظرا إلى أن لغته وطبيعتها تستحث الذهن على اقتحام مغامرة التفسير والتأويل. وأضاف الباحث نفسه قائلا: “فالقرآن نص لغوي ذو بعد غيبي يختلط فيه القدسي بالثقافي.. صيغت معانيه بلغة مخصوصة دقيقة اصطلح عليها العرب، لذلك كان المعنى الغيبي المفارق يفيض على اللفظ اللغوي المتعارف عليه في لسان العرب، بمعنى أن المدلول كان أوسع من الدال، أي كان المعنى فيه أوسع من الكلمات”.

أما محاضرة إلياس قويسم، فقد تناولت مآلات دنيوية النص القرآني في الفكر العربي المعاصر ووصف المفكر الحداثي بـ”الأصولية المنهجية”، وذلك لتمسكه بالمنهج الأدبي في تعامله مع النص القرآني، فهو يتعامل مع أصوله ومناهجه كأقانيم معرفية أزلية لا يطالها التغيير أو التحوير، وهنا بالضبط تكمن نقطة ضعفه، لأنه، حسب صاحب المداخلة، مع توظيف منهج واحد في دراسة ظاهرة متشعبة، سيتراءى لنا كثير من الفراغات والنتوءات في نتائج الدراسة، فهذا المنهج قد برز بعيدا عن منطقة النص الديني؛ إذ أسس لدراسة النص الأدبي من وجهة نظر معينة ونتيجة لرغبة ملحة في القرن الحالي على تجاوز “المنطق القروسطي” في دراسته للنصوص، ومن ورائه تصوره للكون، أي وحدة المعنى المعبرة عن وحدة الإله، لكن المنطق الحديث قد آثر القطيعة مع كل هذه التصورات الأدبية والدينية، وعمد إلى قلب الموازين لصالح الواقع ومن ورائه لصالح المتلقي من خلال تغييب المرسل، واعتباره ميتا منذ لحظة تلقي القارئ للنص. هذا يفترض أن مثل هذه المناهج الدخيلة قد لا تستجيب تماما لطبيعة النص، ولا يمكن، من ثم، توظيفها لفهم النص. من منطلق هذه المقاربة رأى قويسم أنه كان من واجب نصر حامد أبو زيد أن يعتبر جهوده مجرد اجتهاد يدخل ضمن منظومة تجديد الرؤية للنص الديني، وأن هذه الرؤية لها إمكانية النجاح وكذلك الإخفاق، نظرا لأن مساحة الضوء التي يلقيها منهجه لا تضيء المناطق المعتمة في النص، ولا تتوغل في كل تضاريسه وطبقاته. بهذه النظرة النسبية، يمكن أن تصبح مقولة نصر حامد أبو زيد قابلة للتوظيف: «الوعي العلمي بالنص القرآني، والفهم الموضوعي له»، وأن استحالة تطبيق هذه المقولة كان مرده تلك الأصولية، بحيث لا يمكن أن تتواءم العلمية بالآيديولوجيا. واعتبر قويسم أن نصر حامد أبو زيد، قد عمد إلى استبدال خصوصية النص القرآني وهويته بأن ألحقه بالنص الأدبي وتعامل معه بالطريقة نفسها، والحال أن لكل نص هويته؛ فإنزال النص الإلهي منزلة النص البشري، له غاياته، لأن نصر حامد أبو زيد بتطبيقه منطق الجدل والتناقض يسعى إلى طمس معالم الإلهي وأنسنة النص، من خلال إفقاده صفة الثبات، الفاتحة لمنطق التحلل من الأحكام، نظرا لطبيعة التغير التي تحكم العالم، وهو تشريع من قبله للهروب، ولحرب إيديولوجية، فاستعمال منطق الغائب من طرف السلفي قابله استخدام منطق الشاهد وتوظيف القدسي والإلهي، وقابله بالدنيوي والإنساني.

أما يوسف بن سليمان فقد جاء في ورقته أن الحضارة الإسلامية قد وصفت بأنها حضارة النص، لأنها قامت في أصولها الأولى على نص تأسيسي هو القرآن الكريم. ولم يكن القرآن نصا عاديا في وعي المسلمين، لأنهم يعتقدون أنه كلام الله المنزل بواسطة الوحي، لذلك كان عندهم ذا مشروعية عليا لا ينازعه فيها مصدر آخر. غير أنه كان نصا إشكاليا، ليس بسبب ما فيه من متشابهات فحسب، بل لأنه ثري ومتعدد المعنى، أي إنه قابل لتعدد القراءات؛ إذ إن بنيته اللغوية تستحث الذهن على اقتحام مغامرة التفسير في مستوى أول ثم التأويل في مستوى أرقى. فهو ظاهرة لغوية ذات بعد غيبي يمتزج فيها القدسي بالثقافي.. صيغت معانيه الغيبية بلغة منحوتة اصطلح عليها بشر هم العرب، لذلك كان المعنى الغيبي المفارق يفيض على اللفظ اللغوي الذي تعارف عليه أهل اللغة، أي إن المدلول كان أوسع من الدال، أو كان المعنى فيه أوسع من الكلمات. وإذا كان مصدر القرآن الكريم غيبيا مطلقا فإن الإنسان محكوم بأن يقرأه في ضوء نسبيته وفي إطار معارفه وظروفه التاريخية المتحولة. ومن هنا تعددت القراءات للنص القرآني الكريم، بحسب تعدد منطلقات القراءة، فكانت القراءات الفقهية اللغوية المتخصصة، والقراءات الفلسفية الإشكالية، في حين تطرّق محمد الحبيب العلاني إلى موضوع المنهج البنيوي في التفسير القرآني، مبرزا أن قراءة البنيوية للنصوص في مختلف حقول العلوم الإنسانية قد فتحت فتوحا جديدة في مجال الدراسات اللغوية والأدبية والنفسية والاجتماعية.. وغيرها من الدراسات ذات الصلة بالإنسان، كما يسرت التعاطي مع المدونات القديمة والحديثة عبر التفكيك والتركيب وفق خصائص تلك النصوص، مستجلية المسكوت عنه داخل النص، معتبرة السياق الحاف بالنص، معتمدة على مختلف البنى التي تنتظمه للبحث والنظر والاستنتاج وفق نظام الدوال الذي يتألفه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق