مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

(تكريم الإنسان) من وحي الأضحي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد فلا زالت بنا نِعم الله تترى، وعلينا ألطاف ربنا تتوالى، رافلين أمس في صيام وابتهال، واليومَ في تكبير وتحميد، سيما وقد ترادف لنا هذا العام عيدان: ففي الخميس القابل عيد الأضحى المكرم، يليه عيد الجمعة الأبرك: لهذا ذكرى هبوط آدم خليفةً في الأرض عن الله تشريفا وتكريما، وذكرى إكمال الدين وكماله تشريعاً وتعليما. وللأضحى ذكرى الفداء لأبينا إسماعيل، والإكرامِ بعد البلاء لأبينا إبراهيم: ﴿وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم﴾ [الصافات: 107]

وكلاهما رمز لتكريم الإنسان من قبل الله استخلافا وافتداء، وآيةٌ على سمو مكانته عند بارئه خلقا وخلقا؛ حتى نفخ فيه من روحه، وأسجد له من ملائكته، واستفاض في قصة خلقه، وبيان تكوينه، ومراحل تطوره من المنشإ إلى المصير، ومن المبدإ إلى المنتهى، دلالةً على تمام الاحتفاء، وإشارةً إلى سمي تكريم واجتباء:

تكريمٍ للإنسانية تتجلى مظاهره في خِلقة هي أشرفُ صورة للخليقة: ﴿صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة﴾ [البقرة:138] ويتبدى في نفسٍ إنسانيةٍ تربو على قوى الخليقة الخمس: الحس والحركة، والاغتذاء والنمو والتوليد، بقوة عاقلة، مدرِكة لحقائق الأشياء ونِسَبِها تصوراً وتصديقا: قد تجلى فيها نورُ معرفة الله، وأشرق فيها ضوءُ كبريائه، ومن خلالها تتشوف البشريةُ إلى كمين أسرارٍ في الخلق والتشريع.

واجتباءٍ يتجلى في تسخير الله لنا الكونَ برمته: بسيطُه كالأرض والماء، والنار والهواء، ومركبُه كالمعادن والنبات، والآثار العلوية، والموجودات الحيوانية: فالعالم برمته جارٍ مجرى إقامة متينةِ الانتظام واسعةِ الأطراف، فسيحةِ الأرجاء، هُيئت بجميع منافعها ومصالحها للإنسان، وهو فيها رئيس مخدوم، ملك مطاع: يغير فيها ويبدل، يُنتج فيها وينشئ، يركِّب فيها ويحلل، فيبلُغ بها الكمال المنشود، والرقي المقصود ﴿ وسخر لكم ما في السموت وما في الأرض جميعا منه، إن في ذلك لآيت لقوم يتفكرون﴾[الجاثية:13]

إنما ترون للإنسانية من تلك المراتب العالية، والصفات الشريفة السامية، إنما حصلت لها بإحسان الله وإنعامه في أول الخلق والتكوين ﴿ولقد كرمنا بني ءادم﴾[الإسراء:70]، وفي أثناء التربية والتعليم ﴿اقرأ وربك الأكرم﴾[العلق:3]، وفي خاتمة المطاف والمسير ﴿ياأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم﴾[الانفطار:6]: فالبشرية إذن مشمولةٌ بدءاً وانتهاء بإكرام وتكريم من رب كريم، فلا استمداد للكرامة إلا منه، ولا تشريف للإنسان إلا بالافتقار إليه، وتمام الصلة به: حتى يكون قلبُه مستنيرا بمعرفة خالقه، ولسانُه مشرَّفا بذكر بارئه، وجوارحُه مكرَّمةً بطاعة مُنشئه: وقَّاف عند حدود الله، يُحل ما أحله الله، ويُحرِّم ما حرم الحق سبحانه: ﴿وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون﴾[الذاريات: 56]. وكيف لا نعبده ولا نتصل به وقد صان كرامتنا، وضمِن في التشريع حقوقنا: حق الحياة والعمل، حق الحرية والتعليم، حق التملك والاختيار، وسواها في موسوعة حقوقية تفوق في الإتقان والضبط والتوازن ما تُفاخِر به منظماتٌ ومؤسسات، ما ودع منها أي شيء، ولا ترك فيها مجالا للتعقيب، أَجْمَلَها نبي الله في حجة الوداع، يوم الأضحى عاشر ذي الحجة، وأمام جمع غفير، قائلا: ﴿إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم، حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا﴾ [صحيح البخاري، رقم7078]: فما بالُ فئة من الناس قد هانت عليهم الدماء، فنشبت بينهم العداوة والبغضاء، سفكا واجتثاتا، وهانت لديهم الأعراض فولغوا فيها سبابا وانتهاكا، وهانت عندهم الحقوق والحرمات: فجادلوا في دين الله هُزْؤاً ومراء، وعاثوا في أموال الناس فسادا، وسعوا في أرض الله خرابا؛ إعراضا منهم عما حفظه الله وصانه؛ تكرمةً للإنسان من الأنفس والأموال، والدماء والأعراض، قالت الحكماء: «فليكن حظ المؤمن ـ والإنسان ـ منك ثلاثة : إنْ لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تُفرحه فلا تَغمه، وإن لم تمدحْه فلا تذمَّه»،[الزهد والرقائق للخطيب:14] فذلك المؤمنُ حقا، والمسلم صدقا: أدرك كرامةَ الإنسان فرعاها، وقداسةَ عرضه فوقاها، وحرمةَ ماله فاتقاها؛ امتثالا لدينه، وتنفيذاً لوصاةِ نبيه، في مثل هذه الأيام في حجة الوداع من قوله: ﴿ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمِنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلمُ من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمجاهد من جاهَد نفسه في طاعة الله، والمهاجر مَن هجَر الخطايا والذنوب﴾[صحيح ابن حبان، رقم 4862 وأصله في البخاري]: ﴿أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون، وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون﴾

 

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق