وحدة الإحياءدراسات عامة

الأساس الفلسفي للتاريخية وأثره على الموقف من ثبوت الوحي في الفكر الحداثي العربي

لقد تعددت المشاريع الحداثية في نقد التراث الإسلامي، كما تعددت اتجاهات واهتمامات تلك المشاريع، وإن كان الجامع بينها أنها تهدف إلى التشكيك في المنهجية التي يختص بها الإسلام من حيث ارتباطها بالوحي، ويشمل ذلك التشكيك في الوحي وإنكار ثبوته، أو التشكيك في دلالات النصوص وتفريغها من معانيها، أو التشكيك في العلوم الإسلامية التي قامت على الوحي..

 فمنها من اتجه مباشرة إلى نقد الوحي، تحت مسمى نقد العقل الإسلامي، كما في مشروع محمد أركون. ومنها من اتجه إلى الدعوة إلى تحكيم الواقع في فهم أصول الدين، والنصوص الشرعية تحت مسمى الانتقال من العقيدة إلى الثورة، كما في مشروع حسن حنفي، ومنها من اتجه إلى تطبيق مناهج التأويل المعاصر على نصوص الوحي بما يخرجها عن دلالاتها الظاهرة التي أجمعت عليها الأمة، كما في مشروع نصر حامد أبو زيد..

 ومنها من اتجه إلى نقد العلوم الإسلامية باعتبارها في نهاية المطاف لا تؤسس لليقين، وإنما غاية ما تصل إليه أن تكون ظنية، وتم إطلاق وصف العقل البياني على جملة العلوم الإسلامية، في مقابل العقل البرهاني الذي تختص به الفلسفة، وبخاصة حسب ابن رشد، كما في مشروع محمد عابد الجابري، ومشروعه وإن لم يصل إلى درجة التشكيك في الوحي بإنكار ثبوته ونفي مصدريته، إلا أنه يهدف إلى زعزعة الثقة بالعلوم الإسلامية المبنية على الوحي.

ومنها من اتجه إلى أرخنة الإسلام بإخراجه عن أن يكون دينا جامعا للأمة، إلى أن يكون إسلامات متعددة، واستغلال ما حصل من التفرق والخلاف في الأمة لتكريس هذا المعنى، كما في مشروع عبد المجيد الشرفي، إلى غير ذلك من المشاريع التي تهدف إلى زعزعة الثقة بالإسلام وأصوله، وإن كانوا في ذلك على درجات متفاوتة.

وعلى هذا فلم تقف تلك المشاريع، في أغلبها، عند حدود الاجتهاد البشري في التراث، أو ما يسمونه النصوص الشارحة، وإنما تجاوز ذلك إلى الوحي باعتباره حسب تعبيرهم النص المؤسس، وكانت التاريخية بمفهومها الفلسفي هي النظرية التي اشتركت هذه المشاريع في اعتمادها والاستناد إليها في تبرير ما تهدف إليه، وحاصل ما انتهت إليه تلك المشاريع فيما يتعلق بالوحي خاصة، هو إما التشكيك في ثبوته وإما التشكيك في دلالته، ففيما يتعلق بجانب الثبوت انتهت تلك المشاريع إلى إنكار مصدرية الوحي الشرعية، وربط تحققه بالواقع المادي، واعتباره محض نشاط بشري، وفيما يتعلق بجانب الدلالة فقد انتهت تلك المشاريع إلى الحكم بضرورة تغير الوحي وتكيفه بحسب تغير الواقع وصيرورته، وأنه لا اعتبار لمعنى ثابت للنصوص، وإنما تبقى النصوص مفتوحة لأي احتمال ولا نهائية المعنى.

وبناءً عليه، فإن الهدف من هذا البحث هو الكشف عن الحمولة المادية التي تتأسس عليها التاريخية، وبيان ما يترتب على ذلك من التشكيك في ثبوت الوحي خاصة، وذلك بالكشف عن حقيقة المادية في جانبي الوجود والمعرفة، وأنها كما تقوم على حصر الوجود في الواقع المادي المحسوس، فهي تحصر تحصيل المعرفة في الحواس، وبيان أن التاريخية مؤسسة على المادية بهذا المفهوم، وأنه لا يمكن وفق التاريخية إثبات الوحي لكونه حقيقة غيبية، لكون المادية وما تفرع عنها من التاريخية لا تعترف إلا بالواقع المادي المحسوس، وكان من جملة ما عرض له البحث بيان ما قد يحصل من خلاف حول مفهوم التاريخية، وهل يمكن توسيع دلالتها حتى تقبل ما هو متجاوز للواقع، أم أن ذلك مناقض لجوهر التاريخية.

أولا: الأساس الفلسفي للتاريخية

تقوم المادية على اعتبار أنه لا وجود إلا لما هو مادي، وأن كل ما هو غير مادي فليس له وجود مستقل عن المادة، وإنما هو مجرد انعكاس لها، بحيث لا يمكن تصور انفصاله واستقلاله في الوجود أو التأثير عن أصله المادي، ويتفرع عن ذلك، فيما يتعلق بالجانب المعرفي عند أصحاب الاتجاه المادي، حصر الحقيقة فيما هو مدرك بالحواس، وحاصل ذلك أن المادة هي وحدها الموجودة وهي وحدها المدرَكة.

وهذا المعنى في تعريف المادية، وأنها تقوم على القول بحصر الوجود في المادة المحسوسة هو قدر مشترك اتفقت عليه المعاجم الفلسفية، وقد جاء في تعريف المادية في موسوعة “لالاند” أنها: “الأطروحة التي تقول بعدم وجود شيء قابل للانفصال عن المادة الجسمانية”[1]. ومما جاء في المعجم الفلسفي لجميل صليبا في تعريف المذهب المادي أنه: “المذهب الذي يفسر كل شيء بالأسباب المادية، ويطلق في علم ما بعد الطبيعة على مذهب الذين يقولون إن المادة وحدها هي الجوهر الحقيقي الذي به تفسر جميع ظواهر الحياة، وجميع أحوال النفس”[2]. كما جاء في المعجم الفلسفي الذي أصدره مجمع اللغة العربية في تعريف المادية أنها: “مذهب يرد كل شيء إلى المادة، فهي أصل ومبدأ أول، به دون غيره تفسر الموجودات”[3].

ولا شك أن إنكار الماديين لكل وجود غير الوجود المادي المحسوس يستلزم بالضرورة إنكار وجود الله تعالى وإنكار كل ما هو غيبي، سواء أمكن الاستدلال عليه بالعقل، أو كان الوحي هو الدليل عليه؛ لأن العقل عندهم ليس إلا فرعا عن المادة، وتصوراته لا تخرج عن أن تكون مجرد انعكاس للواقع المحسوس، ومن هنا كان التلازم بين المادية والإلحاد، كما أن إنكار دور العقل في الدلالة على ما هو خارج الواقع المحسوس يستلزم أن يكون الإنسان محكوما بالمادة بحيث لا يمكنه إلا الخضوع لصيرورة المادة وتشكلها.

وإذا كانت المادية في أساسها الفلسفي هي حصر الوجود فيما هو مادي محسوس، وما يترتب على ذلك من رفض الإيمان بالله تعالى، وإعلان الانفكاك عن الحاجة إلى الدين والوحي والنبوة؛ إلا أنها قد مرت في الفكر الغربي بمرحلتين لكل منهما خصائص ومحددات تفصل كلا منهما عن الأخرى، ويمكن تحديد خاصية المرحلة الأولى للمادية في إعلان استقلال الإنسان عن الله تعالى، واعتبار أن الإنسان هو سيد المادة والمتحكم فيها، وهي ما عبر عنه نيتشه بموت الإله، لكن المادية لم تقف عند هذا الحد، بل تجاوزت في مرحلتها الثانية الإنسان أيضا، وألغت كل ما يمكن أن يعبر عن حقيقة مطلقة سواء في جانب التصورات والمعارف، أو في جانب الأخلاق والسلوك[4].

ففي المرحلة الأولى كان التأكيد على مجرد نزع القداسة عن كل ما يتعلق بالإيمان بالله تعالى؛ لأن خاصية تلك المرحلة هي النفور من الدين، والتحول إلى استقلالية الإنسان عن الله تعالى، ثم تحول معنى المادية، مع نزع القداسة والنفور من الدين وترك الإيمان بالله، إلى التأكيد على ملاحظة الصيرورة والتحول الدائم في الطبيعة، وما يلزم عن ذلك من ضرورة التحول الدائم في الأفكار..

 في المرحلة الأولى كان التأكيد على دور الإنسان وكفايته، وعدم حاجته إلى إله، ولا إلى وحي ونبوة، ومن هنا جاء التأكيد في هذه المرحلة على دور العقل ليحل محل الإيمان بالله، أما في المرحلة الثانية فتم إلغاء دور الإنسان أيضا، وأعلن موت الإنسان بعد إعلان موت الإله، وتبعا لذلك، تم إلغاء أي حكم مطلق، أو أي محاولة للوصول إلى اليقين، وحل محل ذلك الحكم بالصيرورة والتحول الدائم دون اعتبار لحكم عقلي أو قيمي أو ثوابت أو مسلمات، وعلى كل حال فالمرحلتان لا تخرجان عن المادية، لكن وبحسب تعبير عبدالوهاب المسيري فإنه يمكن التعبير عن المرحلة الأولى بأنها مادية عقلانية صلبة، وأما المرحلة الثانية فيعبر عنها بأنها مادية لا عقلانية سائلة.

والحقيقة أن تجاوز دور الإنسان في مرحلة المادية اللاعقلانية السائلة كان حتميا وأمرا لا يمكن الفكاك منه، بل إن القول بالمادية مع القول بالعقلانية متعارض في نفسه، ويمكن الكشف عن تناقضه بالنظر في مفهوم وحقيقة كل من المادية والعقلانية، وأنه لا يمكن اعتبار المادية إلا مع إلغاء العقلانية، كما أنه لا يمكن اعتبار العقلانية إلا مع تجاوز المادة؛ لأن عقل الإنسان حسب التفسير المادي لا يمكن أن يخرج عن المادة، بل لا يعدو أن يكون جزءا منها أو انعكاسا لها، فأحكام العقل على هذا لا يمكن أن تكون متجاوزة للمادة وحاكمة عليها، بل لابد أن تكون داخلة في إطار المادة ومحكومة بها، وإذا كانت المادة حسب التفسير المادي أيضا محكومة بالصيرورة، وهي في تحول مستمر ودائم لا إلى غاية محددة وإنما إلى مجرد ما تنتجه الصيرورة التي لا معنى للثبات فيها فإنه لا يمكن أن يكون للعقل أحكام ثابتة، وإلا لزم التناقض بين العقل وبين مصدره[5].

ويستند التبرير الفلسفي للاتجاه المادي فيما يتعلق بإنكار الوجود المستقل عن المادة لكل ما هو غير مادي إلى استحالة إثبات وجود متواز لحقائق محسوسة وحقائق غير محسوسة، بحيث لا يرجع أحدهما في حقيقته وتكوينه ومبدأ وجوده إلى الآخر، وبيان ذلك من وجهة نظرهم هو في أننا إذا كنا ندرك إدراكا ضروريا الواقع المحسوس، كما أننا ندرك مع ذلك تصوراتنا وأفكارنا، فهل يصح تطبيق ما نشعر به من هذا التوازي بين الواقع المحسوس وبين أفكارنا في الجانب المعرفي على جانب الوجود لكل منهما، بمعنى أنه هل يمكن إثبات حقيقة وجودية مستقلة لكل من الواقع المادي المحسوس وتصوراتنا وأفكارنا، أم أنه لابد أن يرجع أحدهما في حقيقته النهائية إلى الآخر؟ افتتح “جارودي” كتابه “النظرية المادية في المعرفة” ببيان المستند الفلسفي للاتجاه المادي في المعرفة، وادعى أنه لا مخرج في ذلك من الالتزام بأحد خيارين؛ إما القول بأن المادة هي الأصل وأن كل ما عداها مجرد انعكاس لها، وهي النظرية المادية في المعرفة، وإما القول بأن المادة فرع عن الوعي والروح، وهي النظرية المثالية في المعرفة، وبنى على ذلك بيان ما تختص به النظرية المادية من القول: “بأن حوادث العالم هي الأوجه المختلفة للمادة المتحركة… وأن المادة هي بالتالي الواقع الأول، وليست إحساساتنا وفكرنا سوى نتاج هذا الواقع وانعكاسه[6]“.

وإذا كانت هذه هي المادية في كل من جانبي الوجود والمعرفة، فما هو الأثر المنهجي لاعتبار كل ما عدا المادة مجرد انعكاس لها، وعلى وجه الخصوص ما هو التفسير المتوقع للنبوة والوحي بناء على اعتماد هذا الاتجاه، وهل يمكن إثبات حقيقة للوحي ليست مرتبطة بالواقع المادي ولا متفرعة عنه، ثم هل يمكن، مع ذلك، أن يكون لنصوص الوحي معان ثابتة لا تتحول وتتغير وفق تحولات الواقع؟

إن التفسير المادي لا يمكن أن يثبت للوحي حقيقة مستقلة عن الواقع المادي من جهة، ولا أن يعترف بمعان ثابتة لا تقبل التحول لنصوص الوحي من جهة أخرى، لأن هذا هو التفسير الوحيد الممكن الذي يعترف به الاتجاه المادي، وهذا التفسير هو الذي يعرف في مجال الدراسات الفلسفية المعاصرة بالتاريخية، وهي على هذا النظرية المادية التي يستند إليها الماديون في تفسير العلاقة بين الواقع المحسوس، وبين ما هو خارج نطاق الواقع المحسوس، لا فرق في ذلك بين الوحي وغيره، ولا يمكنهم أن يفسروا ذلك بغير هذه النظرية إلا في حال التخلي عن الاتجاه المادي نفسه، وهذا ما لا يمكن أن يقبلوا به.

وتعريف التاريخية، وفق هذا المفهوم، مما يحتاج إلى زيادة بيان وتقرير، حتى يمكن بعد ذلك النظر في حقيقة موقف التاريخية من الوحي من جهة مصدريته وربطه بالواقع، ومن جهة ما يفرضه التفسير لنصوص الوحي وفق التاريخية من ضرورة الصيرورة والتحول الدائم لمعاني النصوص.

ومن أدق التعريفات للتاريخية ما جاء في معجم لالاند، وقد ذكر لها معنيين هما: “أ. وجهة نظر تقوم على اعتبار موضوع معرفي بصفته نتيجة حالية لتطور يمكن تتبعه في التاريخ.

ب. بنحو خاص، يقال على المذهب الذي يرى أن الحقوق، شيمة اللغات والعادات، هي نتاج إبداع جماعي غير واع وغير إرادي، إبداع يتناهى في لحظة انصباب الفكر عليه، ولا يمكن لاحقاً تبديله صراحة ولا فهمه وتأويله بطريقة أخرى، غير طريقة دراسته التاريخية… بهذا المعنى يتعارض مع العقلانية[7].

وما أشار إليه “لالاند” في خاتمة التعريف الثاني من أنه يتعارض مع العقلانية يبين حقيقة الفرق بين التعريفين، وأنه قد يقصد بالتاريخية تتبع أمر ما باعتباره نتيجة حتمية لتطور يمكن تتبعه في التاريخ، وذلك التتبع، وإن كان خاضعا للواقع وتحولاته مع استبعاد أي تفسير غيبي، إلا أنه محكوم بما يفرضه العقل من أحكام ضرورية تستند إلى الثبات في الذات العارفة، والثبات في حقائق الأشياء الموضوعية، وهذا هو حاصل التعريف الأول للتاريخية، بخلاف ما يؤدي إليه التعريف الثاني لها، فإنه يلغي أي اعتبار للثبات في الذات والموضوع، مما يؤدي إلى أن تكون النسبية ملغية لاعتبار أي حقيقة، فتكون التاريخية وفق المعنى الأول مكتفية بمجرد نزع القداسة عن كل ما يراد تفسيره، ويضاف إلى نزع القداسة وفق التعريف الثاني إلغاء أي أساس لثبات الحقيقة ذاتا وموضوعا.

وجاء في تعريف التاريخية في المعجم الفلسفي لجميل صليبا أن: “التاريخية هي القول بأن الأمور الحاضرة ناشئة عن التطور التاريخي، ويطلق هذا اللفظ أيضا على المذهب القائل: إن اللغة والحق والأخلاق ناشئة عن إبداع جماعي لا شعوري ولا إرادي، وإن هذه الأمور قد بلغت الآن نهايتها، وإنك لا تستطيع أن تبدل نتائجها بالقصد، ولا أن تفهمها على حقيقتها إلا بدراسة تاريخها، ويرى أصحاب هذا المذهب أيضا أننا لا نستطيع أن نحكم على الأفكار والحوادث إلا بالنسبة إلى الوسط التاريخي الذي ظهرت فيه، لا بالنسبة إلى قيمتها الذاتية، لأننا إذا نظرنا إليها من الناحية الذاتية فقط ربما وجدناها خاطئة أو منكرة، ولكننا إذا نسبناها إلى الوسط التاريخي الذي ظهرت فيه وجدناها طبيعية وضرورية”[8].

ومما جاء في تعريف التاريخية، وفق هذا المعنى، ما جاء في الموسوعة الفلسفية التي وضعتها لجنة من العلماء والأكاديميين السوفياتيين، حيث بينوا أن: “الغرض من الدراسة التاريخية هو كشف الشروط والمستلزمات الحسية لتطور الظواهر وتعاقبها التاريخي، وانتقالها من مراحل معينة ضرورية تاريخيا إلى مراحل أخرى”[9]. كما جاء في قاموس روبير تعريف التاريخية حسب ما نقله أركون بأنها: “العقيدة التي تقول بأن كل شيء أو حقيقة تتطور مع التاريخ، وهي تهتم بدراسة الأشياء والأحداث من خلال ارتباطها بالظروف التاريخية”[10].

وأما الجدل حول التاريخية والتاريخانية، وهل بينهما فرق أم لا، فإنما يدور الخلاف في ذلك في إطار الاتجاه المادي، فيبقى شكلا من أشكال التصنيفات الداخلية للتفسير المادي التي لا يؤدي الحسم فيها إلى اتخاذ موقف مختلف من الغيبيات عموما والوحي خصوصا، وبوجه عام يمكن اعتبار التاريخانية ضمن إطار المادية العقلانية، أو المادية الصلبة، كما يمكن اعتبار التاريخية ضمن إطار المادية اللاعقلانية، أو المادية السائلة، حسب تصنيف المسيري للتفريق بين اتجاهي المادية.

 ووفق تحليل محمد أركون لحقيقة الفرق بينهما فإن التاريخانية “كانت في أوج انتصارها إبان القرن التاسع عشر، وأن صعودها قد ارتبط بنجاح الفلسفة الوضعية لأوجست كونت، وهي تمثل مرحلة متقدمة لا شك بالنسبة إلى طريقة كتابة التاريخ في العصور الوسطى… ولكن ينبغي تجاوزها إلى التاريخية”[11]. ويلخص أركون مستنده في الدعوة إلى تجاوز التاريخانية إلى التاريخية بالقول: “تتيح لنا التاريخية أن نبقى دائما في مستوى التساؤل، في حين أن التاريخانية تغذي الوهم بوجود اتجاه محدد أو معنى وحيد ومعروف للتاريخ”[12]. وعلى هذا فلا فرق بين التاريخانية والتاريخية من حيث المادية وإنكار الحقائق الغيبية، وإن كان بينهما فرق من حيث أنه يفترض في التاريخانية وجود نسق معقول يكشف عن قوانين التحول والتغير في الظواهر التي تخضع للدراسة التاريخانية، بخلاف التاريخية فإن الأمر يبقى مفتوحا لكل احتمال، وفي مستوى التساؤل حسب تقرير أركون.

والحاصل أن المعنى الذي ترجع إليه التاريخية والمعبر عن جوهرها هو أنها تقوم على أساسين متلازمين، أحدهما: الارتباط بالواقع وعدم تجاوزه، بحيث يكون التحقق من كل ما يخضع للتاريخية مشروطا بكونه في زمن محدد، ومراجعة تطوره عبر تاريخه الواقعي، والنظر إلى نتائج تلك الظاهرة من خلال تطورها التاريخي، وعدم الاعتماد في ذلك على كل ما يجاوز الواقع المحسوس، وأما الأساس الثاني للتاريخية فهو ما يلزم من التحول والصيرورة في الواقع المادي من التحول والصيرورة في معرفتنا بذلك الواقع، لأن معرفتنا بالواقع هي مجرد انعكاس له.

وتعريف التاريخية وفق هذا المفهوم هو الذي بنى عليه الحداثيون العرب موقفهم من الوحي والتزموا بلوازمه، وإن كان بعضهم قد حاول التبرير لاعتماد التاريخية استنادا إلى توسيع مفهومها وما تشمله من مجالات، بحيث تشمل الدين، والمقصود هنا بيان ما يتعلق بالتاريخية من حيث هي مقولة لها أساسها الفلسفي.

وفي بيان ماذا تعني التاريخية يقول أركون: “إنها تعني أساسا أن حدثا تاريخيا ما قد حصل بالفعل، وليس مجرد تصور ذهني كما هو الحال في الأساطير”[13]. وأركون يعني بالمقابلة بين ما حدث بالفعل وبين ما هو مجرد تصور ذهني الحكم على كل ما يكون ثبوته قائما على استدلال عقلي أو كان الوحي هو مستند ثبوته دون أن يكون مدركا بالحواس بأنه ليس موجودا بالفعل، وإنما هو مجرد تصور ذهني، وعنده أنه لا فرق بين تلك التصورات التي لا يمكن التحقق من ثبوت متعلقاتها بالإدراك الحسي وبين الأساطير..

 وهذا هو تحقيق معنى أن المادية التي لا وجود فيها إلا للواقع المادي المحسوس هي الأساس الفلسفي للتاريخية، ومع دلالة التاريخية على إنكار البعد الغيبي فهي تدل كذلك على التحول والصيرورة في جميع التصورات والمفاهيم، لكونها مجرد انعكاس للتحول والصيرورة في الواقع، وفي بيان دلالة التاريخية على هذا المعنى يقول أركون: “المقصود بالتاريخية هنا التحول والتغير، أي تحول القيم وتغيرها بتغير العصور والأزمان”[14]. ومن أهم أهداف أركون في اعتماد التاريخية دراسة القرآن باعتباره ظاهرة نشأت في واقع تاريخي محدد، لا باعتباره وحيا متجاوزا للواقع، وفي هذا المعنى يقول أركون: “أريد لقراءتي هذه أن تطرح مشكلة لم تطرح عمليا قط بهذا الشكل من قبل الفكر الإسلامي، ألا وهي تاريخية القرآن وتاريخية ارتباطه بلحظة زمنية وتاريخية معينة”[15].

ويؤكد هاشم صالح مترجم أعمال أركون على نفس المعنى الذي ذكره أركون هنا في معنى التاريخية فيقول: “إن كل شيء يتغير مع التاريخ، وإنه حتى العقائد والأفكار الأكثر تأصيلا ورسوخا “العقائد الدينية، فكرة الله والتعالي، الإيمان، المؤسسات الاجتماعية والسياسية الخ…” ليست بمنأى عن التحول والتغير، حتى ولو اعتقد الإنسان واعيا أو غير واع أنها أشد ثباتا من الجبال”[16].

وفي السياق نفسه، يبين حسن حنفي معنى التاريخية فيقول بأنها: “تكوين الظاهرة نشأة وتطورا في مجتمع بعينه، وفي ظروف محددة، وفي مرحلة زمنية خاصة، والفكر ظاهرة، والظواهر الفكرية اجتماعية، والظواهر الاجتماعية ظواهر تاريخية، ولا شيء يحدث بما في ذلك الفكر إلا في المجتمع والتاريخ”[17].

وهنا نجد التفسير المادي للعلاقة بين الفكر والواقع واضحا؛ فالواقع هو الأصل والفكر تابع، وكل ما عدا الواقع فهو داخل في إطار المتغير، فتعريف حسن حنفي للتاريخية هنا يحمل معنى أصالة الواقع وتفرده بالوجود الحقيقي، وعدم استقلالية جميع القيم والتصورات والعقائد عن الواقع، كما يحمل معنى التحول في تلك القيم والتصورات بتغير الواقع، وهما المعنيان المؤسسان للمفهوم الفلسفي للتاريخية، ولهذا نجد أن جميع دراسات حسن حنفي عن العقائد الإسلامية إنما تدور في هذا الفلك المادي.

 وفي السياق نفسه يحدد علي حرب مفهوم التاريخية بالقول: “التاريخية تعني أن للأحداث والممارسات والخطابات أصلها الواقعي، وحيثياتها الزمانية والمكانية، وشروطها المادية والدنيوية، كما تعني خضوع البنى والمؤسسات والمفاهيم للتطور والتغير، أي قابليتها للتحويل والصرف وإعادة التوظيف”[18].

 والحاصل مما سبق أنه لا يمكن فهم التاريخية إلا بربطها بأساسها الفلسفي، والذي يقوم في جانب الوجود على إنكار كل ما يجاوز الواقع المادي المحسوس، كما يقوم في جانب المعرفة على اعتبار الفكر وكل ما ليس بمادي مجرد انعكاس للواقع المادي، ولا تعدو أن تكون التاريخية بهذا المفهوم مجرد نظرية مادية في التفسير، بحيث لا يمكن الاستناد إليها في الحكم على الأفكار وتفسير الظواهر مع الخروج عن أساسها الفلسفي.

ومع ما تقدم من بيان دلالة مفهوم التاريخية على ضرورة الارتباط بالواقع لكل ما يخضع للتفسير استنادا إلى هذه المقولة، إلا إن بعض من يعتمد هذه المقولة قد ادعوا أنه لا يلزم أن يكون هذا المعنى معتبرا في كل ما يتم تفسيره استنادا إلى التاريخية، بل يمكن حسب قولهم الجمع بين الاستناد إلى التاريخية، وبين اعتبار ما يجاوز الواقع، وخصوصا فيما يتعلق بالوحي الذي هو موضوع هذه الدراسة، وممن أشار إلى هذا الاتجاه في معنى التاريخية الدكتور محمد عابد الجابري، وسنعرض هنا إلى ما يتعلق بتبريره لهذا الاتجاه في تحديد مفهوم التاريخية، لأهمية رأيه في هذه المسألة/المشكلة، وهل يمكن القول بتاريخية القرآن أم أن ذلك غير ممكن؟

فيما يظهر فالجابري يفرق في تعريفه للتاريخية بين التاريخية من حيث المفهوم العام، وبين التاريخية في حال تعلقها بما يسميه قطاعات خاصة هي الدين والفن والفلسفة، وتعريفه للتاريخية في مفهومها العام مطابق لما سبق من الدلالة على ارتباط الفكر بالواقع وصدوره عنه، بينما يضع بعض التقييدات لمفهوم التاريخية حين يتعلق الأمر بهذه القطاعات، فهو يشير في تعريفه لتاريخية الفكر على أن المقصود به: “ارتباطه بالواقع السياسي الاجتماعي الاقتصادي الثقافي الذي أنتجه، أو على الأقل تحرك فيه”[19]، وفي مقال له بعنوان: “شعار تاريخية النص ليس هو الحل” يؤكد على المفهوم العام للتاريخية بقوله: “أما معناه الأولي فيفيد النسبة إلى التاريخ، فعندما يوصف به الشيء فإن ذلك يعني أن ذلك الشيء له وجود حقيقي؛ أي أنه وجد فعلا وجودا تاريخيا يتحدد بالزمان والمكان، وليس مجرد وجود افتراضي أو أسطوري[20]“.

وهنا نلاحظ أن تعريف الجابري للتاريخية ينص على ضرورة ربط الفكر بالواقع، كما ينص على أن ما يكون تاريخيا لابد أن يكون له وجود يتحدد بالزمان والمكان، بحيث لا يكون وجوده افتراضيا أو أسطوريا، وما ذكره الجابري هنا فإنما هو في حقيقة الأمر تأكيد على نفس الشروط المؤسسة لمفهوم التاريخية وفق الأساس الفلسفي المادي على ما سبق بيان القول فيه.

وفيما يتعلق بتاريخية القرآن وهو ما يدخل عنده فيما يطلق عليه تاريخية النص، فإننا نجد أن الجابري يتجاوز هذا المفهوم العام، حيث حاول أن يجد مخرجا للقول بتاريخية القرآن لا يصادم فيه ما هو معلوم بالضرورة من أن الوحي متجاوز للواقع خارج عن إطار الصدور عنه، وللوصول إلى هذه النتيجة فقد أكد الجابري على بعض التقييدات لمفهوم التاريخية، وتعود تلك التقييدات إما إلى التأسيس لمفاهيم للتاريخية لا يكون فيها الواقع مصدرا للقرآن، وإما إلى تقييد بعض القطاعات ومنها الوحي عن الخضوع للتاريخية بمفهومها الفلسفي.

 ويمكن إجمال ما ذكره الجابري من تلك التقييدات في عدة احتمالات، منها: “أن القرآن نص تاريخي؛ بمعنى أنه وجد وجودا حقيقيا في زمن ومكان”[21]، ومنها: “أن القرآن تاريخي بمعنى أنه ينتمي إلى الماضي”[22]، أو بمعنى “أنه كان حدثا تاريخيا أسس المستقبل”[23]، أو بمعنى “أنه مرتبط بظروف تاريخية… وقد يصح القول أيضا أن تلك الظروف هي بمعنى من المعاني نتيجة له”[24].

 ويجمع هذه الاحتمالات وما تدل عليه من المعاني، أن التاريخية فيها لا تدل على المفهوم الفلسفي الذي يفهم منه مصدرية الواقع للوحي، وأما فيما يتعلق بتقييد بعض القطاعات عن الخضوع للتاريخية، فإن الجابري ينص على “أن الدين والفلسفة قطاعات معرفية تخترق الزمنية، وتنفصل عن ظروف المكان لتشكل نماذج ملموسة لما هو أبدي مطلق”[25].

وما ذكره الجابري وانفرد به من هذه التقييدات التي حاول بها حل إشكال القول بتاريخية القرآن مما يحتاج إلى نظر وتأمل، فهل يمكن قبول ما ذكره أم أن ذلك غير ممكن؟ لأنه تعرض لما ذكره إشكالات واعتراضات عويصة تحتاج إلى إجابات، وأهم ما يعترض به على ما قرره الجابري في هذه المسألة ما يلي:

  1. أن الجابري قد نص في تعريفه لتاريخية الفكر، وفي تعريفه للتاريخية في معناها العام، على اعتبار المفهوم الفلسفي للتاريخية، حيث اعتبر في تعريفه لتاريخية الفكر أن الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي منتجا للفكر، كما اشترط في التعريف العام بالتاريخية أن يكون ما يخضع للتفسير التاريخي قد وجد فعلا وجودا تاريخيا مشروطا بالزمان والمكان، وأشار إلى ما يؤكد عليه من يقول بالتاريخية وفق معناها الفلسفي من اعتبار ما ليس وجوده مشروطا بالزمان والمكان من قبيل الأساطير.

 وكل هذا يؤكد على قبول الجابري بالمفهوم الفلسفي للتاريخية، وأنه إنما يذكر ما يذكره من قيود واشتراطات في مفهوم التاريخية في حال تعلقها بالوحي خاصة، وبصرف النظر عن الدافع له إلى ذلك، فإن ما ذكره وقيد به معنى التاريخية في تعلقها بالوحي غير مقبول، لأنه لا يصح أن يكون مفهوم التاريخية مختلفا لمجرد اختلاف مجاله، بل إما أن يكون دالا على اشتراط الارتباط بالواقع في كل ما يتم تفسيره، فلا يكون للوحي خصوصية تخرجه عن هذا الاشتراط، وإما ألا يكون مفهوم التاريخية دالا على اشتراط الارتباط بالواقع، لا في الوحي ولا في غيره، وهذا يتناقض مع ما هو معلوم من المفهوم الفلسفي للتاريخية على ما سبق تقريره، فتبين أنه لا يقبل للتاريخية إلا معنى واحد، بحيث يتم تطبيقه في جميع المجالات دون تفريق بينها.

  1. أن المعاني التي ذكرها للتاريخية، والتي يجمعها عدم اشتراط الارتباط بالواقع حسب المفهوم الفلسفي لها ليست مقبولة عند التحقيق، وهي أشبه بالافتراضات التي تستند إلى مجرد الدلالة اللغوية للتاريخية دون اعتبار مفهومها الفلسفي، فمن يقول بتاريخية القرآن على الوجه المعتبر للتاريخية لا يمكن أن يجاوز المعنى الفلسفي إلى مجرد ما تقبل اللغة إطلاقه، فليس المقصود بتاريخية القرآن عند من يطلقها أنه قد تحقق وجوده في زمن معين ومكان معين دون ملاحظة أن يكون ذلك التحقق مشروطا بارتباطه بالواقع في الزمان والمكان الذي تحقق فيه.

 كما أنه ليس المقصود بتاريخية القرآن مجرد كونه ينتمي إلى الماضي، أو أنه كان حدثا تاريخيا أسس المستقبل، أو أن مراعاة الظروف التاريخية وما يعرف بأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، كانت معتبرة في نزول القرآن الكريم، دون أن تكون تلك الأسباب منشئة له، بل كل هذه المعاني وإن كانت صحيحة في ذاتها لكنها مخالفة للمعنى الحقيقي للتاريخية، مخالفة تصل إلى درجة المناقضة، ولذلك لا نجد من يقول بتاريخية القرآن يعتمد هذه المعاني عند تطبيق معنى التاريخية على القرآن، كما هو ملاحظ في دراسات محمد أركون وحسن حنفي وعبد المجيد الشرفي وغيرهم ممن يطلق هذا المعنى على القرآن.

  1. أن الجابري لم يكتف بما ذكره من أن للتاريخية معاني محتملة لا يكون فيها الواقع هو المنتج لكل ما يراد تفسيره، وجعل ذلك مخرجا للقول بتاريخية الوحي خاصة، بحيث يمكن أن يجتمع في نصوص الوحي أنها تاريخية لكن لا بمعنى أن الواقع قد أنتجها، أقول إن الجابري لم يكتف بذلك، بل إنه وإن ذكر هذه الاحتمالات للتاريخية، فإنه كان لابد أن يواجه الموقف من التاريخية بمفهومها الفلسفي وفيما يتعلق بالوحي خاصة، وذلك للإجابة عن سؤال إمكانية دخول الوحي ضمن هذا المفهوم الفلسفي، أم أن هذا المفهوم يهدم خصوصية الوحي ويتناقض معه، من حيث ضرورة الإيمان بتجاوز الوحي للواقع وتعاليه عليه.

 وفي محاولته لبيان الموقف من هذه المسألة، يقول الجابري: “الإشكال الذي يطرحه هذا النوع من الطرح، أعني القول بتاريخية النص القرآني هو تلك المشكلة المعقدة المعروفة في تاريخ الفلسفة بمشكلة علاقة الفكر بالواقع، وفي علم الاجتماع بمشكلة علاقة المعرفة بالمجتمع وأطره، ووراء هاتين المشكلتين تثوي مشكلة فلسفية أكثر تعقيدا، على الأقل في زمانها، هي مشكلة الأبدي والزمني، مشكلة المطلق والنسبي، وقد لا نبعد إذا قلنا إن الذين يطرحون مسألة تاريخية النص من الكتاب المعاصرين إنما يقصدون بذلك ربط القرآن كنص معرفي بكل من الواقع والمجتمع والزمني والنسبي، وهذا موقف تقول به مدارس فكرية عديدة، ليس بالنسبة للقرآن وحده، بل لكل نص، مقدس عند أهله أو غير مقدس، ومع ذلك يبقى أن الدين والفن والفلسفة قطاعات معرفية تخترق الزمنية، وتنفصل عن ظروف المكان، لتشكل نماذج ملموسة لما هو أبدي مطلق[26].

وإنما نقلت هذا النص بطوله لأنه محاولة فريدة للخروج من إشكالية دخول الوحي ضمن ما يمكن تفسيره وفق مقولة التاريخية، لكننا نجد أن الجابري قد وقع في هذه المحاولة في تناقض ظاهر لا يمكن الفكاك منه، وحاصله أن التاريخية إذا أخذت بمفهومها الفلسفي الذي لا احتمال فيه لخروج أي ظاهرة عن أن تكون انعكاسا للواقع، بحيث لا يمكن وجود ما يجاوز الواقع أو يكون منعكسا عنه، وبحسب وصفه يكون أبديا ومطلقا، وهذا المعنى هو ما يحاول الجابري إيجاد منفذ للخروج منه، فهنا نجد أننا أمام مفهوم للتاريخية يناقض جوهر التاريخية، ولا يمكن بحال التصرف بالمفاهيم بمثل هذه الصورة التي يمكن فيها القبول بالمفهوم ونقيضه، بل أقصى ما يدل عليه صنيع الجابري هنا أنه شعر بإشكالية مفهوم التاريخية في تطبيقه على القرآن، لكنه لم يفلح في الخروج من هذا الإشكال، فهو وإن كان جهده مقدرا في محاولته إخراج القرآن من هيمنة التاريخية وماديتها، لكنه لا يمكن القبول بما وصل إليه من نتيجة مع ما في تقريره من هذا التناقض، وهذا يعيدنا إلى أصل المسألة وهو أنه ليس للتاريخية إلا معنى واحد، هو المفهوم الفلسفي لها، وأنه لا إمكان للخروج من هذا المفهوم إلا بإبطال المفهوم نفسه وعدم اعتباره.

وأما إذا قيل إن الجابري لم يرد تقييد مفهوم التاريخية، بحيث يكون قابلا لما يعارض مفهومها الفلسفي، وإنما أراد الإبقاء على مفهوم التاريخية في إطاره العام، لكنه أراد، مع ذلك، استثناء بعض القطاعات عن أن تكون محكومة بها، لكن يبقى أن هذا الاستثناء على هذا الوجه مما لا يوافق عليه من يقول بأن التاريخية منهج للتفسير، لا يمكن تصور خروج أي ظاهرة عن أن تكون محكومة بها، وهذا هو الاتجاه الذي يعتمده كل من يقول بالتاريخية حسب تعريفها الفلسفي، وعلى هذا الاحتمال يكون فيما ذكره الجابري نقد لتعميم التاريخية، وهذا عند من يقول بتعميمها مناقض لحقيقتها وما يقتضيه أساسها الفلسفي.

 وينبغي التمييز بين موقف الجابري من مفهوم التاريخية، وهو المقصود هنا، وبين موقفه من ثبوت الوحي، فإنه وإن كان بين ما قرره فيما يتعلق بمفهوم التاريخية علاقة بموقفه من ثبوت القرآن، لكن مسألة ثبوت القرآن لها مقام آخر ليس المقصود بيانه هنا، والجابري لم يناقش مفهوم التاريخية وقف هذا التأويل إلا للخروج من مأزق تاريخية القرآن، بمعنى ربطه بالواقع وإنكار غيبته وتجاوزه للواقع، وهو أمر يحمد له ويخرجه عن دائرة الحداثيين الذين يصرحون بما يناقض ثبوت القرآن، كما سيأتي تفصيل القول فيه في المسألة الخاصة بذلك في المبحث القادم إن شاء الله.

ثانيا: التاريخية وثبوت الوحي

إذا تبين أن المادية هي الأساس الفلسفي للتاريخية، فإنه يستحيل التوفيق بين التاريخية وبين إثبات ما يجاوز الواقع المادي المحسوس؛ لأن إثبات أي حقيقة لها وجود مستقل عن الواقع المحسوس لابد أن يتعارض تعارضا تاما مع الأساس الفلسفي للتاريخية، وعلى هذا فليس أمام من يعتمد التفسير المستند إلى التاريخية إلا أن يلغي كل ما هو غيبي من اعتباره، وإن لم يجاوز ذلك إلى البحث في تفسير اعتقاد من يعتقد بثبوت تلك الغيبيات، أو أن يلجأ إلى تفسير تلك الحقائق الغيبية وفق نظرية الانعكاس، التي تعتبر أي وجود خارج إطار الوجود المادي مجرد انعكاس للوجود المادي.

 وإذا كان أصل الخلاف مع الماديين، فيما يدعونه من عدم إمكان الاستدلال على ثبوت أي حقيقة غيبية، فإنه لا يمكن الرد على إنكارهم لذلك مع التزامهم بما يدعونه من حصر الوجود في الواقع المادي المحسوس، لأن الكلام عن وجود أي حقيقة غيبية لابد أن يستند، ابتداءً، إلى التسليم بإمكان وجود حقائق غيبية، وإمكان الاستدلال على ثبوتها، وعلى هذا فليس المقصود هنا هو إثبات الوحي عموما والقرآن خصوصا، وإنما المقصود هو مجرد بيان التلازم بين التاريخية، على اعتبار أن المادية هي أساسها الفلسفي وبين عدم إمكان إثبات الوحي.

لكن الماديين لم يسلكوا منهجا واحدا في بيان موقفهم من الوحي، بل منهم من سلك مسلك التصريح بإنكار الوحي، والاستناد في ذلك إلى أساس مذهبهم القائم على إنكار الحقائق الغيبية، وادعوا بناء على مذهبهم أنه لو كان للوحي حقيقة لأمكن أن يكون ظاهرة محسوسة، بحيث لا يختص الأنبياء بإدراكها، وأصحاب هذا الاتجاه لا يجاوزون إنكار الوحي إلى تفسير ما وراء ذلك من تحقق الوحي ووجود أنبياء وكتب تتضمن الوحي وغير ذلك مما يلزم من إثبات الوحي، بل يعتبرون ذلك من قبيل الأوهام التي صدق بها من صدق دون بينة ولا برهان، وممن سلك هذا المسلك عادل ظاهر في كتابه “الأسس الفلسفية للعلمانية”، حيث ركز على ما يراه أدلة على عدم إمكان الوحي.

وهناك اتجاه آخر لم يكتف أصحابه بمجرد إنكار الوحي، بل سلكوا مسلك التفسير لما سموه ظاهرة الوحي، واستخدموا في ذلك نفس المعايير التي يستندون إليها في دراسة أي ظاهرة اجتماعية، وكانت التاريخية هي أبرز ما استندوا إليه في بيان موقفهم من الوحي، وكانت النتيجة التي انتهوا إليها فيما يتعلق بثبوت الوحي هي نفس النتيجة التي انتهى إليها المنكرون للوحي، حيث انتهوا إلى إنكار أن يكون للوحي حقيقة تجاوز الواقع المادي، وتلك هي الحقيقة الشرعية التي لا يصح إثبات الوحي إلا بإثباتها، وكان ما اختص به أصحاب هذا الاتجاه هو ما ادعوه من إمكان ربط الوحي بالواقع وفق النظرية المادية في المعرفة التي تعتبر الفكر مجرد انعكاس للواقع، وبنوا على ذلك القول بأن الواقع منتج للوحي.

وأهم ركيزة يستند إليها الخلاف بين من يثبت الوحي، وبين من يفسر وجوده وفق مقولة التاريخية بمفهومها الفلسفي هي ما يتعلق بالخلاف حول مصدر الوحي، فمن يعتمد على التاريخية في تفسير ما يسميه بظاهرة الوحي لا يمكن أن يلجأ إلى البحث عن وسيلة لتبرير أن يكون الواقع هو مصدر الوحي إلا وقد أنكر أن يكون الله تعالى هو مصدر الوحي، بل يتجاوز الأمر مجرد إنكار صلة الله تعالى بالوحي إلى إنكار وجود الله تعالى؛ لأن التاريخية في مفهومها الفلسفي إنما تستند إلى المادية على ما سبق بيانه في المبحث الأول، وليس إنكار الحقيقة الشرعية للوحي عند من يعتمد التاريخية إلا جزءا من إنكارهم لسائر الحقائق الغيبية..

 وكل ما يصدر عن الماديين الذين يسلكون مسلك التفسير للظواهر والأفكار استنادا إلى التاريخية من الكلام عن الله تعالى، فإنما هو من قبيل تفسير اعتقاد المؤمنين بالله وفق أصول مادية، وليس من قبيل الاعتراف بوجود الله تعالى؛ لأن ذلك يناقض أساس المذهب المادي فيما يتعلق بالوجود وفيما يتعلق بالمعرفة، ومن هنا نجد التلازم بين الاستناد إلى التاريخية بمفهومها الفلسفي، وبين إنكار وجود الله تعالى، كما نجد في المقابل التلازم بين إثبات الحقيقة الشرعية للوحي وبين إثبات وجود الله تعالى.

والمقصود، هنا، بيان موقف الحداثيين العرب من هذا التلازم، وهل يمكن اعتماد التاريخية في تفسير تحقق الوحي مع إثبات الحقيقة الشرعية للوحي، وإثبات ما لابد من إثباته فيما يتعلق بمصدرية الوحي وهو وجود الله تعالى، أم أن ذلك من التناقض الذي لا يمكن تصور حصوله.

وكما حصل الإشكال في حقيقة التاريخية ومدى إمكانية تقييدها بما يخرجها عن حقيقتها الفلسفية، فقد حصل الإشكال تبعا لذلك في التاريخية وفق ذلك المفهوم، وهل يمكن اعتبارها والاستناد إليها في دراسة كيفية تحقق الوحي، وما يلزم عن ذلك من إمكان إثبات وجود الله تعالى وأنه مصدر الوحي؟

والحداثيون العرب قد سلكوا في الجملة مسلك التلازم بين التاريخية فيما يتعلق بحقيقة الوحي وفيما يتعلق بمصدريته، ويكفي أن نعرض هنا لموقف كل محمد أركون وحسن حنفي لكونهما أشهر من تبنى القول بالتلازم في هذه المسألة، كما نعرض، في المقابل، لموقف الجابري من هذه الإشكالية، وبيان أن ما تبناه فيما يتعلق بثبوت القرآن ومصدريته كان متسقا مع ما ذهب إليه في تعريف التاريخية على ما سبق بيانه في المبحث السابق.

فأما أركون فقد ربط بين ما يسميه مفهوم الله وبين التاريخية، وأن التاريخية تقتضي التحول الدائم في ذلك المفهوم، وفي ذلك يقول: “على عكس ما تظن المسلمة التقليدية التي تفترض وجود إله حي ومتعال وثابت لا يتغير، فإن مفهوم الله لا ينجو من التاريخية وتأثيرها، أقصد أنه خاضع للتحول والتغير بتغير العصور والأزمان”[27].

وهذا الذي يسميه أركون مفهوم الله لا يقابله عنده وجود حقيقي لله تعالى، وإنما غاية ما في الأمر وجود تصور في أذهان الناس عن الله تعالى، هم الذين ابتدعوه من عند أنفسهم من غير أن يكون عندهم دليل عليه، لأن الدليل محصور، عند أركون وفق الأساس الفلسفي الذي يؤمن به، في الواقع المادي المحسوس، ومن هنا فإن أركون يؤكد صراحة بأن وجود الله تعالى ليس إلا مجرد تصور من صنع البشر..

 وفي تقرير هذا المعنى يقول أركون: “ينبغي أن نعلم أن الدوائر الخاصة بما هو خارق للطبيعة، وبالتعالي الإلهي أو الميتافيزيقي، وبالآلهة الناشطة والمهيمنة، أو بالإله الواحد الحي ولكن البعيد، وبالعقائد السحرية، أو الأسطورية، أو الشعبية، أو الخرافية، أو الدينية، هذه العقائد المرتبطة جميعها بالمتخيل… أقول إن ذلك كله هو أيضا من صنع الفاعلين الاجتماعيين، أي البشر، فلو لم يخلق البشر هذه التصورات أو لم يؤمنوا بها لما وجدت[28].

وهنا يعلق هاشم صالح ليؤكد على المعنى الذي أراد أركون توضيحه فيقول: “هذا التصور للأمور يصدم كليا الحساسية التقليدية التي لا تزال مهيمنة في المجتمعات العربية الإسلامية، والواقع أنه يعود إلى عصر “دوركهايم” وعلم الاجتماع الحديث، وهو يعني أن الدين يقع داخل المجتمع وليس فوقه، فالبشر عندما يؤمنون بشيء فإنه ينوجد، وعندما لا يؤمنون به فإنه لا ينوجد، وهنا يكمن الفرق الأساسي بين عقلية الحداثة وعقلية القرون الوسطى”[29].

وليس الأمر بحاجة إلى استنباط ما يريد أركون قوله فيما يتعلق بموقفه من وجود الله تعالى، بل كلامه في غاية الوضوح والصراحة بأن الله لا وجود له متعين، وإنما هو مجرد مفهوم وتصور أوجده من يسميهم الفاعلين الاجتماعيين.

وإذا كان الأمر هكذا فيما يتعلق بوجود الله تعالى، وإذا كان ذلك هو ما تقتضيه التاريخية حسب تأكيد أركون، فإن موقفه من الوحي لابد أن يكون متسقا مع موقفه من وجود الله تعالى؛ إذ لا يمكن لأحد أن ينفي وجود الله تعالى ثم يثبت الوحي وفق حقيقته الشرعية، بصرف النظر عن أي محاولة لتفسير الوحي بعد ذلك؛ إذ لا يمكن وفق التاريخية التي يؤمن بها أركون إلا أن يكون الوحي مرتبطا بالواقع لا خارجا عنه.

 وفي سياق التأكيد على ضرورة دراسة الوحي وتفسيره وكيفية تحققه في إطار التاريخية وحدها يقول أركون: “إن التاريخية ليست مجرد لعبة ابتكرها الغربيون من أجل الغربيين، وإنما هي شيء يخص الشرط البشري منذ أن ظهر على وجه الأرض، ولا توجد طريقة أخرى لتفسير أي نوع من أنواع ما ندعوه بالوحي، أو أي مستوى من مستوياته خارج تاريخية انبثاقه وتطوره أو نموه عبر التاريخ، ثم المتغيرات التي تطرأ عليه تحت ضغط التاريخ”[30].

 وفي بيان ما يلزم من القول بتاريخية الوحي، يؤكد أركون على التناقض بين قداسة الوحي وتعاليه عن الارتباط بالواقع، وبين محاكمة الوحي إلى جميع الأنبياء إلى التاريخية فيقول: “إن النظر للكتابات المقدسة من هذه الزاوية التاريخية، والاجتماعية، والأنثربولوجية؛ يعني، بالطبع، زعزعة كل التركيبات التقديسية والمتعالية”[31]. ويلخص أركون ما يهدف إليه من القول بتاريخية القرآن فيقول: “أريد لقراءتي هذه أن تطرح مشكلة لم تطرح عمليا قط بهذا الشكل من قبل في الفكر الإسلامي؛ ألا وهي تاريخية القرآن، وتاريخية ارتباطه بلحظة زمنية وتاريخية معينة[32].

وفيما يتعلق بنفيه لنزول القرآن، يؤكد أركون على أن: “الوحي ليس كلاما معياريا نازلا من السماء[33]. وإذا لم يكن الوحي نازلا من السماء فلا يبقى إلا أن يكون مرتبطا بالواقع، بحيث لا يكون بينه وبين أية تركيبة اجتماعية لغوية أخرى أي فرق. وفي هذا المعنى يقول: “ما كان قد فسر وعيش عليه بصفته الوحي في السياقات اليهودية والمسيحية والإسلامية، ينبغي أن يدرس أو يقارب منهجيا بصفته تركيبة اجتماعية لغوية مدعمة من قبل العصبيات التاريخية المشتركة”[34].

وفي رأي أركون فإن العقبة الكبرى التي تحول دون قبول الناس لما يدعو إليه من تاريخية القرآن هي ما يسميه النظرية الإسلامية للوحي، ويتساءل أركون “ماذا تقول هذه النظرية[35]. ويجيب: “إنها تقول إن الله الواحد الحي المتعالي قد تدخل عدة مرات في التاريخ، واتخذ المبادرة لتوصيل أوامره ووصاياه وتعاليمه إلى البشر بواسطة الأنبياء، وقد اختار محمدا لهذا الغرض لآخر مرة، وهذا هو موضوع الوحي القرآني”[36].

 وفي آخر كتاب ألفه أركون وهو كتاب: “نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية”، وقد طبع بعد وفاته، يصرح أركون بموقفه من الوحي، وأنه مجرد وضع بشري، وأن البشر بعد أن أنتجوه توهموا أنه وحي نازل من السماء، ويسجل أركون أسفه على عدم تقبل المسلمين لما يدعو إليه من تاريخية الوحي بهذا المعنى فيقول: “الشيء المؤسف الذي نلاحظه هو أن المسلمين المثقفين، المطلعين على مقتضيات الفكر النقدي الحديث، يتراجعون عن فكرهم ومعرفتهم بمجرد أن يتعلق الأمر بما يدعوه المؤمنون “المقدسات”، والمقصود بهذه الكلمة العربية الشهيرة المبادئ الاعتقادية التي تشكل قدس أقداس الإيمان، وهي تتمثل فيما يلي: الاعتقاد بأن القرآن هو الوحي الذي يجسد كلام الله حرفيا، ثم الاعتقاد بنقل هذا الكلام من قبل محمد إلى البشر، ثم الاعتقاد بصحة الأحاديث النبوية التي تشكل النص الثاني المقدس للإسلام، والتي تعلو على كل نقد تاريخي، ثم الاعتقاد أيضا بالصحة الكاملة للسيرة النبوية كما روتها كتب السيرة من دون تمحيص تاريخي، الخ. كل هذا هو ما أدعوه بالمدونة الكبرى للاعتقاد الإيماني…

 ينبغي العلم أن المدونات النصية الكبرى للاعتقاد التي تغذي التراثات الدينية، ما هي إلا نتيجة لصيرورة طويلة من التشكل الاجتماعي التاريخي لهذه المدونات النصية بالذات، ولكن من يستطيع أن يقول ذلك في العالم العربي أو الإسلامي؟ مستحيل. فهم يعتقدون أن ذلك كله نازل من السماء مباشرة، ولا علاقة له بالأرض أو بالمجتمع أو بالبشر، لماذا لا نستطيع أن نقول ذلك؟ لأن هذا الكلام يزعزع اليقينيات الاعتقادية التقديسية التي يعيش عليها البشر… ينبغي العلم أن مفاهيم من نوع: المقدس أو الحرام والطاهر والوحي وكلام الله والتراث، الخ. ما هي إلا نتاج الفاعلين الاجتماعيين؛ أي البشر الذين يعيشون تاريخهم الخاص، إنهم هم الذين ينتجونها، لكنهم يتوهمون بعدئذ أنها متعالية عليهم أو نازلة عليهم من السماء[37].

وبناءً على كل ما سبق فيما يتعلق بنفي مصدرية الوحي عند أركون، فإنه يستخدم مصطلح الحدث القرآني للدلالة على ارتباط القرآن بالواقع، وأنه مجرد حدث كأي حدث واقعي، بينما التعبير بالقرآن، هكذا بدون ربطه بكونه حدثا، يحمل عند أركون دلالات يرفضها ويسعى جاهدا إلى نفيها، وهي ما يعتقده المسلمون من أن القرآن وحي منزل تكلم به الله تعالى حقيقة، وهذا يصادم القول بتاريخية القرآن وفق الرؤية الحداثية والتفسير التاريخي الذي يؤمن به أركون، وفي تبريره لهذا المصطلح يقول: “استخدمت الحدث القرآني عن قصد، لأنه أكثر فعالية وغنى من الناحية العلمية من مصطلح القرآن نفسه، فهذا المصطلح الأخير مثقل أكثر مما ينبغي بالقيم التقليدية، ومحاط من كل الجهات بالتصورات الدوغمائية، والتحديدات المغلقة والموروثة، التي لا يمكن للباحث أن يسيطر عليها بسهولة (…)؛ بمعنى عندما أستخدم مصطلح الحدث القرآني فإني أغرس القرآن في التاريخية، وعندما أقول القرآن فإني أنزع عنه كل تاريخية كما يفعل المسلمون[38].

ولا شك أن ما قرره أركون من تاريخية الوحي يتناقض تناقضا كليا مع اعتقاد قداسة الوحي، بحيث يمكن القول إن نزع القداسة عن الوحي لازم للتاريخية لزوما ضروريا لا يمكن الفكاك منه، ويستند اعتبار نزع القداسة أساسا جوهريا للتاريخية، إلا أن التفسير بما فوق التاريخ، وما يجاوز الواقع هو عند أصحاب هذا الاتجاه تفسير أسطوري خرافي، والتفسير الديني عندهم لا يخرج عن هذا الإطار.

 ويترتب على هذه المقابلة والتناقض بين ما هو تاريخي، وبين ما هو فوق التاريخ عدم اعتبار كل ما كان من قبيل ما هو فوق التاريخ ووصمه بعدم العلمية، وحصر التفسير المقبول فيما هو تاريخي واقعي، وفي هذا المعنى يقول أركون: “من المعلوم أن الوظيفة النبوية لا يمكن أن تمارس دورها إلا في بيئة معرفية ومؤسساتية تفضل الأسطورة على التاريخ، والروحي على الزمني، والعجيب الخارق الذي يشكل بنية أنثربولوجية للمتخيل على العقلاني الوضعي، والمقدس بصفته قوة لضبط العنف على الدنيوي بصفته فضاء تنتشر فيه قوى التبعثر والتنافس”[39].

 وفي بيان ما ينتجه خطاب التاريخية هذا فيما يتعلق بالموقف مما أطلق عليه أركون الوظيفة النبوية يؤكد أركون على أنه: “لم يعد بإمكاننا العودة إلى النموذج النبوي القديم، لأننا أصبحنا الآن قادرين على رؤية تاريخيته بوضوح، أي اندماجه ضمن الأنماط العابرة لإنتاج المعنى في التاريخ”[40].

ويعلق هاشم صالح، مترجم أعمال أركون، على المعنى الذي قصده أركون في بيان حقيقة التاريخية في كلامه السابق وما يترتب على الاعتماد عليها من تجاوز المرحلة الدينية فيقول: “هذا الكلام لا يمكن أن يكتبه إلا من يعيش داخل المجتمعات الأوروبية المعلمنة؛ أي داخل المجتمعات التي قطعت مسار الحداثة منذ أكثر من قرنين من الزمن، فالذي لم يخرج من الفضاء العقلي القروسطي، ويدخل مناخ الحداثة لا يعرف معنى هذا الكلام ولا يعترف به… هذا الحدث الصاعق؛ أي تبيان تاريخية ما قدم نفسه على أساس أنه فوق التاريخ، هو الذي يشكل لب الحداثة الأوروبية منذ أكثر من قرنين، وهو الذي شغل فلاسفة الغرب من كانط إلى هيجل، إلى نيتشه، ولا يزال”[41].

فهذا حاصل موقف أركون من مصدرية الوحي، وما ذهب إليه؛ فهو وإن كان مناقضا لمسلمات وأصول الإسلام، بل أصول جميع الملل، إلا أنه مع ذلك متسق في منهجه، حيث التزم بلوازم الاتجاه المادي الذي لا يؤمن إلا بالواقع المادي المحسوس، فهو إنما ربط الوحي بالواقع وجعله مصدرا له بناء على ما تقتضيه المادية، وما تفرع عنها من التاريخية من اعتبار الواقع المادي المحسوس هو الوجود المتحقق دون غيره، فلا يمكنه على أصله هذا أن يعترف بمصدر للوحي يناقض ذلك.

 ومن هنا يعلم أن غاية ما يرد به على أركون في هذا المجال هو بيان مذهبه على حقيقته، والكشف عن الأساس الفلسفي الذي يستند إليه، ولا يستدعي الأمر بالضرورة التوسع بنقده في ذلك الأساس، بل لذلك مقام آخر تذكر فيه الأدلة على وجود الله تعالى، ويبين زيف قول من ينكر ذلك، وهذا كله غير مقام البيان لمستند التاريخية وارتباطها بهذا الاتجاه والذي هو المقصود هنا.

وأما حسن حنفي فلا يختلف موقفه من مصدرية الوحي من حيث النتيجة عما ذهب إليه أركون، لأنهما يتفقان في الأساس الفلسفي للتاريخية، ومن خلال حصر الوجود في الواقع المادي المحسوس، وبناء على ذلك، فلابد أن يشتركا في نفي وجود الله تعالى، وما يترتب عليه من التشكيك في مصدرية الوحي، ثم ربط الوحي بالواقع في تحققه ومصدريته وفي تطوره وصيرورته الدائمة بعد ذلك.

وقد كان موقف حسن حنفي من وجود الله تعالى صريحا وواضحا، حيث أكد على نفي وجود حقيقي لله تعالى في مواطن كثيرة من كتبه، ومن ذلك قوله: “إن ذات الله مفهوم بلا ما صدق”[42]. وهذه العبارة على وجازتها تختصر موقفه من هذه القضية، حيث يرى أن الله تعالى ليس له وجود حقيقي، وإنما هو مجرد تصور ذهني لا يقابله حقيقة خارجية، كما هو معنى قوله أيضا: “لفظ الله ليس إلا لفظا عرفيا استعمله الناس للدلالة على معنى عام… ولكنه ليس اسما بمعنى أنه يدل على جوهر”[43]. وهو إنما يقصد بنفي أن يكون الله تعالى جوهرا نفي أن يكون لله تعالى موجودا وجودا حقيقيا متعينا.

وحسن حنفي لا يكتفي في هذه المسألة بمجرد نفي وجود الله تعالى، بل يجاوز ذلك إلى الأخذ بما عليه الاتجاه الإلحادي في الفكر الغربي، وخصوصا ما عليه فيورباخ الذي يذهب إلى تفسير ما يعتقده المؤمنون من الحقائق الغيبية تفسيرا نفسيا، وحاصل هذا التفسير هو أن ما يعبر عنه المؤمنون بالله تعالى فإنما هو في حقيقته تعبير عن رغبة في وجوده، لا أنهم يثبتون وجوده استنادا إلى أن عندهم براهين عقلية على ذلك.

 وحسب تعبير حسن حنفي فإن: “تصور الله على أنه موجود كامل هو في الحقيقة تعبير عن رغبة وتحقيق لمطلب وتمن لأمل ونظرة بعيدة لهدف وسير حثيث نحو غاية، وليس حكما على وجود في الخارج”[44]. ويقول في موطن آخر عن الله تعالى بأنه: “لا يمكن إثباته بالبراهين، لأنه ليس واقعة خارجية، بل هو تيار حي في الشعور”[45]. وبعبارة أخرى فإن: “ذات الله هو ذاتنا مدفوعا إلى الحد الأقصى، ومثلنا بعد أن شخصناها ماثلة أمام الأعين، ذات الله المطلق هو ذاتنا نحو المطلق، ورغبتنا في تخطي الزمان وتجاوز المكان[46].

وإذا كان هذا هو موقف حسن حنفي من وجود الله تعالى، فإنه لا يمكن أن يثبت للوحي حقيقة مطابقة لحقيقته الشرعية، لأنه إذا كان قد نفى وجود الله تعالى فقد قدح في مصدرية الوحي الشرعية، ويبقى بعد ذلك أن يبحث عن مستند مادي يفسر به كيف تحقق القرآن، وحيث إن التاريخية وما يترتب عليها من القول بربط تحقق القرآن بالواقع هي التفسير المادي لهذه الحالة، فقد اعتمدها حسن حنفي منهجا لبيان موقفه من ثبوت الوحي عموما، والقرآن خصوصا، ومن الحكم بالصيرورة والتحول الدائم في معاني نصوص الوحي تبعا لصيرورة الواقع وتحوله.

 وفي تطبيق مقولة التاريخية على الوحي، وما يلزم عن ذلك من إنكار حقيقة الوحي وربطه بالواقع يقول حسن حنفي: “أصول التراث نفسه، وهو الوحي، مبنية على الواقع، وتغيرت وتكيفت طبقاً له”[47]. وإذا كان الوحي مبنيا على الواقع، كما يقول حسن حنفي، فالواقع هو مصدر الوحي، ثم إن الوحي يتطور بعد تحققه من خلال الواقع بحسب تطور الواقع وصيرورته التي لا تقف عند حد، وهذا ما يؤكد عليه حسن حنفي حيث يقول أيضا: “الوحي ظاهرة تاريخية، يظهر في التاريخ، والتاريخ هو الواقع والزمان والمكان والمجتمع والبشر[48].

ومما يبرر به حسن حنفي تاريخية الوحي وارتباطه بالواقع ثبوت النسخ في القرآن، بمعنى أن النص الناسخ قد نشأ استجابة لظروف الواقع فنفى النص السابق، فيكون الواقع حسب تفسيرهم هو مصدر النص من جهة، كما أن صيرورته هي التي فرضت تبديل النصوص، وإحلال بعضها محل بعض بحسب ما تقتضيه الظروف الزمانية والمكانية، وهذه الظروف هي التي يحولون إليها مفهوم أسباب النزول، حيث تكون تلك الظروف أسبابا للنزول بمعنى أنها منشئة للنصوص، لا أنها مجرد وقائع جاء الوحي لبيان حكم الله فيها..

 وفي هذا المعنى يقول حسن حنفي: “الحقيقة أن النسخ في القرآن يدل على وجود الوحي في الزمان، وتغييره طبقا للأهلية والقدرة وتبعيته لمدى الرضى الفردي والاجتماعي في التاريخ، الوحي ليس خارج الزمان ثابتا لا يتغير، بل داخل الزمان يتطور بتطوره”[49]. وفي نفس المعنى يؤكد حسن حنفي على أن “النصوص الدينية ذاتها نصوص تاريخية، نشأت في ظروف اجتماعية عرفت بأسباب النزول، وتطورت طبقا للزمن، وتجدد حاجات الناس والمجتمع، وتنوع القدرات البشرية من حيث هي مصادر للشرع عرفت باسم الناسخ والمنسوخ”[50].

والحاصل أن ما قرره حسن حنفي هنا مصادم تمام المصادمة لمصدرية الوحي ولثبوت حقيقته الشرعية، لكنه، مع ذلك، متسق مع المذهب المادي الذي يؤمن به، ومع التاريخية التي تقوم على أساس مادي لا وجود فيه لغير ما هو مادي محسوس.

وبما تقدم من بيان موقف أركون وحسن حنفي من ثبوت الوحي يظهر أثر الأساس الفلسفي للتاريخية فيما ذهبا إليه، وإذا كان المقصود، هنا، بيان التلازم بين الاستناد إلى التاريخية، وبين الالتزام بأساسها الفلسفي، ولا شك أن ذلك يظهر بوضوح في تقريرهما، وإنما تم اختيارهما هنا لكونهما أشهر من تبنى هذا الاتجاه في التفسير، وإلا فما عليه سائر الحداثيين من تقرير مفهوم التاريخية والالتزام بلوازمها فإنه لا يخرج عن ذلك، باستثناء ما قد يحصل من بعضهم من تأويل لمفهوم التاريخية يخرج بها عن حقيقتها الفلسفية المعترف بها في المعاجم الفلسفية، وكما سبق بيان موقف الجابري من مفهوم التاريخية فلابد هنا من بيان ما ترتب على ذلك فيما يتعلق بالموقف من ثبوت الوحي.

وأما محمد عابد الجابري فإنه كما خالف في تعريف التاريخية، ولم يتقيد بالمفهوم الفلسفي لها عند أصحاب الاتجاه المادي، فقد خالفهم أيضا فيما يتعلق بثبوت الوحي، سواء قيل باعتباره لمفاهيم خارجة عن المفهوم الفلسفي للتاريخية، أو قيل باعتباره للمفهوم الفلسفي للتاريخية، لكن مع التوسع في ذلك المفهوم، بحيث أمكن إدخال الدين فيما تقبله التاريخية ولا تعارض التسليم به.

وقد شرح الجابري موقفه من مسألة ثبوت القرآن بما يتناقض مع موقف من يستند إلى التاريخية في دراسة ثبوت القرآن الكريم، فأركون، مثلا، يصرح بأن القرآن الموجود اليوم في المصحف الذي بين أيدينا ليس مطابقا لما يسميه القرآن الشفهي، ويدعي أن من القرآن الشفهي ما “ضاع إلى الأبد، ولا يمكن للمؤرخ الحديث أن يصل إليه أو يتعرف إليه مهما فعل ومهما أجرى من بحوث”[51]. وبنى على ذلك فيما يتعلق بالقرآن المكتوب، أنه قد تم جمعه بعد سلسلة “من عمليات الحذف والتلاعبات… لأن عملية الجمع قد تمت في ظروف حامية من الصراع السياسي على السلطة والمشروعية”[52].

وأما الجابري فإنه وإن كان لم يسلم موقفه من ثبوت القرآن من إشكالات خطيرة كما سيأتي لكنه يتجنب الخوض فيما خاض فيه أركون، ويصرح بأنه لا يوجد دليل قاطع على ثبوت نقص في القرآن، وإن كان إمكان النقص في القرآن واردا عنده كما سيتبين قريبا، ويلخص الجابري موقفه من مسألة ثبوت القرآن بالقول بأن “من يفكر في النقد اللاهوتي على غرار ذلك النقد اللاهوتي الذي عرفته أوربا فهو يجهل أو يتجاهل الفرق بين الدين الإسلامي والدين المسيحي، الدين الإسلامي له كتاب مقدس لم يلحقه تغيير ولا تحريف منذ أن جمع في عهد عثمان، وليس هناك دليل قاطع على أن نوعا من التحريف أو البتر أو التغيير قد حدث في فترة ما بين نزول القرآن وجمعه…

 وإذن، فنحن أمام أمرين لا ثالث لهما: إما أن القرآن الذي بين أيدينا هو نفسه الذي كان عند الصحابة زمن النبوة وزمن أبي بكر وعمر، وهذا ما يعتقده المسلمون قديما وحديثا، وفي هذه الحالة فلا مجال لممارسة أي نقد لاهوتي على النص القرآني، وإما أن هناك تغييرا أو بترا، وفي هذه الحالة سنكون أمام فرضية لا سبيل إلى إثباتها، الشيء الذي يجعل النقد اللاهوتي عملية غير ممكنة، نقول هذا لأن النقد اللاهوتي في الثقافة الأوربية مرتبط بواقع أن الأناجيل المسيحية ليس لها كتاب كالقرآن، وإنما لها مجموعة من الأناجيل تنسب إلى صحابة المسيح…

فالنقد اللاهوتي ينصب أساسا على نقد هذه الروايات (…) وهي نصوص جمعت في فترة متأخرة، إن الوضعية التاريخية للأناجيل أشبه ما يكون بالوضعية التاريخية للحديث عندنا، وقد ظهرت عملية نقد الحديث منذ بداية جمعه… وإذن فالنقد اللاهوتي الذي من هذا النوع لا يمكن ممارسته على القرآن، لأنه من الثابت تاريخيا أنه هو نفسه الذي نزل على النبي محمد، وليس هناك ما يبرر أي شك في هذا”[53].

وهذا الاختلاف بين موقف الجابري من مصدرية القرآن الكريم وثبوته وبين موقف المشككين في ذلك من الحداثيين الذين استندوا إلى التاريخية بمفهومها الفلسفي هو الذي حمل أولئك على اتهام الجابري بأنه إنما سلك هذا المسلك كما يقول أركون “لكي يريح نفسه ويتجنب المشاكل والمسؤوليات، هذه حيلة لا تخفى على أحد”[54]. وهي التهمة التي رد عليها الجابري بالقول بأنها “اتهام رخيص فعلا، بل دنيء، لأنه لا يمكن إرجاعه إلى شيء آخر غير سوء النية”[55]. وفي إطار الإدانة لسكوت الجابري عن التشكيك في مصدرية القرآن وثبوته يعتبر علي حرب أن الجابري “لا يتطرق إلى خطاب الوحي الذي هو أهم مسكوت عنه عند الجابري، وإذا كان نقد العقل العربي والإسلامي يتطلب تحليل الخطابات التي نشأت حول الخطاب المذكور فإنه يتطلب أيضا وخاصة تحليل هذا الخطاب ذاته… وهذا السكوت هو المسؤول عما تنطوي عليه قراءة الجابري من تلفيق”[56].

ومع اختلاف الجابري الجوهري والمهم مع هؤلاء الحداثيين المستندين إلى التاريخية، إلا أنه من جهة أخرى قد وقع فيما يتعلق بالقرآن في إشكالات تتعلق بجمع القرآن وحفظه وإمكان النقص فيه، وقد كانت تلك الإشكالات سببا في غموض موقفه عند كثير من الدارسين، بل ربما اتهامه بأنه لا يوجد فرق حقيقي بينه وبين سائر الحداثيين العرب في الموقف من القرآن الكريم، ولا شك أن القول بإمكان النقص في القرآن وإن لم يصل إلى أن يكون في درجة إنكار الوحي والتشكيك في مصدريته، إلا أنه مع ذلك قول منكر وفي غاية الخطورة، وله صلة وثيقة بمسألة ثبوت القرآن، لتعلق ذلك بحفظ القرآن كما أنزل، وأن ما أوحاه الله تعالى وتكفل بحفظه فلا يمكن أن يضيع.

وفي تبرير القول بإمكان النقص في القرآن يقول الجابري: “وخلاصة الأمر أنه ليس ثمة أدلة قاطعة على حدوث زيادة أو نقصان في القرآن كما هو في المصحف بين أيدي الناس منذ جمعه زمن عثمان، أما قبل ذلك فالقرآن كان مفرقا في صحف وفي صدور الصحابة، ومن المؤكد أن ما كان يتوفر عليه هذا الصحابي أو ذاك من القرآن، مكتوبا أو محفوظا، كان يختلف عما كان عند غيره كما وترتيبا، ومن الجائز أن تحدث أخطاء حين جمعه زمن عثمان أو قبل ذلك، فالذين تولوا هذه المهمة لم يكونوا معصومين، وقد وقع تدارك بعض النقص كما ذُكر في مصادرنا”[57].

 وليس المقام هنا مقام التفصيل في مسألة جمع القرآن الكريم وما قرره العلماء من مستند الإجماع على حفظه كله وعدم إمكان النقص فيه، وأنه كما يجب الجزم بعدم وجود نقص في القرآن، فإنه يجب كذلك الجزم بعدم إمكان النقص فيه، وإنما تكفي الإشارة إلى أن ما ذكره الجابري من إمكان النقص في القرآن مناقض لما هو معلوم من الدين بالضرورة، وأن قول الله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: 9) قاطع في الدلالة على إبطال القول بإمكان النقص في القرآن..

 وما ذكره الجابري في صرفه لدلالة هذه الآية عن معناها الظاهر، بدعوى “أن القرآن نفسه ينص على إمكانية النسيان والتبديل والحذف والنسخ”[58]، فإنما يدل على عدم تحرير الجابري لهذه المسألة؛ لأنه لا يلزم من نسيان النبي صلى الله عليه وسلم بعض الآيات في وقت ما، وخصوصا بعد تبليغه للقرآن، أن القرآن محفوظ، كما أنه لا يلزم من ذلك تصور أن يكون النبي، صلى الله عليه وسلم، قد نسي شيئا من القرآن، واستمر الأمر على ذلك حتى توفي النبي، صلى الله عليه وسلم، فإذا كان النسيان المؤقت من النبي، صلى الله عليه وسلم، لبعض الآيات ممكنا، فإنه لا يفهم منه إمكان النسيان الذي يترتب عليه النقص في القرآن.

 وأما ما ذكره من التبديل والحذف والنسخ فهذا مقام لا علاقة له بالنقص في القرآن، والاستناد إلى مثل هذا من الجابري مما يستغرب، فإنه لا صلة لشيء من ذلك بلزوم النقص في القرآن، بل كان النسخ في حياة النبي، صلى الله عليه وسلم، لبعض الآيات، وبلغ النبي، صلى الله عليه وسلم، الصحابة بذلك، واستقر العلم به، ولم يمت النبي، صلى الله عليه وسلم، إلا والقرآن كله محفوظ، والتمييز بين ما نسخ، وما لم ينسخ من القرآن معلوم، وتناقلته الأمة من غير شك في آية واحدة من كتاب الله تعالى.

وإذا كان الهدف الأساس، هنا، هو الحكم على التاريخية من حيث هي مقولة لها أصول ولوازم، فإن الحكم في هذه المسألة ينبغي أن يكون محصورا في هذا الإطار، وأما من قد يحصل له إشكال ممن قد يرى الفصل بين تاريخية تقوم على إنكار الغيبيات وربط كل ما يخضع للتفسير بالواقع وبين من قد يدعي إمكان اعتبار التاريخية في جانب إجرائي لا يلزم منه الاستناد إلى الأساس الفلسفي للتاريخية، فمثل هذا إذا كان قد سلم بمصدرية القرآن، وسلم بثبوته فإنه إذا حصلت له بعض الإشكالات بعد ذلك، من جنس ما حصل للجابري، فإنه لا يكون بمنزلة من أنكر الوحي وشكك في مصدريته الشرعية.

نتائج البحث

  1. تقوم النظرية المادية في الوجود على حصر الوجود في الواقع المادي المحسوس، وفي المعرفة، على اعتبار الحواس هي المصدر الوحيد للمعرفة.
  2. تستند التاريخية، في مفهومها الفلسفي، إلى المادية في جانبي الوجود والمعرفة.
  3. المفهوم الفلسفي للتاريخية هو المعتبر في المعاجم الفلسفية والتداول الفكري للمصطلح.
  4. يذهب محمد عابد الجابري إلى معنى مغاير للمعنى الفلسفي للتاريخية، حيث يوسع مدلولها بحيث تشمل الدين والفلسفة والفن.
  5. لا يمكن إثبات الحقيقة الشرعية للوحي، ولا الاعتراف بمصدريته وفق مقولة التاريخية.
  6. الأصل في تعامل الحداثيين العرب مع مصطلح التاريخية هو اعتبار مفهومها الفلسفي وما يلزم عنه من لوازم.
  7. يقوم موقف الجابري فيما يتعلق بالوحي على إثبات الوحي وإثبات مصدريته الشرعية، وإن كان قد حصل منه التشكيك في حفظ القرآن من النقص.

الهوامش

[1]. أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، تعريب: خليل أحمد خليل، بيروت: دار عويدات، ط1، 1996م، 2/775.

[2]. جميل صليبا، المعجم الفلسفي، بيروت: دار الكتاب اللبناني، د. ط، 1982م، 2/309.

[3]. مجمع اللغة العربية، المعجم الفلسفي، الهيئة العالمية لشؤون المطابع الأميرية، ط 1979م، ص164.

[4]. انظر: عبدالوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، القاهرة: دار الشروق، ط1، 1999م، 1/70-73.

[5]. انظر: عبدالوهاب المسيري وفتحي التريكي، الحداثة وما بعد الحداثة، دمشق: دار الفكر، ط3، 2010م، ص16-29.

[6]. غارودي روجيه، النظرية المادية في المعرفة، ترجمة: إبراهيم قريط، دمشق: دار دمشق، ط2، د. ت، ص5.

[7]. موسوعة لالاند الفلسفية، م، س، 2/561.

[8]. المعجم الفلسفي، م، س، 1/229.

[9]. م. روزنتال ب. يودين، الموسوعة الفلسفية، بيروت: دار الطليعة، ط1، 1974م، ص105.

[10]. محمد أركون، الفكر الإسلامي: قراءة علمية، بيروت: مركز الإنماء القومي، ط2، 1996م، ص139.

[11]. المرجع نفسه.

[12]. المرجع السابق، ص117.

[13]. محمد أركون، القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ترجمة: هاشم صالح، بيروت: دار الطليعة، ط1، 2001م، ص48.

[14]. محمد أركون، من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، ترجمة: هاشم صالح، دار الساقي، ط2، 1993م، ص26.

[15]. الفكر الإسلامي، قراءة علمية، م، س، ص211.

[16]. المرجع السابق، هامش ص138.

[17]. حسن حنفي، هموم الفكر والوطن، القاهرة: دار قباء، 1998م، 1/69-70.

[18]. علي حرب، نقد النص، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط1، 1993م، ص65.

[19]. محمد عابد الجابري، نحن والتراث، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط6، 1993م، ص29.

[20]. مقال: شعار “تاريخية النص” ليس هو الحل. على موقع الجابري.

http://www.aljabriabed.net/pouvoir_usa_islam_10.htm

[21]. المقال السابق.

[22]. المقال نفسه.

[23]. المقال نفسه.

[24]. المقال نفسه.

[25]. المقال نفسه.

[26]. المقال السابق.

[27]. الفكر الإسلامي قراءة علمية، م، س، ص203.

[28]. محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، ترجمة هاشم صالح، بيروت: دار الطليعة، ط2، 2000م، ص132.

[29]. المرجع السابق.

[30]. القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، م، س، ص47-48.

[31]. محمد أركون، الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد، ترجمة: هاشم صالح، بيروت: دار الساقي، ط3، 1998م، ص87.

[32]. الفكر الإسلامي قراءة علمية، م، س، ص212.

[33]. القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، م، س، ص53.

[34]. المرجع السابق، ص21.

[35]. الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، م، س، ص9.

[36]. المرجع السابق.

[37]. محمد أركون، نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية، بيروت: دار الساقي، ط1، 2011م.

[38]. محمد أركون، الإسلام، أوروبا، الغرب: رهانات المعنى وإرادات الهيمنة، ترجمة: هاشم صالح، بيروت: دار الساقي بيروت. ط2، 2001م، ص49.

[39]. محمد أركون، أين هو الفكر الإسلامي المعاصر، بيروت: دار الساقي، ط2، 1995م، ص64.

[40]. المرجع نفسه، ص63.

[41]. المرجع السابق، هامش، ص76.

[42]. حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة، بيروت: دار التنوير، ط1، 1988م، 1/80.

[43]. المرجع السابق، 2/556.

[44]. المرجع السابق، 1/83.

[45]. حسن حنفي، قضايا معاصرة في الفكر الغربي المعاصر، بيروت: دار التنوير، ط1، 1982م، 2/285.

[46]. من العقيدة إلى الثورة، م، س، 1/83.

[47]. حسن حنفي، التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع  ط1، 2002م، ص57-58.

[48]. حسن حنفي، من النقل إلى العقل، بيروت: دار الأمير للثقافة والعلوم، ط1، 2009م، 1/63.

[49]. حسن حنفي ومحمد عمارة ومحمد أحمد خلف الله، موسوعة الحضارة العربية الإسلامية، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 1986م، 2/58.

[50]. هموم الفكر والوطن، م، س، 1/73-74.

[51]. القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب، م، س، ص38.

[52]. محمد أركون، العلمنة والدين: الإسلام، المسيحية، الغرب، دار الساقي، ط3، 1996م، ص47.

[53]. محمد عابد الجابري، المسألة الثقافية في الوطن العربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط3، 2003م، ص278-280.

[54]. قضايا في نقد العقل الديني، م، س، ص330.

[55]. محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط 3، 2005م، ص131.

[56]. نقد النص، م، س، ص97.

[57]. محمد عابد الجابري، مدخل إلى القرآن الكريم، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2006م، ص232.

[58]. المرجع السابق ونفس الصفحة.

Science
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق