مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

«مفاهيم في التماسك ووحدة بناء النص» من خلال كتاب، «قراءة في الأدب القديم» محمد محمد أبو موسى. مدخل تمهيدي للموضوع [الحلقة الثانية]

 الأستاذ محمد أبو موسى ودراسة النص:

شملت كتبُه دراسةَ “أقوالِ العلماءِ البلاغيةَ” و”النصوصِ الفَصيحَة” وكان يقصد فيها إلى تمييز مراتب الكلام من النص العالي المعجز إلى كلام المقتدرين من ذوي اللسن؛ فقام بعضها على دراسة النص القرآني وما يتّصل به كما يُرى في كتابه «البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري وأثرها في الدراسات البلاغية» وكتابه «من أسرار التعبير القرآني، دراسة تحليلية لسورة الأحزاب» وكتابه « الإعجاز البلاغي، دراسة تحليلية لتراث أهل العلم » ومباحثَ من كتابه «دراسة في البلاغة والشعر» وقامت بعضُها على دراسة الحديث الشريف كما تجد في كتابه «شرح أحاديث من صحيح البخاري, دراسة في سمت الكلام الأول», ومباحث متفرقة من كتبه الأخرى. وقامت بعضُها على دراسة نصوص الشعر, كما تجد في كتابه «قراءة في الأدب القديم», وفي مواضع متفرقة من كتبه «دراسة في البلاغة والشعر, والتصوير البياني , وخصائص التراكيب, ودلالات التراكيب», وعني الشيخ على نحوٍ خاص بالشعر الجاهلي, الذي أصدر فيه كتابًا جديدًا, يتناول فيه فكرة (منازع الشعراء ), وعنوان كتابه هذا: «الشعر الجاهلي، دراسة في منازع الشعراء».وعُرِفَ الشيخُ بفهمه العميق للشعر,لاسيما الجاهلي منه وهذا من أهم سماته، وقد قامت كثيرٌ من الرسائل العلمية التي أشرف عليها حفظه الله على المنهج البلاغي الرصين في استخراج معاني الكلام من مباني المرام.

وبخصوص مؤلفه قراءة في الأدب القديم يذكر الشيخ محمد أبو موسى  أن هذه الدراسة تناولت بعض الآثار الأدبية، وسرى في تحليلها وتذوقها على منهج القدماء، ذلك المنهج الذي لم يتح له أن يعرف معرفة تحقيق فضلا عن أن يشيع أو يغلب في ميدان الدراسات الأدبية.

وعند تحليله قصيدةَ الخنساء بَيَّن أن فن الرثاء ينطوي على جملة من الألوان يصير بها كأنه جنس يندرج تحته أنواع، فهناك طبع ومذاق لرثاء الخنساء يختلف اختلافا كبيرا عن طبع ومذاق رثاء أبي ذؤيب الهذلي، كما أن رثاء متمم ابن نويرة يعطي لونا آخر.

وذكر الشيخ أبو موسى أنه في تحليل مقدمات القصائد ووصف مشاهد الصيد ومعاناة الرحلة، والقول بتعدد الأغراض في القصيدة الواحدة، كل ذلك عرض فيه وجوها من الرأي كانت من هدي التحليل والنظر المتمهل، ومن هنا كانت مخالفة لكثير من الأفكار الشائعة والتي صارت كأنها مسلمات عند كثير من الدارسين، لأن الآفة على حد قوله إننا نتناقل الأحكام ولم نلج التجربة التي تمكننا من صناعتها. ننا نتناقل الاحكام ولم نلج التجربة التي تمكننا من صناعتهانن

كما ذكر المؤلف أنه عرض في هذا الكتاب رائعةً لحسان بن ثابت المسماة بـ «ألم تسأل الربع الجديد التكلما»، وقال أنها كانت الباعث الذي بعث قصيدة الفرزدق التي شرحها، وأشار أن قصيدة حسان من أجود الشعر، وفيها من الخواطر والصور وبراعة الصنعة ما يزاحم روائع امرئ القيس والنابغة والأعشى وزهير.

كما يشير إلى الخطوط العامة التي تعين القارئ على دراستها، والذي تعينه على أن يتعلم بنفسه أفضل عنده من الذي يعلمه، لأنه كَلِف بالبحث عن طريق فيه شيء من المخالفة أو التعديل أو التطوير للطريق يسير فيه. ويشير إلى أنه من السهل أن نمد أيدينا إلى المناهج الجاهزة التي قام عليها أصحابها، ولكن هذا عنده شيء كريه وعجز وتبعية فهو يرفض ذلك ويزدريه.

وأهم شيء عنده هو معرفة بناء القصيدة، ويعني بذلك فقراتها وفصولها وموضوعاتها، ووجه ترتيب تلك الفصول، وكيف تتابعت في اتساق وبناء محكم، ثم معرفة المعاني الجزئية الداخلة في تكوين كل فصل، لأن معرفة وجوه الترتيب معرفة دقيقة توجب معرفة الجزئيات معرفة أدق. وكل ذلك يقتضي وقوفا طويلا عند كل كلمة، وعند كل شيء جرى في نفس الشاعر دق أو جل، ظهر أو خفي.

وفي حديثه بهذا الشأن يذكر أن أي قارئ يدرك إحكام مباني هذه الفصول وقوة ترابطها، وأنه لا يمكن أن تقدم منها شيئا أخره الشاعر، أو تؤخر منها شيئا قدمه، والتلاحم والتلازم والترابط وحسن الاقتران كل ذلك قائم فيها على وجه بالغ الدقة والسلاسة والجودة.

وإجابة منه عن سؤال مفاده لماذا اختار الشاعر هذه الجهة من جهات المعاني دون غيرها من جهات أخرى كان يمكن أن يبني كلامه منها؟ يقول مثلا لماذا اختار حسان أن يكون حديثه عن الديار هو سؤال صاحبه هل سألت الربع أن يتكلم، وكان يمكن أن يقف مثلا ويستوقف، أو يصف الربع، وكأنه كخط زبور في عسيب يمان، أو أنه كمراجع الوشم في نواشر معصم، أو أن يقف في الطلل يسائله أو يذكر فيه أيام لهوه، أو مما جرت عادة الشعراء أن يتكلموا به إذا ذكروا الديار، ويضيف إلى أن حسان تكلم بغير هذا الذي تكلم به في هذه القصيدة في قصائد أخرى. فلا بد أن يكون لما اختارَه حسان مِن سؤال الربع أن يتكلمَ مزيدُ خصوصية للغرض المسوق له الكلام، ولا بد كذلك من كشفه وإقامة الدليل عليه.

ومن جهةٍ أخرى ذَكَر الشيخ أنه لا بد من النظر في وجه بناء العبارة، لأنه هو جوهر صنعة الشعر، وهو الذي يَفضُلُ به كلامٌ كلاما، ثم إن بناء العبارة ليس صنعةَ لسان وليس في الشعر ولا في البيان صنعة لسان، وإنما هو في حقيقته اجتهاد في أن تكون الصورة اللغوية مصورة تصويرا دقيقا وأمينا للمعنى القائم في النفس.

ويذكر الشيخ محمد أبو موسى أن النحوَ تحليل للعلاقات بين الكلمات المكونة للنص، وأن معرفة هذا أمر ضروري، وأن الإعراب ليس لازما لفهم الشعر القديم فحسب، وإنما هو لازم لفهم كل كلام مصقول، ابتداء من المعلقات وانتهاء بآخر كلام يدور به آخر لسان ناطق بالعربية، وأن العلاقات النحوية إذا تاهت والتبست وغابت دخل النص كله في سراديب الجهالة والغموض وافتقد صفة الكلام الذي يفيد فائدة يحسن السكوت عليها.

ويذكر كذلك أن علم البلاغة أدخل كل هذه العلوم في هذا الباب، لأن ضالته التي ينشدها في النص هي الدقائق والخفايا التي لها أقوام هدوا إليها ودلوا عليها، وكشفت الحجب بينهم وبينها، وهذا هو موضوع هذا العلم كما يقول مؤسسه عبد القاهر وكل مفردات هذا العلم في صميم علم تحليل النص، ابتداء من مقدمة الفصاحة والبلاغة، وانتهاء بأصغر فن بديعي، ويضيف أنه كل هذا وسائل وأدوات تعين على استكشاف جوهر النص، وكل نظر في المباني لا غاية له إلا النفاذ إلى المعاني. وعبد القاهر كان يحرص دائما وهو يفتح أبواب هذا العلم أن يدل قارئه على أنه يضع في يده مفاتيح النص، حتى يدخل هذا النص من أبوابه التي هي مبانيه، وأن تدقيقه في تحرير القاعدة إنما هو تدقيق وغوص في فقه النص.

وفي حديثه كذلك ذكر أن  الشيخ محمود محمد شاكر  رحمه الله فتح بابين في دراسة الشعر الجاهلي؛ باب في تحليل مبانيه، وباب في تحليل معانيه، وبين الشيخ محمد أبو موسى أن الشيخ محمود شاكر أراد بيان الاستنباط من معاني الشعر الذي قالوا إنه تراجع مع تراجع زمانه، وأنه كان نتيجة بيئة ولت، ويرى أن معاني هذا الشعر تمتد وتتسع وتتكاثر بدوام النظر فيها، وأنها مع هذا الامتداد والاتساع تدخل في قلب ما نحن فيه، وأنها تلامس أدق وأحدث وأغمض قضايانا، ثم أشار إلى قصيدة القوس العذراء إلى أنها أفضل وأكرم ما يصل معاني هذا الشعر القديم الموغل في القدم، وكل ما في القوس العذراء من نثر وشعر وخطاب لصاحبه في صلة العلم بالفن، وإتقان العمل، وما فطر عليه الإنسان والمخلوقات الأخرى كل ذلك كان استمداد من أبيات من قصيدة الشماخ بن ضرار الذي عرف بتجويد شعره في وصف الحمر، وكانت الأبيات التي استنطقها المرحوم محمود شاكر في وصف قواس: «توجَّسَتْ به الوحْشُ من عِرْفانها شدّةَ نِقْمته، جاءتْ ظامئة في بَيْضَة الصيف، فراعَها مَجْثَمهُ في قُتْرتِه. قليلُ التِّلاد، غيرَ قوسٍ وأسْهُمٍ، خفيّ الِمهَاد، غيَر مُقْلة تتضرَّم. تبيَّنتْ لَمْحَ عَيْنيه، فانقلبَت عن شريعة الماء هاربة، ذكرت نِكاية مَرْماهُ، فآثرت مِيتَةَ الظَّمأ على فَتْكة الأسْهُم الصائبة».[1]

فمن هذه الصورة استخرج محمود شاكر أفضل ما يقال في إتقان العمل، وخاطب به صديقا لا تَبلى مودته.

ثم إن الألفاظ حسب الشيخ أبي موسى مكونة من حروف وهذه الحروف لها جرس ورنين، وهذه الأخيرة عند محمود شاكر من الأدوات الدالة على المعاني، لأن الأصوات عنده لها معان كمعاني الكلمات، ثم التراكيب التي برع في تحليلها، وهذه التراكيب أيضا لها نغم دال وهي ليست أنغاما ساكنة في الألفاظ والتراكيب فحسب وإنما هي نغم يجري في أوصال المعاني وفي أوصال اللغة.

ويضيف الشيخ محمد أبو موسى أنه جمع مقالات المرحوم محمود شاكر  في كتابه المتفرد في بابه الذي سماه « نمط صعب ونمط مخيف» وذكر أنه لا يجوز لمن يتكلم في الشعر أن يكون بمعزل عن طول المراجعة في هذا الكتاب إذا كان هذا المتكلم يحرص على أن يقول شيئا نافعا ويرفض أن يكون من الذين يتكلمون بما في عقول غيرهم.

ويذكر أن الأستاذ محمود شاكر رحمه الله كان شديد الحفاوة بالجيل الجديد وكان يستشعر أن لهذا الجيل حقا عليه وأن له أمانة في عنقه وأن عليه أن ينير له الطريق، حتى لا يسقط في المحن وهي محنة الشعر الجاهلي، وأن جيله الذي سقط في هذه المحنة هو الذي يربي الجيل القادم على أساس مادة هذه المحنة العلمية وخلاصتها أن الشعر الجاهلي منحول كتبه رجال في الإسلام ونسبوه إلى الجاهلية، وأن ترتيب أبياته مختل ويفتقد إلى الوحدة والترابط العضوي بين أبياته، وهذا البلاء حسب كلامه أفسد على الجيل النظر في العلوم العربية كلها، لأن الشعر الجاهلي متغلغل في العلوم كلها، وتأسست عليه علوم جليلة.

ويذكر أبو موسى أن الشيخ محمود شاكر تحدث عن الشعر ولغته والبراعات التي يجب أن تتوفر لدارسه حتى ينفذ إلى سره، وذكر أن للشعراء حيلا وطرائق في الإبانة عن معانيهم، لأنهم لا يقصدون إلى الإبانة الواضحة المكشوفة، وإنما لهم  طرائق أخرى خفية، يقول الشيخ محمود شاكر في ذلك: «إن الشعر، من بين جميع الكلام، هو في كل لسان أشق علاجا، وأعصى قيادا، لأن الشعراء لم يقصدوا قط مقصد الإبانة المغسولة عن المعاني، بل ركبوا إلى أغراضهم أغمض ما في البيان الإنساني من المذاهب، فربما شعثوا ما كان حقه أن يكون مجتمعا، لأنهم لا يبلغون حق الشعر إلا بهذا «التشعيث». فيأتي أحدهم فيظن أن لو جمع هذا إلى هذا، فقد أزال عنه «التشعيث» ورده إلى الجادة، ولكته في الحقيقة لم يزد على أن أفسد بعقله، ما تعب الشاعر في تشعيثه بميزان وتقدير».[2]

ويؤكد الشيخ محمد شاكر على ضرورة حشد النفس والعقل والخبرة والاحتشاد الكامل في دراسة الشعر، وأن أقل تهاون في درسه هو قتل له، وأن الشعر الفخم العريق إذا لم يستقص الدارس دلالته التي هي أشبه به فخامة وشرفا ونبلا فهو بعيد عن كل ما في الشعر، وأمران يشقان على دارس الشعر: الأول مشقة الوصول إلى ما تؤهله له مواهبه من أسرار الشعر، والثاني مشقة الإبانة عن الذي وجده في نفسه من أسرار الشعر، وأن الدارس مهما بلغ من القدرة في الإبانة فإن أكثر ما يجده في الشعر يظل شاردا بعيدا عن لغته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

-يُرجَعُ إلى مقدمة كتاب: «قراءة في الأدب القديم»، محمد محمد أبو موسى.

[1] القوس العذراء، محمود محمد شاكر، ص: 30-31

[2] نمط صعب ونمط مخيف، ص: 129-130

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق