مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

الصوم معراج الروح إلى مدارج الفتوح والشفوف‎

بسم الله الرحمن الرحيم
          يتحدث علماء الأصول والمقاصد عن علل الأحكام، ويرصدون  الحكم والأسرار،  والعلة عندهم هي الباعث على تشريع الحكم،  أو الوصف المناسب للحكم، و قد يطلقونها أيضا على المصلحة التي تترتب على الحكم، أو المفسدة التي يتوخى  درؤها بالكف عن الفعل، وحديثهم في هذا المجال أخذ مناح ثلاث،                                    

الأول:أن لكل حكم تعبدي مقصد و غاية، هي علة مشـروعيته والغاية المتوخاة   من تشريعه وجودا وعدما، قد يصرح بها المشرع تصريحا، وقد تدرك من مساقات النصوص المستقرأة في الباب.
      الثاني: أنه ليس من شأن المكلف البحث عن العلل والأسرار وتتبع مقاصد الأحكام، وإنما المطلوب منه الدخول تحت دائرة الأمر لاحت له علة مشـروعيته، أم خفيت عنه.
      الثالث: القول بالعلية فيما صرح الشارح فيه بذلك، والوقوف عما سكت عنه، أخذا بالأحوط، وخوفا من التقول على الله بغير علم، وقد عرج فقيه شاطبة على هذا المبحث في مقدمات موافقاته، وانتصر للقول بالتعليل، مستظهرا على ذلك  بتعليلات الكتاب لكثير من الأقضية و الأحكام، فقال رحمه الله -بعد أن ساق تباين آراء الفقهاء في المسألة- : “والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشـريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره…” .
        نورد هذا الكلام بين يدي شعيرة الصيام التي يؤديها المسلمون هذه الأيام، فهل الغاية من مشروعية الصيام الامتناع عن شهوتي البطن والفرج من مطلع الفجر إلى مغرب الشمس فقط؟ وأن ذلك قصارى المراد به شرعا؟ أم أن له غايات و مقاصد يرجى تحققها من خلال توقيع فرض الصيام.
       فعلى الرأي القائل بالعلل ورعي المقاصد، نلفي أن العلة  المصـرح بها فيه استحثات الهمم للتحقق بتمام التقوى، قال سبحانه:  “يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” [البقرة:183] وإن المتتبع لنصوص السنة النبوية ليخرج بصيد ثمين من الشواهد الحديثية التي تتجاوز بمشروعية الصيام مجرد الإمساك عن الطعام والشراب وملامسة النساء، وتسمو به تشوفا إلى التخلق بمقامات سنية؛ من صفاء النفس، ونقاء الروح، وطهارة المخبر، ومغالبة الهوى، وقمع الشهوات، و ترويض الجوارح وخطمها عن الخوض فيما يثلم كمال صيام العبد.. وهي نصوص كثيرة تضافرت  لإفهام حقيقة مرتجى الصوم الشرعي، كقوله صلى الله عليه وسلم: “من لَّم يَدَعْ قولَ الزُّورِ والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يدعَ طعامَه وشرابَه”    
“إذا كان يومُ صومِ أحدِكم فلا يرفُثْ ولا يصخَبْ فإن سابَّه أحدٌ أو قاتلَه فليقلْ إنِّي امرؤٌ صائمٌ”
“ربَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوعُ، وربَّ قائمٍ ليس له من قيامِه إلا السهرُ”
“لَيسَ الصيامُ من الأكلِ والشربِ فقط، إنما الصيامُ من اللغوِ والرفثِ”
        فهذا غيض من فيض لنصوص جاءت مؤصلة لحقيقة الصيام الشـرعي، غايتها إنهاض الهمم لشفع الصوم المادي بالصوم الروحي، يؤهل به المكلف إلى إدراك حقائق الأمور وجواهرها، وعدم الاجتزاء بصورها وأشكالها.
       فالصوم الكامل هو الذي تتواطؤ فيه الحسيات مع الروحانيات، فتصوم فيه جوارح المكلف كلها عن كل ما يخرم مثالية الصوم، فتصوم الأذن عن سماع ما نهى الله عنه، ويصوم البصر عن النظرة المحرمة الفاتنة، ويصوم فيه اللسان عن الفحش والتفحش، والوقيعة في أعراض الناس، والاشتغال باللغو وفضول الكلام.. بل ويصوم فيه القلب عن التفكر فيما يشتت عنه جمعيته، ويصـرفه عن الإقبال على الله بكليته، وذا الأخير مقام الخلص و النخبة.  
        فإذا ما  تم توقيع الصوم على هذا الوزان كان نافعا للعبد، و كان  له عدة  وزادا إيمانيا، تظهر عليه إشراقاته، فيضفي على القلب توهجا و ثباتا، و على الروح سكينة و اطمئنانا، و تنعكس أنواره على الجوارح إقبالا وتشوفا إلى مزيد اقتراب، و هذا الاقتراب هو الذي يضفي على العبادة الحلاوة، لما يحصل للعبد من الانتقال من منزلة إلى منزلة، ومن مقام إلى مقام،  وقد ندبت الأمة إلى السعي إلى ذلك في  شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم،  لما طولب بالانصـراف عن القواطع وتأميم القصد إلى إحراز أشرف المكاسب،” كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ” [العلق: 19]  وأمره بالشـيء أمر لأمته، إلا ماخصه به الدليل، والدلالة اللغوية لفعل الاقتراب تفهم الديمومة، فلا يشبع منه مؤمن، متى حصلت له منه هيئة تاقت نفسه لأقرب منها، حتى يكون منتهاه مجاورته في جناته النعيم.
       فيكون الصوم بهذا المعنى معراجا للروح إلى مدارج الشفوف والفتوح، تعبر فيه من الحاضر المشهود إلى الاستدلال على  الغائب المستور؛  ذلكم الحاضر الغائب؛ المغيب بسماكة حجب الشهوات، وكثافة الرين على وسائل الإدراك،  فتخلص إلى أن الإمساك عن المباح فيه داعية إلى الكف والابتعاد عن مواقعة المحظور بطريق الأولى، وأن الغاية من مشروعية الصيام تدريب المكلف على المجاهدة، ليلزم ثغر المرابطة،  ويرصد طبائع الإغارات،  فيكتسب فن ترويض للنفس  لصد الهجمات، و إتقان فن المناورات،  فيتحكم في نزوات نفسه،  و يقف على رعونتها..
        إن المؤمن يرى في الصوم مدرسة، يدخلها المكلف مرة في السنة، يجدد فيها مهاراته، ويشحذ فيها معارفه ومكتسباته، وينفض فيها الغبار عن مشكاة أنواره، فيتوهج بريق إيمانه، وتذكى جوارحه للنهوض من سبات الغفلة الجاثم على القلوب، ليستقيم له السير إلى ربه رضيا مرضيا، خاطما زمام أمره، له الدولة والغلبة على قرينه وشيطانه.
        وبهذا البيان يمكن أن نصنف الناس في توقيع شعيرة الصيام أصنافا ثلاثة؛ صوم مبرئ للذمة، و صوم متشوف للزلفة،وصوم أهل القرب و الصفوة، وهو ما يعبر عنه أرباب القلوب بصوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص، قال ابن قدامة في مختصر منهاج القاصدين، “أما صوم العموم، فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة، وأما صوم الخصوص فهو كف النظر واللسان واليد والرجل والسمع والبصر وسائر الجوارح من الآثام، وأما صوم خصوص الخصوص، فهو صوم القلب عن الهمم الدنيئة، والأفكار البعيدة عن الله، وكفه عما سوى الله تعالى بالكلية”
وفقنا الله للتحقق بمنزلة الصيام الحقة.

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مقال ممتاز
    وفقكم الله ونفع بكم الأمة وجعل عملكم هذا في ميزان حسناتكم و حسنات كل من قرأه وعمل بمعنانيه العميقة.
    وبالله التوفيق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق