مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

أحوال الصحابة في رمضان: عبد الله بن عمر رضي الله عنهما نموذجا

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا  محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

لقد أنعم الله تعالى علينا إذ استجاب لدعائنا أن بلغنا شهر رمضان، شهر الغفران، فقد مضت منه أياما معدودات، نمسك في نهاره عن الطعام ولغو الكلام، فنفرح حين يرفع أذان المغرب إيذانا بالإفطار، ولما يرفع أذان العشاء نحيي ليله بالصلاة والقيام، فيقبل علينا الفجر، فنتناول قبيل طلوعه وجبة  سحور البركة، اقتداء بهدي نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام، هذا حالنا هذه الأيام.

وقد كان الصحابة عليهم الرضوان من الله تعالى أشد الناس اهتماما بشهر رمضان، فيفرحون بقدومه، ويستعدون له أحسن الاستعداد، فكانوا  يمسكون في نهاره عما يبطله من المأكل والمشرب، وما ينقصه من اللغو والرفث، ويتلون كلام رب العزة سبحانه وتعالى آناء النهار وأطرافا من الليل، ويحيون لياليه بالقيام، والدعاء، والاستغفار.

ولا ريب أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا على اقتفاء  واقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في سننه وآثاره، وكان منهم من عرف عنه بحرصه الشديد على متابعه سنة المصطفي صل الله عليه وسلم، فمن أولئك الرجال الصحابي الجليل: عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، إذ كان من المكثرين في الرواية الحديثية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إن فضائله ومناقبه كثيرة، ويكفينا أن نسرد بعضا منها في معاملته مع المساكين، وعطفه عليهم، فقد: «اشتهى سمكاً، قال: فطلبت له صفية امرأته، فأصابت له سمكة، فصنعتها فأطابت صنعها ثم قربتها إليه، قال: وسمع نداء مسكين على الباب، فقال: ادفعوها إليه، فقالت صفية: أنشدك الله لما رددت نفسك منها بشـيء، فقال: ادفعوها إليه، قالت: نحن نرضيه منها، قال: أنتم أعلم، فقالوا للسائل: إنه قد اشتهى هذه السمكة، قال: و أنا والله اشتهيتها، فماكسهم حتى أعطوه ديناراً، قالت: إن قد أرضيناه، قال: لذلك قد أرضوك ورضيت وأخذت الثمن؟ قال: نعم، قال: ادفعوها إليه»[1].

و«أن امرأة بن عمر عوتبت فيه فقيل لها: ما تلطفين بهذا الشيخ؟ قالت: وما أصنع به؟ لا يصنع له طعام إلا دعا عليه من يأكله، فأرسلت إلى قوم من المساكين كانوا يجلسون بطريقه، إذا خرج من المسجد فأطعمهم، وقالت: لا تجلسوا بطريقه، ثم جاء إلى بيته فقال: أرسلوا إلى فلان وإلى فلان، و كانت امرأته قد أرسلت إليهم بطعام، وقالت: إن دعاكم فلا تأتوه، فقال: أردتم أن لا أتعشى الليلة، ، فلم يتعش تلك الليلة»[2].

و«كان يجمع أهل بيته على جفنته كل ليلة، قال: فربما سمع بنداء مسكين، فيقوم إليه بنصيبه من اللحم والخبز، فإلى أن يدفعه إليه، ويرجع قد فرغوا مما في الجفنة، فإن كنت أدركت فيها شيئا، فقد أدرك فيها، ثم يصبح صائما»[3].

وكان رضي الله عنه إذا دخل شهر رمضان، زاد على ذلك، وكان أجود الناس بالخير، اقتداء بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أخبر بذلك عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:  قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان»[4]، ومن جوده وكرمه أنه كان يشارك الصائمين طعامه، فقد: «اشتهى عنباً، فقال لأهله: اشتروا لي عنباً، فاشتروا له عنقوداً من عنب، فأتى به عند فطره، قال: ووافى سائل بالباب، فسأل، فقال: يا جارية، ناولي هذا العنقود هذا السائل، قال: قالت المرأة: سبحان الله، شيئاً اشتهاه، نحن نعطي السائل ما هو أفضل من هذا، قال: يا جارية ، أعطيه العنقود، فأعطته العنقود»[5].

وقد «كان يصوم، ولا يفطر إلا مع المساكين، فإذا منعه أهله عنهم، لم يتعش تلك الليلة، وكان إذا جاءه سائل وهو على طعامه، أخذ نصيبه من الطعام، وقام فأعطاه السائل، فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجفنة، فيصبح صائما ولم يأكل شيئا»[6]، فقد كان ممتثلا لقول وفعل رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في فضيلة إفطار الصائم: عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من فطر صائما كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئا»[7].

هذا حال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الإفطار، وأما حاله في القيام، فقد: «كان يقوم في بيته في شهر رمضان، فإذا انصرف الناس من المسجد أخذ إداوة من ماء، ثم يخرج إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لا يخرج منه حتى يصلى فيه الصبح»[8].

إن الحديث عن هذا الصحابي الجليل يطول، وكذا تعدد صور اتباعه لسنة النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة، فمكارمه، وفضائله، ومناقبه رضي الله عنه عديدة، لا يحده سيل المداد، لكن حسبي حاله في رمضان بصفة خاصة، وإفطاره على وجه الخصوص مع المساكين.

وبمناسبة إدراكنا لهذا الشهر الفضيل، فلنجعله رضي الله عنه إسوة لنا بما فعل، ونحاول السير على أثره وخطاه، كل حسب مقدوره واجتهاده، لاغتنام هذا الشهر، والفوز بوعد الله تعالى، وهو: الجنة، والنجاة من وعيده، وهو: جهنم، ونحن مشرفون على انتهاء هذا الموسم، وإنما الأعمال بالخواتيم، وكما أحسنا استقبال شهر رمضان، نحسن وداعه، ولا ندري أندركه قابل العام أم لا.

*****************

هوامش المقال:

[1]) أخرجه ابن سعد في: طبقاته 4 /154-155 فيما رواه بسنده إلى حبيب بن أبي مرزوق، وابن عساكر في تاريخه 31 /142-143.

[2]) أخرجه ابن سعد في: طبقاته 4/ 154-155 فيما رواه بسنده إلى ميمون بن مهران، وأبو نعيم في: حليته 1 /298، وابن عساكر في تاريخه 31 /149.

[3]) أخرجه ابن سعد في: طبقاته 4 /154، فيما رواه بسنده إلى نافع، وابن عساكر في تاريخه 31 /147.

[4]) أخرجه الشيخان: البخاري في: صحيحه 3 /26؛ كتاب: الصوم، باب: أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان، رقم الحديث: 1902، ومسلم في: صحيحه 4/ 1803؛ كتاب: الفضائل، باب: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير من الريح المرسلة، رقم الحديث: 2308.

[5]) أخرجه ابن سعد في: طبقاته 4/ 149، فيما رواه بسنده إلى سعد بن جُبير، وابن عساكر في تاريخه 31 /144-145، فيما رواه بسنده إلى نافع.

[6]) لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف ص: 392.

[7]) أخرج هذا الحديث أصحاب السنن: كالترمذي في: سننه 3 /262؛ في: أبواب: الصوم، باب: ما جاء في فضل من فطر صائما، رقم الحديث: 807، وابن ماجه في: سننه 1 /555؛ في: كتاب: الصيام، باب: في ثواب من فطر صائما، رقم الحديث: 1746، والنسائي في: سننه الكبرى 3/ 375؛ في: كتاب: الصيام، ثواب من فطر صائما، وذكر الاختلاف على عطاء في الخبر فيه، رقم الحديث: 3317، والدارمي في: سننه 2/ 1062، في: كتاب: الصوم، باب: الفضل لمن فطر صائما، رقم الحديث: 1744، والبيهقي في: سننه الكبرى 4/ 240، في: كتاب: الصوم، باب: من فطر صائما، رقم الحديث: 8395.

وأخرجه أيضا أصحاب المسانيد: كأحمد في: مسنده 28 /261، 36/ 10، رقم الحديث: 17033، ورقم: 21676. والبزار في: مسنده 9/ 232، رقم الحديث: 3775.، مع زيادة: «ومن جهز غازيا في سبيل الله» الحديث.

[8]) أخرج من حديث: نافع: البيهقي في: سننه الكبرى 2/ 494؛ في: كتاب: الصلاة، باب: من زعم أن صلاة التراويح وغيرها من صلاة الليل بالانفراد أفضل، رقم: 4792.

*راجع المقال الباحث: محمد إليولو

Science

يوسف أزهار

  • باحث بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسير ة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق