مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

تفصيل عِقد أسانيد الإقراء بتمييز الفَرْق بين مقام القراءة وسَرْدها وبين تجريد الحروف ورواية أوجه الأداء من غير تلاوة، على جهة الاختصار

حَمْداً لله الذي فَرَقَ القرآن ونَجَّم آيَهُ، وأَنْشَـرَ مَثانِيَهُ وفصَّل بيانه، فقال جَلَّ في عليائه: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا اَلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِر)؛ معونةً للمُدْمِن الذّاكر ومِنَّةً عليه، لمّا الْتمس وَجْهه وإعرابَه وأَمْعن عِلاجَه؛ فَتَمَكَّثَ في تلاوة مُتنزَّل حروفه، وتَدَبَّر أحْيازَ بُنودِه وحدودِه، وتَحفَّظ أنحاءَ عقوده وفروضه، وصلوات ربنا وسلامه على المقرئ المُوَقِّف الأمين، ذي البلاغ الأَبِيِّ المكين، ورائد الوعْد الأَتِيِّ الضَّمين، وعلى آله وصحبه والتابعين.

وبعد؛ فهذه معاهدُ نُكَتٍ إسنادية روائية كافلة، تستجْلي أنماط تحمُّل ألفاظ القرآن العظيم عند جِلَّة الأشياخ الحفَّاظ المتقدِّمين، ثم تستقْري طرائق استيعابهم أوجهَ كَلِمه، وتقييد أوابد مَنطِقه، وتعيين ما نَدَّ من مُغَيَّب أصواته ولهجاته (عَرْضا، سماعا، روايةً، مكاتبةً، وِجادةً، …)، فقد ضُمِّنتْ رسومُها (أنماط التحمُّل وطرائقه) في رِقاع الإجازات [[1]] المسلسلة الأدائية، إذ تلقّوها كابراً عن كابر، وتقلَّدوها مَلِيّاً عن وَفِيٍّ مُثابر، مِن مَطلعها إلى مَقطعها متصلةً بشرطها، كما صُدِّرتْ بها مُضَمَّناتُ مُصَنِّفي الحروف القرائية مثل: سبعة ابن مجاهد (ت‍ 324 ه‍)، وغاية ابن مهران (ت‍ 381 ه‍)، وتبصـرة ابن أبي طالب (ت‍ 437 ه‍)، وتيسير أبي عمرو الداني (ت‍ 444 ه‍)، وكافي ابن شريح (ت‍ 476 ه‍) وإرشاد القلانسـي (ت‍ 521 ه‍)، وغاية الهمَذاني (ت‍ 569 ه‍)، وحِرْز أبي القاسم الشاطبي (ت‍ 590 ه‍) …؛ فهذه لا إشكال في أن ما تضمنته من القراءات؛ مقطوع به، إلا أحرفا يسيرة، يعرفها الحفاظ الثقات والأئمة النقاد [[2]]، كما بُثَّتْ أسانيدها (الأنماط) وطرق تحمُّلها (الأدائية أو التحديثية) في دواوين الطبقات وتراجم وُعاة القراءة وأَنباه رُواة فنونها، وحُفَّتْ – من جوانبها – بحِسان مخارج الأخذ الروائية، وبما يَشُدُّ حَبْل عَزْوها ويوثِّق مَنابت عُروقها وما إليه، مثل: معرفة القراء الكبار للذهبي (ت‍ 748 ه‍)وأحاسن الأخبار لابن وهبان(ت‍ 768 ه‍)وغاية النهاية لابن الجزري (ت‍ 833 ه‍) وغيرها.

وسياقة الحديث في هذه المقامة؛ إلى ضبط الفرْق في تحمُّل أوجه القرآن العظيم المرويَّة بين ما تُلُقِّيَ على جهة العرض والسماع إحاطةً واستيعاباً، وبين الذي اقْتُصـر في أخذه على أعيان الحروف المختلف فيها عن الأئمة (موضعاً وصفة وكيفية …)، من غير تلاوة مطَّردة أو سَرْد متتابع جامع، وعليه؛ فإنَّا أمام وضعين مختلفين من أوضاع الأخذ والتوقيف والتحمُّل: الوضع الأول: إسناد القراءة أو إسناد الأداء أو إسناد التلاوة، ويراد منه:قراءة القرآن أجمع، والوضع الآخر: إسناد الرواية أو إسناد التحديث أو إسناد النصِّ، والغاية منه: رواية نص الكتاب المتضمِّن قراءةَ إمام من الأئمة السبعة أو العشـرة أو من فوقهم على الشيخ، وهو على شيخه مسلسلاً، كذا إلى المنتهى، مثل قراءة نص التيسير أو الكافي أو الإقناع أو النشر …، فالفرق بين الوضعين؛ كَمِنٌ في أنَّ الأول قراءة متن الكتاب المضمَّن، والآخر رواية القراءة أي تحقّق تلاوة القرآن، ولأجل ذلك؛ فإن القارئ عندما يروم سند التلاوة إلى إمام من أئمة القراءة، فإنه لا يقتصـر في الأخذ بسند قراءته على نص الكتاب ومتنه، كلا ! بل يجنح إلى سند قراءته بمضمَّن الكتاب ويَرْكَن إليه، حتى يُسْلِمه إلى سند مؤلف الكتاب ثم يُفْضي به إلى أئمة الأمصار.

ولعل أوضح شاهد على ما قيل؛ ما نجد في صنَع أبي عمرو الداني في التيسير، وكذا ابن الجزري الذي جرى على سنَنه في تحبير التيسير، فيما يتعلق بإسناد الرواية مع إسناد القراءة منه إلى الإمام، إذ نجده قد أسند الرواية إلى كل إمام من السبعة مثلما أسند القراءة إليه على جهة الرعاية في التأدية وفَكِّ عُهدة الرواية، وعليه؛ فالاعتماد في التحمل والأخذ أن يكون بالعرض للقرآن الكريم أو السماع له من بدْئه إلى خَتْمه ترسُّلا، قال ابن شريح (ت‍ 476 ه‍) في شأنرواية (الكافي) له: (واقتصـرت فيه (يريد من أحرف الخلاف) على ما قرأت به قراءة، وأضربت عما أخذته رواية، وقصدت فيه (أي كتاب الكافي له) إلى أقرب أسانيدي وأرفعها) [[3]]، كما قد يكون بالاقتصار على تحصيل مواقع الخُلْف القرائي بأعيانها وإحراز خَفيِّ هيئاتها وصفاتها وما إليه، إذْ يتعرَّض التلميذ الآخذ لشيخه بالسؤال عن وجوه القراءة معزوَّة لأصحابها، وذلك بعدما يُتقنها قبلُ بحفظ مضمَّن أو مذاكرة كتاب أو ما أشبه، فيقرؤها على الشيخ رغبةً في الإسناد، أو يسردها عليه الشيخ مِنْ فَلْقِ فيهِ سَرْداً، فيتحمّلها التلميذ بعدما سمعها ولَقِنَها؛ فيؤديها بحضرته فيقيم الشيخ زَلَّته ويدفع سَقْطته، فيكون بعد ذلك راويا مُسنِداً، إذ الكتب والصحف غير محيطة بالحروف الجلية، ولا مؤدِّية عن الألفاظ الخفيَّة، والتلاوة محيطة بذلك ومؤدية عنه [[4]]، وعلى هذا جرى عمل رواة القراء من الأشياخ المعتبرين والجِلَّة المتصدِّرين، فلم يُعَدَّ ذلك مَعَرَّةً في روايتهم ولا حَطّا من شأنهم أو اطِّراحاً لأسانيدهم ومخارج أخذهم أو ما أشبه، لإيقانهم بأنَّ سؤال الحروف حَرفاً حَرفاً بمنزلة سماع القرآن وعرضه سَرداً، خاصة إذا تعلَّق الأمر بتمام حال الآخذ العالم المختبر الممارس، الذي اكتملت ثقافته ودرايته، واستوسقت أهليته للنقد والبَصَـر، واستجمع مع ذلك شرائط الرواية المعتبرة، فمثْل هذا يُقَلَّد الحروف ويؤدّي حكايتها ولا اعتراض عليه من هذه الجهة، متى توفَّرت له سابقةُ المعرفة الفاقهة بظواهر القراءة ودقائق شؤونها، مع متانة الديانة وسابغة الفضل والصيانة، ولا يَضير المُؤْتَسي المتأمِّل ما ثبت عن حمزة بن حبيب الزيات (ت‍ 156ه‍) وردِّ بعض الناس [[5]] لقراءته عن الأعمش (ت‍ 148ه‍)، أو مثل الذي جاء في بعض طرق أبي بكر بن عياش عن عاصم، وتلك طريق يحيى بن آدم، فقد قال أبو هشام محمد بن يزيد الرفاعي: حدثنا يحيى بن آدم قال: سألت أبا بكر بن عياش عن حروف عاصم أربعين سنة؛ فحدثني بها، وحدثني أن عاصما أقرأه هذه الحروف كلها [[6]]، قال الداني: قال أبو هشام: قال يحيى: سألت أبا بكر عن هذه الحروف، فحدثني بها كلها، وقرأها علي حرفا حرفا، فنقطتُها وقيَّدتُها وكتبتُ معانيَها على معنى ما حدثني به سواء، ثم قال لي أبو بكر: أقرأنيها عاصم كما حدثتك حرفا حرفا [[7]]، وعن خلف بن هشام البزار قال: حدثنا يحيى عن أبي بكر عن عاصم بالقراءة، وقال أبو بكر: تعلمتها من عاصم حرفا حرفا كما حدثتك بها، قال خلف: سمعت يحيى كثيرا في الحروف يقول: سألت أبا بكر كيف قرأ عاصم كذا وكذا ؟ فيقول: كذا وكذا، فأردُّه عليه بمثل قوله مستقيما له، فيقول: نعم [[8]]، فهذه قصة خلافية تردَّد النظر فيها بين مؤرخي القراءة ونقاد أسانيدها، فسارت بها ركبان التمثُّل والعناية (قبولا وردّاً)، لكن الذي عليه الحافظ الداني [[9]] أنها رواية حروف مجرَّدة لا رواية عرض وتلاوة، للاقتصار في أخذها على محض سماع الكتاب فقط من غير عرض [[10]]، ولقد تبع الدانيَ في ذلك المحقّقُ ابن الجزري [[11]]، وتبعهما ابن مهران إذ قال (ت‍ 381 ه‍): ولقد أتعبني طلب هذه الرواية ببغداد والكوفة ( أعني رواية يحيى)؛ فما وجدتها عند أحد إلا رواية ولم أجدها قراءة، … وعلى ذلك فإني قرأت بها مع ضعفها [[12]]، ومثل ذلك كثيرٌ منتشرٌ في كتب الأسانيد والطرق وذكر شيوخ القراءة، كالذي قيل في شأن قراءة حمزة عن الأعمش، فقد قال الداني (ت‍ 444ه)  مُبيِّناً سبيل الهُدى فيها: (وقد ردَّ بعض الناس قراءته (حمزة) على الأعمش، من أجل رواية حجاج بن محمد وعبد الله بن كارد عنه، أنه لم يقرأ عليه القرآن، وإنما سأله عن الحروف سؤالا من غير عرض، وهذا عندنا غير رادٍّ لذلك ولا قادح فيه، لتواتر الأخبار المجتمع على صحتها بقراءته عليه القرآن عرضا، وأيضا فإنَّ سؤاله إيّاه عن الحروف؛ بمنزلة عرضه القرآن عليه سردا، عند أهل المعرفة، إذ كان سؤاله عن حروف الاختلاف التي بها يوقف على مذهب الإمام وفيها الفائدة، وليست في حروف الاتفاق، وإذا كان كذلك؛ فقد وقف حمزة بذلك على مذهبه في جميع القرآن، وذلك والعرض عندنا سواء) [[13]]، ومثله عند ابن الباذش (ت‍ 540 ه‍) في الإقناع [[14]]، ومن الطريف المُجَلِّي لمذهب التسوية بين رواية الحروف والعرض عند الحافظ الداني  (ت‍ 444ه‍) رحمه الله، أنه أسند قراءة عاصم في التيسير له من رواية أبي بكر بن عياش – على وجه الأداء – من طريق يحيى بن آدم فقط، رغم ثبوتها عنده رواية حروف، وذلك عكس الذي ثبت في جامع البيان له، إذ إنَّه قد أسند – على وجه الأداء – روايات ثلاث عن أبي بكر بن عياش (ت‍ 193 ه‍) وهي: رواية يعقوب بن خليفة الأعشى (قال ابن الجزري: لم أرَ أحداً أرَّخ وفاته، وعندي أنه توفي في حدود المائتين) [[15]]، ورواية يحيى بن محمد العليمي (قال ابن الجزري: توفي سنة ثلاث وأربعين ومائتين)[16]، ورواية عبد الحميد بن صالح البرجمي (قال الذهبي: مات سنة ثلاث ومائتين) [[17]]، فهذه صحَّت عنده أنها روايات تلاوة وعرض، ومع ذلك فإنه قد تركها في التيسير فلم يلتزمْها؛ تنكيتا نَبيهاً على مذهب التسوية الذي انتحى سَمْته وجاهر به، فذلك منه مذهب لطيف واستخراج فقهي حسن، يَبْغي من ورائه تنويع روافد الأخذ وتكثير مراصد الاطلاع التحمل ومصاعده (روايةً، مكاتبةً، إجازة، إعلاما، وِجادةً، …) واعتمادها متى شهدت لثبوتها الأخبار المتواترة ولم تعارض الآثار المستفيضة، كما يدل عليه صَنَع حذاق القراء والمجودين في أسانيدهم وطرقهم وما إليها، فقد قال رحمه الله في خطبة جامع البيان [[18]]له: (ولا أعدو في شيء مما أرسمه في كتابي هذا: ما قرأته لفظا، أو أخذته أداء، أو سمعته قراءة، أو رأيته عرضا، أو سألت عنه إماما … أو أجيز لي، أو كتب به إليّ، أو أذن لي في روايته، أو بلغني عن شيخ متقدم، أو مقرئ متصدر بإسناد عرفته وطريق ميَّزته …).

وعليه؛ فإنَّ الإقرار بحجّية رواية الحروف مجرَّدةً من غير عرض أوسماع على شيخ القراءة؛ مقبولٌ صالحٌ للاعتبار مأخوذٌ به في أسانيد الحذاق من رواة أحرف الخلاف كَ‍ ابن مجاهد والداني والباذش وابن الجزري وغيرهم، وذلك متى تعزَّزت رواية الحروف وتظاهرتْ بالأداء المتصل بشـرطه، ولم تخرج عن دائرة المروي من الأوجُه المطروقة حتى تَشِذّ فتخالف قراءة العامة، زدْ على ذلك ما يُتطلَّب مِنْ حَتْمية استجماع راوي الحروف وباغيها شرائط الأهلية، والتحقُّق بخُويصَّة الأداء من سَبْق المعرفة بفنِّ القراءة ثم البَصَـر بأدبياتها ومقاصدها وما يتصل بها، مع فَرْط تيقُّظه وشدَّة ضبطه وووفور تحفُّظه وبلوغه مبلغ أئمة قراء الأمصار سبعة أو عشـرة أو ما زاد، … وذلك ما لخَّص عبارته المحقق ابن الجزري (ت‍ 833ه‍) رحمه الله: [باب ذكر إسناد هذه العشر القراءات من هذه الطرق والروايات …] فقال: (… فهذا ما حضـرني من الكتب التي رويت منها هذه القراءات من الروايات والطرق بالنص والأداء، وها أنا أذكر الأسانيد التي أدَّت القراءة لأصحاب هذه الكتب من الطرق المذكورة، وأذكر ما وقع من الأسانيد بالطرق المذكورة بطريق الأداء فقط، حسبما صح عندي من أخبار الأئمة قراءة قراءة ورواية رواية وطريقا طريقا …) [[19]]، ثم قال: (وفائدة ما عَيَّنّاه وفصَّلناه من الطرق وذكرناه من الكتب؛ هو عدم التركيب، فإنها إذا مُيِّزت وبُيِّنت ارتفع ذلك، والله الموفِّق) [[20]].

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع


[1]  تنظر فهرسة لابن خير الإشبيلي (ت‍ 575 ه‍) (ذكر ما رويته عن شيوخي رحمهم الله …) ص 49.

[2]  منجد المقرئين ص 88.

[3]  الكافي ص 176.

[4]  جامع البيان 1/16.

[5]  ينظر معرفة القراء للذهبي 1/98.

[6]  جامع البيان 1/344.

[7]  جامع البيان 1/344.

[8]  جامع البيان 1/345.

[9]  معرفة القراء الكبار 1/ 342، 343.

[10]  الدر النثير للمالقي ص 120.

[11]  غاية النهاية 1/362 – 364.

[12]  المبسوط (رواية أبي بكر بن عياش) ص 45 – 46.

[13]  المفردات ص 290.

[14]  1/134.

[15]  2/390، (3897).

[16]  غاية النهاية 2/378.

[17]  معرفة القراء الكبار 1/119.

[18]  1/47.

[19]  النشر 1/98.

[20]  النشر 1/191.

د.مولاي مصطفى بوهلال

    • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق