مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

حكميات عطائية: ادفِنْ وُجُودَكَ فِي أَرضِ الخُمُولِ، فَمَا نَبَتَ مِمَّا لَم يُدفَنْ لَا يَتِمُّ نِتاجُهُ

     لقد أشار سيدي ابن عطاء الله السكندري إلى السبيل لتحقيق الإخلاص الذي ضمنه في الحكمة السابقة، أي قوله: “الأعمال صور قائمة وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها”، فعبر بمصطلح “الدفن” كناية على عدم الظهور وإيثار الخفاء على الاشتهار، لكونه معينا للمريد على التحقق بالإخلاص. والاشتهارُ أو الشهرة لا تتوافق وتحقيق الإخلاص في حق المبتدئين بخلاف من رسخ قدمه في بحار المعارف.

     والخمول هو: ضعة النفس في المنازل، عندما يتكرع القلب في المناهل، فيتحرونه ويستديمون التخلق به حتى يكون لهم التواضع خلقا وحالا، فلا يجدون ألم ضعة النفس، بل يستمرئونه، ويستحلون ذوق الذلة[1]، أي ذلة العبودية لله.

      وإضافة الأرض إلى الخمول، من إضافة المشبه به إلى المشبه أي الخمول الذي هو للنفس كالأرض للميت في التغطية التامة، والإخفاء الذي لا ظهور معه بالكلية. وهذه أيضا تسلية أخرى لمن فاته شيء من عمل الجوارح لنزول أمر قهري، بأنه يحصلُ لهُ هذا الأمر المهم الأكيدُ الذي هو الخمول، لأن الأمور القهرية لا تبقى معها دعوى ولا عظمة للنفس، بل تصغُر معَهَا وتَتَّضِع وتخمُل[2].

     وما ذكره سيدي ابن عباد عن الإمام أبي حامد من جواز التوصُّل للخُمُول بأشياء منكرة في ظاهر الشرع[3]، اعترضه سيدي زروق: «بأن ما هو ظلمة بالذات لا يصح أن يكون نورا بالعرض. قال: فقياس تحصيل الخمول بالمحرم على مَن غُصَّ بلقمة لا يجد لها مساغا إلا بجرعة خمر، لا يصح، لأن المحرم لا يباح لنفي مكروه. وقوله: إن هذا تفوته حياة فانية وذاك حياة باقية مردود بأن ذلك معين على قتل نفسه، فالحياة الباقية تفوته بفعله، والآخر إنما يفوته كمالها فافهم»[4] اهـ.

     ثم بين ابن عطاء الله السكندري فائدة الدفن ومثَّل له بأمر محسوس لوقعه على النفوس وأنه أكثر تعبيرا من الاقتصار على التنظير وهو المشاهد في الزرع وما في معناه، فإنه لا ينتج منه إلا ما دفن، وما لم يدفن لا ينبتن وإن نبت فلا ينتج وإن أنتج فلا يتم نتاجه وإن ظهر نوره وابتهاجه؛ وكذا ما ظهر من الأعمال وما بطن منها.

     ولذلك أنشد الشيخ أبو العباس أحمد بن عقبة الحضرمي:

                                     عش خامل الذكر بين الناس وارض به                     فــذاك أســلـم للـدنـيـا وللـدين

                                     مـــن عاشـر الناس لـــم تسلـــم ديـانـتــه                     ولم يزل بين تحريك وتسكين[5]

     وكما لا يصح دفن الزرع في أرض رديئة لا يصح الخمول بحالة غير مرضية، وهو ما كان محرما متفقا عليه لأن ما كان ظلمة بالذات لا يصح أن يكون نورا بالعرض كما تقدم.

     ومعلوم أن هذه المعاني مستقاة من الكتاب والسنة وليست ضربا من التخيلات والتأملات المجردة، فإن دليل فضل الخمول من الكتاب العزيز قوله تعالى:

     ﴿تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا﴾ [سورة القصص، الآية:83] إلى غيرها من الآيات الدالة على فضيلة الخمول، والتقلل من الدنيا.

     وأما الدلائل من السنة المطهرة، حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نوه فيه بأويس القرني رضي الله عنه، وأشاد ذكره، ونبه فيه على عظيم أمره، قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلقة من أصحابه؛ إذ قال: “ليصلین غدا معكم رجل من أهل الجنة” ، قال أبو هريرة رضي الله عنه : فطمعت أن أكون أنا هو ذلك الرجل، فغدوت فصليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فأقمت في المسجد حتى انصرف الناس، وبقيت أنا وهو، فبينما نحن كذلك؛ إذ أقبل رجل أسود متَّزر بخرقة ومرتد برقعة، فجاء حتى وضع يده في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا نبي الله؛ ادع الله لي بالشهادة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم له بالشهادة ، وإنا لنجد منه ريح المسك الأذفر .

     فقلت: يا رسول الله؛ هو هو؟ قال: “نعم؛ وإنه لمملوك بني فلان”، فقلت: أفلا تشتريه فتعتقه يا نبي الله؟

     فقال: “وأنَّى لي بذلك؛ إن كان الله تعالى يريد أن يجعله من ملوك الجنة وساداتهم؟ يا أبا هريرة؛ إن الله عز وجل يحب من خلقه الأصفياء الأخفياء الأبرياء، الشعثة رؤوسهم، المغبرة وجوههم الخمصة بطونهم من كسب الحلال، الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم، وإن خطبوا المنعَّمات لم يُنكحوا، وإن غابوا لم يُفقدوا، وإن حضروا لم يُدعَوا، وإن طلعوا لم يفرح بطلعتهم، وإن مرضوا لم يُعادوا، وإن ماتوا لم يشهدوا”

     قالوا: يا رسول الله، كيف لنا برجل منهم؟ قال: “أويس القرني (…)”، وقال: “يكون في أمتي رجل يقال له أويس القرني، يدخل في شفاعته عدد ربيعة ومُضَر[6]

وحديث : أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك”[7].

     وليس معنى الخمول عدم الشهرة عند الخلق فقط، بل هذا نوع منه، وقد يدخل الرياء على صاحبه، ومن أنواعه أيضا النظر إلى عيب النفس الطارئ عليها، أي ارتكاب المخالفات والمعاصي، فتَتَّضِع ولا تبقى لها عظمة عند استحضار ذلك، فلا يطلب صاحبُها لها المنزلة في القلوب مع ذلك، بل يشتغل بِطلَب سلامَتِها.

     ومن أنواعه أيضا، النظر إلى عيب النفس الأصلي الذاتي من الفقر اللازم، والعجز الدائم، والضعف الملازم إلى غير ذلك من صفاتها، فلا تبقى لها مزية عند صاحبها، فلا يطلب لها المنزلة وهي متصفة بتلك الرذائل[8]

وفي هذه المعاني قيل:

ادفن وجودك وغب في أرض مسكنة                          منكش الرأس باكي العين ذا حزن

وفـــارق الأهل والجـيـران مــنـتـزحا                          عــن الـتـأنـس بـالمألوف والـوطن

لا تـلـو عــن جــيـرة الـوادي فــإن بـه                         حور المعارف يخطبها ذوو الفطن[9]              

الــهــوامـــش

[1]– “شفاء السقم وفتح خزائن الكلم في معاني الحكم”، لأبي محمد علي باراس الكندي الحضرمي الشافعي (ت:1094هـ)، دار السنابل، ودار الحاوي، ط1/2016م، ص:150.

[2]– “شرح الحكم العطائية لابن زكري” لطارق العلمي، رسالة دكتوراه، مرقون، ص:138.

[3]– “غيث المواهب العلية” لابن عباد الرندي، ص:22- 23.

[4]-“شرح الحكم العطائية”  لأحمد زروق، ص:30

[5]– “شرح الحكم العطائية” لأحمد زروق، ص:36

[6] سير أعلام النبلاء: الذهبي، (4/32)، وحلية الأولياء: الأصفهاني (2/81)

[7] “سنن الترمذي”، باب مناقب البراء بن مالك، رقم: 3854. (6/175)

[8] “شرح الحكم العطائية لابن زكري” ص:139.

[9] “شفاء السقم” للشيخ باراس، ص:158.

Science

ذ. محمد المنصوري

باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق