مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

الرِّحْلات السِّفارية لصوفية المغرب، نموذج للديبلوماسية الروحية

مُلْتَقَط الرِّحلة ليوسف بن عابد الفاسي (ت1048ﮬ)

دة. ربيعة سحنون                                                

باحثة بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة

    شكلت السياحة في الأرض دأب العلماء والأولياء والعارفين من أهل الله تعالى، بحثا عن المعرفة (معرفة الحق)، فهي أصل من أصول التصوف، وسنة من سنن أهل الله تعالى، تربي المريد على قوةِ التحمل والجَلَدِ والصبرِ على المشاق، ومخالطةِ الناس، وفهمِ سنة الخالق في الاختلاف، قال تعالى: ﴿وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا﴾[1].

    والسياحة سياحات، “منها: السياحة الكونية، وتكون في عالم الكون لتهذيب النفس ورياضتها، أو التفكر في آثار قدرة الله، والتعرف على بعض مظاهر نعم الله على خلقه، وقد تكون للجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله. وقد تكون لنشر العلم النافع، وإكساب واكتساب الحال الرافع، وأحيانا تكون السياحة لعمل من أعمال البر والخير، كالتعرف على الصالحين وإصلاح أحوال المسلمين، والتخفيف عن البؤساء والمساكين، وصلة ذوي الأرحام، وحلِّ مشاكل المسلمين وغيرها من أعمال الخير التي حببها الله عز وجل لعباده الصالحين”([2]).

    وقد جعل شيوخ التصوف من السياحة في الأرض والسفر طلبا للمعرفة الحقة ضرورة حتمية للمريد السالك في بدايته، “لأن السفر يسفر عن العيوب، ويطهر النفوس والقلوب، ويوسع الأخلاق، وبه تتسع معرفة الملك الخلاق، لأن المسافر كل يوم يشاهد تجليا جديدا، ويلقى وجوها لا يعرفها ولا يأنس بها، فتتشحر معرفته بذلك، ويتسع معناه. وقد قالوا: الفقير كالماء إذا طال مكثه في موضع واحد تغير وانتنّ”.[3].

حتى إن صاحب اللمع جعل لسفر الصوفية آداب من الواجب التحلي بها، والوقوف عندها، يقول: “ليس من آدابهم أن يسافروا للدوران والنظر إلى البلدان وطلب الأرزاق، ولكن يسافرون إلى الحج والجهاد، ولقاء الشيوخ، وصلة الرحم، ورد المظالم، وطلب العلم، ولقاء من يفيدون منهم شيئا في علوم أحوالهم، أو إلى مكان له فضل وشرف، ولا يتركون في أسفارهم شيئا من أخلاقهم وأورادهم التي كانوا يعملونها في الحضر…”[4].

    والصوفية أدوا خدمات جليلة للإسلام، من خلال تنقلاتهم وأسفارهم في كل بلاد المعمور، بنشر الدين الحنيف والأخلاق السمحة، وفي كثير من الأحيان التوسُّط في فضِّ الخصومات، وتصفية النِّزاعات، ويطلعنا تاريخ التصوف على شيوخ اختاروا السياحة منهجا ثابتا فى تحصيل علومهم وأذواقهم الروحية.

    لم تكن رِحْلات هؤلاء الصوفية تقام بشكل اعتباطي، بل كانت جوابا على أسئلة تكون في ذهن الرحالة، فهم سفراء لله تعالى في الأرض، يرحلون ويهجرون أوطانهم وأراضيهم طلبا للعلم والمعرفة اللدنية، ورغبة في إشاعة قيم السلم والسلام في أهل الأراضي التي يحلون بها، قاصدين أن يعم هذا الخير والفضل الذي يحملونه في صدورهم من محبة وتسامح وخُلُقٍ حسن جميع الناس، فكانوا بحق سفراء للديبلوماسية الروحية، عملوا على إشاعة مبادئ التصوف على أوسع نطاق، أثروا في أهل البلاد التي زاروها، فأكرمت وفادتهم، لما لمسوه فيهم من علم ومعرفة ربانية وأنهم أصحاب رسالة؛ مثلما هو حال أبي الحسن الشاذلي (ت656ﮬ)، وأحمد البدوي (ت675ﮬ)، وعبد الرحيم القنائي (ت592ﮬ)، والشيخ زروق، والشيخ أحمد التجاني (ت1230ﮬ)، وغيرهم كثير من أهل الله تعالى، ممن تركوا بصمات واضحة لدى عامة الناس قبل علمائهم، فقد كانت طرقهم جميعا تدعو  إلى المحبة في الله، والتعاون على البرّ والتقوى، ونشر روح المحبة والإخاء، واحترام الرأي الآخر، واحترام سيادة الشعوب والأوطان، ورفض كل مظاهر التفرقة والفتن والصراعات.

    من خلال المعطيات السابقة يمكننا الجزم بأن الصوفية قد مارسوا مهمة السفارة، ونصّبوا أنفسهم سفراء في البلدان التي قصدوها، “ولذلك وجدنا الصوفية يساهمون في عدد من الأنشطة العامة، ويتولون الوزارة وكتابة السر والقضاء والحسبة، ويقومون بالسفارة لدى الملوك لإصلاح ذات البين، ويتصدرون للخطابة والتدريس والطب وغير ذلك”[5].

    ولئن تعددت وتنوعت رِحْلات هؤلاء الصوفية فإن المقاصد تبقى واحدة، كما هو الحال لدى مترجمنا يوسف بن عابد الفاسي من خلال رحلته المسماة: ملتقط الرحلة من المغرب إلى حضر موت، فقد صرّح في ديباجتها بالغايات التي شدّ الرِّحال وترك أرض الآباء والأجداد من أجل إدراكها وبلوغها، باحثا عن الصلحاء والعلماء ورجال التصوف، فكان أن تحقق له جميع ما خرج لأجله، مرورا بالمغرب العربي ومصر والحجاز فاليمن وحضر موت.

    والملاحظ أن ترجمة يوسف بن عابد الفاسي لم ترد في كتب التاريخ والسير والتراجم، وكل ما هو موجود ومتداول من أخباره هو من سيرته الذاتية الواردة في افتتاحية رحلته موضوع هذه المداخلة، إذ  ترجم لنفسه قبل الشروع في سرد أحداث رحلته، وحتى من كتبوا عنه أو عن رحلته كان مصدرهم الوحيد هو ترجمته لنفسه.

    ويخبرنا ابن عابد الفاسي السارد بأنه قد جمع هذه السيرة، لتبقى تبصرة لذريته، ولإخوانه في الله تعالى كذلك؛ فهي وصية عند أهل المغرب من أرحامه وغيرهم[6].

    إنه العالم الصوفي الشريف يوسف بن عابد بن محمد بن عمر، الإدريسي نسبا، الأنقادي مولدا وبلدا، المغربي وطنا، المالكي مذهبا، وعرف كذلك بالفاسي بسبب إقامته في مدينة فاس التي هي دار الأدارسة، وهو من الأشراف الحسنيين المغاربة[7]. ولد بالفيضة بجهة أنكاد سنة965ﮬ، أو 966ﮬ، ينحدر من عائلة متدينة، حافظة للقرآن الكريم، ومتفقهة في الدين الإسلامي، تنقل في طفولته بين كتاتيب المنطقة لحفظ القرآن الكريم.

    في مقدمة رحلته تحدث بإسهاب مفصل عن أنساب أهله بني وكيل، وأصهار عائلته، مع ذكر أحداث ووقائع في أماكن لا تزال معلومة بأسمائها إلى يوم الناس هذا، كـ (عين الدفلة/ عين تامر/ عين لحجر…). عايش الدولة السعدية التي حكمت المغرب في القرن السادس عشر الميلادي.

    كانت وجهته الأولى في رحلته العلمية مدينة فاس، وهو بعد لم يكمل الثامنة عشرة من عمره، حيث درَسَ بالمدرسة المصباحية، وبجامع القرويين، وبجامع الأندلس، علومَ الفقه والسيرة النبوية والتفسير والنحو وعلوما أخرى، على أيدي شيوخ ذكَرَ منهم: الشيخ عبد الخالق، والشيخ محمد العربي، والشيخ أحمد علي المنجور.

    وفي مدينة مكناس تلقى علوم القرآن بجامع النجارين على يد الشيخ أحمد القناوي، وفي هذه المدينة، اتقد ذهنه أكثر من خلال مجالسته للعلماء والمشايخ، “متقربا بذلك إلى المحبة الإلهية والمعرفة الصوفية، من خلال مساءلاته ومجاهداته ورياضاته الروحية، لتصحيح مواقف مقامات المريد السالك للأحوال والمقامات، وستزداد تجربته تفاعلا أكثر وهو يتجول في فضاء واسع من المعرفة الدينية، وفي مجالسة الفقهاء وأقطابهم، وزيارة قبور أولياء الله الصالحين، والمبيت في مقاماتهم، فكان يتردد على الشيخ عبد الله الحجام في جبل زرهون، الذي يضم قبور الأدارسة، وهو الذي دَلَّهُ على الإقامة في قبر الشيخ عبد السلام بن مشيش، لتتبين له إشارات شيخه الخاص، وفي فناء هذه الزاوية الشاذلية التقى بالشيخ محمد بن علي بن ريسون الذي حدّثهُ عن نسب جده أبي الوكيل[8].

    بعد مسيرته العلمية والروحانية هاته داخل ربوع المغرب: شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، وبعد أن تأكد له، عن طريق الأولياء والمشايخ الذين لقيهم، أن شيخه المربي ليس ببلده، تقرّرَ لديه السفر إلى المشرق من أجل لقائه.    

    وجدير بالذكر أن مثل هذه الرِّحْلات “تسعفنا في رؤية العالم، والوقوف على عدد كبير من مظاهر الحضارة الإنسانية، بحيث نسافر مع الرحالة، ونتأمل ما تجود به قرائحهم، فالرحلة هدف يطمح إليه العقل، وتتوق إلى مزامنته الروح…، وقد شكلت الرِّحْلات البوابة التي انطلقت منها كثير من الرؤى والأحكام والتصورات عن الآخر…، فقد فطر الله سبحانه وتعالى الإنسان على البحث المستمر عن الحقيقة، واستقصاء مدارجها، والتعرف إلى هذه الدنيا ومظاهر الحياة فيها، فسلك فجاج الأرض ومفاوز الصحراء، وركب متن البحر، وتردد بشكل كبير على البلدان[9].

    والأهمية الخاصة لرحلة ابن عابد الفاسي هي في مجملها تصوير لجوانب اجتماعية، وعلمية، وصوفية، كانت تشغل مجتمعات عرفها هذا الرحالة، وتحدث عنها وزاولها، يجد فيها الباحثون والدارسون عدة نقط، تضاف إلى ما هو معروف من تاريخ العصر الذي وقعت فيه، وتاريخ الأماكن التي مرّ منها وعاش فيها[10].

وقد تلخصت رحلته في مرحلتين:

    • المرحلة الأولى: تتضمن فترة تردد ابن عابد الفاسي على مدارس مدينتي فاس ومكناس، التي كان يتفقه في الدين، ويحفظ القرآن فيها، كما في جامع النجارين، ومدرسة الوادي، ومدرسة المصباح، بجوار جامع القرويين، وكثيرا ما كان ذلك برفقة ابن عمه عبد الله بن عمر، الذي هاجر قبله بسنوات، ليطلب العلم في مناطق المغرب.

    وفي هذه المرحلة –كذلك- سافر ابن عابد إلى عدة أماكن في المغرب، مثل مراكش، ووادي تارودانت، ومسجد الأبدال على الحدود الجنوبية من دكالة، ووادي تافيلالت.

    • أما المرحلة الثانية: فتتمثل في الفترة التي ارتحل فيها ابن عابد الفاسي من المغرب إلى بلاد المشرق…، إذ ذرع بلاد إفريقية – قابس وجربة ثم طرابلس- قاصدا مصرَ لمقابلة الشيخ محمد البكري (ت1028ﮬ)، مرشد الطريقة البكرية في القاهرة.

    وعند وصول ابن عابد الفاسي إلى مصر أخذ يرافق الشيخ محمد البكري مدة حوالي أربعة أشهر ونصف. وعلى الرغم من ارتباطهما الحميم ببعضهم بعضا، إلا أنه سرعان ما سيتبين لابن عابد الفاسي أن الشيخ محمد البكري ليس مربيَّه ولا شيخه المقصود[11].

    فشدّ الرحال إلى اليمن حيث شيخه ومربيه، أبو بكر بن سالم، الذي تفرس بقدومه عليه قبل ذلك بزمن، بعد أن اكتملت مسيرته الروحية، بكل عناصرها ومبادئها وكمالاتها، من خلال لقاء الشيوخ وإجازاتهم ومذاكراتهم، ومن خلال خلواته ورياضاته ومجاهداته، وعبر التلقين وتجديد العهد، يقول: “ودخلت مدينة فاس إلى شيخنا أحمد بن حُمَيْدَة المُطَرِّفِي (ت1001ﮬ) المذكور، الذي أمرني بذكر رياضة الجلالة…، فجددت عهدي به، وبمن كان في المدينة، مثل الشيخ أحمد السَّياح، وكل من كان لنا به خلطة في مدينة فاس، من أهل الصلاح وأهل العلم الظاهر كذلك…، وكذلك جددت العهد بخالي…، وجددت عهدا بالشيخ عبد الله بن حسون، والشيخ محمد أبو شتاء…، وكذلك الشيخ عمر البطوي…”[12].

    ويقول عن شيخه أحمد العروسي بالساقية الحمراء: “ولقنني جملة أسماء من أسماء الله تعالى الحسنى، وقال لي رتبها، فكنت أرتبها أياما امتثالا لأمره…”[13].

    إنها رحلة سير وسلوك وتربية، ورحلة أثر وتأثير، وسفارة روحية تربوية، قادته إلى شيخه وأستاذه، الذي كان يقول عنه لبعض خواصه: “اقرؤوا علم التوحيد على يوسف، لأن أرض حضر موت خالية من علم التوحيد”[14].

    فما كان من فراسة شيخه هاته إلا أن جعلت له مكانة في قلوب الناس، وأراد أكثر الناس التعرف إليه، فأصبح أستاذا له مجالس علمية باليمن، وأخرى وعظية، إرشادية، صوفية، حيث قضى أكثر من أربعين سنة خارج بلده المغرب، نال فيها الحظوة عند الخواص والعوام، بفضل علمه وسلوكه وسيرته الصوفية، التي يحسن الاقتداء والاهتداء بها، والسير على منوالها، في مجتمع أحوج ما يكون إلى مثل هذه المنارات الروحية، التي رسخت من خلال رحلاتها السفارية نموذجا حيا للديبلوماسية الروحية، مع أهل تلك البلاد التي وطئتها أقدامهم، حيث صححوا المفاهيم والأحكام، وجددوا العهد مع أقطاب الطرق الصوفية، وحصّلوا إجازات الشيوخ، وخالطوا الناس والأقوام، فكان الإمداد والاستمداد.

الهوامش 

 

[1] سورة الحجرات، الآية 13.

[2] سياحة العارفين، فوزي محمد أبو زيد، دار الإيمان والحياة، القاهرة، ط1، 1431ﮬ/2010م، (من مقدمة الكتاب).

[3] فهرسة ابن عجيبة، حققها وقدم لها وعلق عليها: عبد الحميد صالح حمدان، دار الغد العربي، القاهرة، ط1، 1990م، ص ص: 48-49.

[4] اللمع، أبو نصر السراج الطوسي، تحقيق: عبد الحليم محمود، طه عبد الباقي سرور، مكتبة الثقافة الدينية، ط 1423ﮬ/2002م، ص: 251.

[5] أدب الرحلة الصوفية في الغرب الإسلامي، عبد الرحيم علمي، مجلة دعوة الحق، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط، المغرب، ع 350، 1420ﮬ/2000م، ص: 4.

[6] معالم صوفية وملامح سردية في رحلة ابن عابد الفاسي (دراسة تحليلية)، مريم الدلهومي، مجلة مرآة التراث، العدد 5، شعبان 1438ﮬ/ماي 2017م، مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث، الرابطة المحمدية للعلماء، الرباط، ص: 157.

[7] المرجع السابق، ص: 154.

[8] من أشراف فقهاء وصوفية بني وكيل بالعيون ملوك في القرن السادس عشر الميلادي، (الحلقة الثانية)، يونس زهواني، ينظر الموقع الإلكتروني: (www.elaioun.com).

[9] صورة الآخر في أدب الرحلات الأندلسية، (رسالة مقدمة إلى عمادة الدراسات العليا، الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها)، إعداد: بلال سالم الهروط، إشراف: فايز القيسي، جامعة مؤتة، الأردن، ص ص: 10-15.

[10] رحلة غريبة لشخص غريب، عبد القادر زمامة، مجلة دعوة الحق، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط، المغرب، ع 334، ذو الحجة 1418ﮬ/أبريل 1998م، ص: 4.

[11] معالم صوفية وملامح سردية في رحلة ابن عابد الفاسي، ص ص: 154-155.

[12] رحلة ابن عابد الفاسي “من المغرب إلى حضر موت”، يوسف بن عابد بن محمد الحسني الفاسي المغربي، حقق نصها وقدم لها وعلق عليها: إبراهيم السامرائي وعبد الله محمد الحبشي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط1، 1993م، ص ص: 75-76.

[13] المصدر السابق، ص: 75.

[14] ملتقط الرحلة من المغرب إلى حضر موت، يوسف بن عابد الإدريسي الحسني الفاسي، حقق المخطوط وقدم له وعلق عليه: أمين توفيق الطيبي، المدارس للنشر والتوزيع، د.ط، د.ت، ص ص: 13-14.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق