مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

بيتٌ لطرفة بن العبد، وخلاف البصريين والكوفيين حول إعمالِ «أَنْ» المصدرية المحذوفة

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيّبين الطاهرين، أما بعدُ:

فمن مسائل الخلاف المشهورة التي اقتدح زِنادُ المدرستين البصرية والكوفية في القول فيها واشتدّ الخلاف بينهما في شأنها ما اشتهر من إعمال «أَن» المصدرية المخففة في الفعل المضارع الذي يَليها بعد حذفها، فالبصريون يمنعون إعمالها، والكوفيون يُجيزونه، ولهم في ذلك تعليلاتٌ وشواهدُ تقوم لهم حجةً فيما ذهبوا إليه، وسأذكر طَرَفًا مما عَسَاه يُبيّن هذا المبحث على وجهٍ يأتي على مُجمله إن شاء الله.

فَمِمَّا يُقدَّم في هذه الموضع، وليس من الشعر، قولُ الشافعي، رحمه الله، في رسالته:

«وما ازداد من العلم باللسان الذي جعله الله لسانَ مَنْ خَتَمَ به نُبُوَّتَهُ وأنزل به آخرَ كتبِه، كان خيرًا له. كما عليه يَتَعَلَّمُ الصلاةَ والذِّكْرَ فيها، ويأتِي البيتَ وما أُمِرَ يإتيانه، ويَتَوَجَّهُ لِمَا وُجِّهَ له، ويكونُ تَبَعًا فيما افْتُرِضَ عليه ونُدِبَ إليه، لا متبوعا».

برفع: (يتعلم، يأتي، يتوجه، يكون) على حذف «أن» الناصبة وعدم إعمالها بعد الحذف. قال الشيخ أحمد شاكر مُعَلِّقًا بعدما ذكر صواب العبارة من النسخة الأصلية للرسالة وأشار إلى خلافِ النحاة في المسألة: «والشافعي يكتب ويتكلم بلغته على سَجِيَّتِهِ، فهو يَتَخَيَّرُ من لُغات العرب ما شاء، وهو حُجَّةٌ في كلامه وعباراته»(1).

فهذا حذفُها دون إعمالها بعد الحذف، وهو في الاختيار وليس في الاضطرار، كما هنا عند الشافعي رحمه الله، وفي موضعين آخرين من كتابه، فلا مَدْخَلَ عليه في كون الوزن يُبِيحُه، لأنه ليس بِسَبِيلِ الشِّعر.

وشاهد النحاة من الشعر الصحيح المحتج به الذي جرى عليه أكثرُ خلافِهم في المسألة قولُ طَرَفَةَ بْنِ العبد في معلقته(2):

أَلَا أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرُ الْوَغَى === وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي

فالرواية المشهورة عند القومِ «أحضرُ» بالضم، على أنه حَذَفَ «أن» ولم يُعْمِلْهَا بعد الحذف، وأَعْمَلَهَا في الشطر الثاني لأنه أَثْبَتَها. وسيأتي ذكرُ رواية النصب حين أَعْرِضُ لرأي الفريق الآخر ممن أجاز النصب مع الحذف.

ومنه قوله تعالَى: {قُلَ افَغَيْرَ اللَّهِ تَامُرُونِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُون} [الزمر: 61]، قال سيبويه حين عرَضَ لهذه الآية: «وإن شئت كان بمنزلة: أَلَا أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرُ الْوَغَى»(3)، أي: في حذف «أن» وارتفاع الفعل بعدها، لأن تقدير الآية: تأمروني أَنْ أعبدَ.

وقالوا: إنما لم تعمل «أَنْ» بعد الحذف لأنها من العوامل التي تدخل على الأفعال، وهي في القوة أدنى منزلة من العوامل التي تدخل على الأسماء، ومنها «أنَّ» المشددة الثقيلة التي تنصب الاسم بعدها، وهذه إذا حُذفت لا تعمل كما عُلم، فلمّا لم تعمل الثقيلة بعد الحذف، كان ألَّا تعمل المخففةُ بعدَ الحذف أَوْلَى. فمن هذا الباب امتنع أن ينتصب الفعلُ بعدَها وهي محذوفة، لئلّا يَرِد على العرب انتقادُ إعمالِ الخفيفة، وعدمِ إعمالِ الثقيلة.

وقيل أيضا: إن من العرب مَن لا يُعمل «أنْ» الخفيفة وهي مُثْبَتة، ومنه قول القائل(4):

أَنْ تَقْرَآنِ عَلَى أَسْمَاءَ وَيْحَكُمَا === مِنِّي السَّلَامَ وَأَلَّا تُشْعِرَا أَحَدَا

فإن كانت لا تعمل وهي مُثْبَتة، فكيف تعمل وهي محذوفة؟! وقوة عمل المحذوف لا تكون كقوة عمل المُثبت كما لا يخفى.

واستدلوا أيضا بقوله تعالى: {لِمَنَ ارَادَ أَنْ يُتِمُّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 231]، في قراءة من قرأ برفع «يُتِمُّ»(5)، فتكون غيرَ عاملة مع إثباتها. قال الزمخشري: «برفع الفعل تشبيهَا لـ«أن» بـ«ما» لتآخيهما في التأويل»(6). وقال أبو حيان: «[…] كما ألغاها من قرأ {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمُّ الرَّضَاعَةَ} ‌برفع «يتمُّ» حملا على «ما» المصدرية أختِها»(7).

يُريدان أنهما، أي: «أَنْ» و«مَا» في تأويلِ المصدر، أَلَا تَرَى أنك تقول: يُعجبني أن تفعل، ويُعجبني ما تفعل، فيكون الكلام في الحالتين على تقدير: يُعجبني فعلُك.

وإلى هذا يُشير ابنُ مالك في الألفية حينما يقول:

‌وَبَعْضُهُمْ أَهْمَلَ «أَنْ» حَمْلًا عَلَى === «مَا» أُخْتِهَا حَيْثُ اسْتَحَقَّتْ عَمَلَا

على أن للكوفيين رأيا مخالفا للبصريين في المسألة، وهو أنهم يَرَوْنَ أن ما بعد «أن» المحذوفة يبقى على حاله منتصبا كما لو أنها لم تُحذف، وقد روَوْا بيت طرفة المتقدّم على النصب، كذا(8):

أَلَا أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الْوَغَى === وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي

قال الفَرَّاء، وهو كوفي: « ألا ترى أن ظهور «أن» في آخر الكلام يدل على أنها معطوفة على أخرى مثلها في أول الكلام وقد حذفها؟»(9).

وقيل: كأنه توهم أنه ذكر «أنْ»، فنصب على طريق الغلط، كقول الآخر كما أنشده سيبويه(10):

بَدَا لِيَ أَنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ مَا مَضَى === وَلَا سَابِقٍ شَيْئًا إِذَا كَانَ جَائِيَا

قال سيبويه: «لَمَّا كان الأولُ تُستعمل فيه الباءُ ولا تُغَيِّرُ المَعنى، وكانت مما يَلْزَمُ الأوَّلَ، نَوَوْهَا في الحَرف الآخر، حتى كأنهم قد تكلموا بها في الأول».

فأنت ترى أنه قد جر «سابقٍ» توهما منه أنه قال: لست بِمُدْرِكٍ ولا سابقٍ. ومثله كذلك قول غيره(11):

مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً === وَلَا نَاعِبٍ إِلَّا بِبَيْنٍ غُرَابُهَا

فقال أولا: ليسو مصلحين، ثم قال ثانيا: ولا ناعبٍ، كأنه توهم أنه قال: ليسوا بِمصلحين، فقال بعد ذلك: ولا ناعبٍ، بالجر.

وهذا يكون على تقدير ما يقعُ في ذلك الموضع، ومنه قول الآخر أيضا، وهو على عكس ما تقدم معك من هذين البيتين(12):

مُعَاوِيَ إِنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ === فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا

فنصب قوله: الحديدا، عطفا على موضع «بالجبالِ»، لأن موضعها من الكلام النصبُ، والتقدير على ذلك: فلسنا الجبالَ ولا الحديدَا، وإنما زيدت الباء في مثل هذا.

والجمهورُ على أن بيت طرفة بن العبد إنما يُروى على الرفع لا على بالنصب.

على أن بعضهم يَرويه رواية أخرى تَنفي الإشكال، فيجعلها(13):

أَلَا أَيُّهَذَا اللَّاحِيَ انْ أَحْضُرَ الْوَغَى === وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي

وعلى هذه الرواية، إن صَحَّتْ، يكون تخريج البيت حينئذ على وصل همزة «أن» وتحريك ياء «اللاحي»، وهو جائز في ضرورة الشعر، فينتفي الإشكال ويبطل الاحتجاج بالبيت.

والأكثر الذي عليه الجمهور أن مثل هذه الحروف إن أُسقطت بَطَلَ عملُها لِمَا قدَّمناه من عِلل ذلك، وإنما كان بطلانُ عملها هو الأكثرَ لأنها ضَعُفَتْ عن الوقوع على المعمول الذي بعدها بعدَ أنْ حُذفت، فلمّا كان الأمرُ على ذلك، واستقرّ في النفوس معناها قبل الحذف، أمكن التقديرُ في الجملة مع مراعاة المعنى الأحقِّ بالتقديم حالَ إثباتها، وقد اجتمع الأمران في بيت طرفة، فقوله:

أَلَا أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرُ الْوَغَى === وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي

دلَّ فيه شطره الثاني على ما حُذف من الشطر الأول، لأنه معطوف عليه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) انظر الرسالة للشافعي (49).

(2) ديوان طرفة (45)، وورد هناك بالضم على المشهور.

(3) الكتاب لسيبويه (3/100).

(4) بغير نسبة في مجالس ثعلب (322)، والأضداد لابن الأنباري (123)، والإنصاف للأنباري (2/460)، واللسان (أنن).

(5) انظر الكشاف للزمخشري (1/278)، والبحر المحيط لأبي حيان (6/415).

(6) الكشاف للزمخشري (1/278).

(7) البحر المحيط لأبي حيان (6/415).

(8) انظر معاني القرآن للفراء (3/265).

(9) معاني القرآن للفراء (3/265).

(10) البيت لزهير بن أبي سُلمى كما في ديوانه (169) برواية: ولا سابقا، ولا استشهاد به حينئذ، وكذلك أورده سيبويه في كتابه (1/165) على النصب، وذكره في موضع آخر (1/306) على رواية الجر، منسوبا لصرمة الأنصاري، ونسبه مرة أخرى لزهير، وعلى رواية الجر (3/29).

(11) للأخوص الرياحي، بالخاء المعجمعة، وهو من أبيات سيبويه (1/165) و(1/306)، ونسبه في موضع آخر للفرزدق  (3/29)، وله ذِكْرٌ في المؤتلف والمختلف للآمدي (60)، حيث أورده بالمهملة، وانظر الخزانة (4/158).

(12) انظر الكتاب لسيبويه (1/67)، وقد نسبه لعقيبة الأسدي.

(13) الشعر والشعراء (1/189)، وانظر شرح الأنباري للقصائد السبع (193)، فقد ذكر أن التَّوَّزِيَّ يرويه على هذا الوجه.

* المصادر والمراجع:

– الأضداد، لأبي بكر ابن الأنباري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية.

– الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين، لأبي البركات الأنباري، المكتبة العصرية.

– البحر المحيط في التفسير، لأبي حيان الأندلسي، تحقيق صدقي محمد جميل، دار الفكر.

– خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، لعبد القادر بن البغدادي، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي.

– شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات، لأبي بكر الأنباري، تحقيق عبد السلام هارون، دار المعارف.

– شعر زهير بن أبي سُلمى (صنعة الأعلم الشنتمري)، تحقيق د. فخر الدين قباوة، دار الآفاق الجديدة.

– الشعر والشعراء، لابن قتيبة، تحقيق أحمد شاكر، دار الحديث.

– ديوان طرفة بن العبد بشرح الأعلم الشنتمري، تحقيق درّيّة الخطيب ولطفي الصقال، المؤسسة العربية.

– الرسالة، للإمام الشافعي، حققها وشرحها أحمد شاكر، طبع مصطفى البابي الحلبي.

– الكتاب، لسيبويه، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي.

– الكشاف، للزمخشري، الطبعة 3، دار الكتاب العربي.

– لسان العرب، لابن منظور، دار صادر.

– المؤتلف والمختلف في أسماء الشعراء، لأبي القاسم الآمدي، تحقيق ف. كرنكو، الطبعة 1، دار الجيل.

– مجالس ثعلب، لأبي العباس ثعلب، تحقيق عبد السلام هارون، دارالمعارف.

– معاني القرآن، لأبي زكرياء الفرّاء، تحقيق أحمد يوسف النجاتي ومحمد علي النجار وعبد الفتاح إسماعيل الشلبي، الطبعة 1، الدار المصرية للتأليف والترجمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق