مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

التصوف والنظر الأشعري

     «الأشعرية» من الفرق الكلامية المأصولة داخل مجال التداول، عمل من خلالها الأشعري على تقرير مسائل الاعتقاد وفق أصول النقل ودعائم العقل، فهو لم يَبتدع رأيا في هذا المجال، بقدر ما أنه حاول إعادة صياغة اعتقاد السلف على أسس عقلية، تُحصِّن عقول الأمة من أن تزيغ بهم رياح التعطيل أو التشبيه وغيرها من مفاسد الاعتقادات. وعلى هذا المنهج سار غالب علماء الأمة من المتكلمين في إرساء دعائم المدرسة الأشعرية وفق مبادئ الإثبات والتنزيه، وذلك باعتماد إمكانات العقل السديد، دون إغفال واجب النقل بوصفه أساس البناء العقلي، حيث إن هذا التكامل الذي قعَّد له الإمام الأشعري؛ هو الذي وجَّه جهود العلماء من أجل تحصين المعتقد الإسلامي من محاولات التشويش أو التغيير. على أن مجهودات علماء الأشاعرة لم تقف عند مستوى التقرير بما هو متضمن في كتب الأشعري، بل كانت لهم اجتهادات وإضافات تخص في جانب منها توسيع الفكر الأشعري وإغناءه بما استجد من قضايا وإشكالات. وفي سياق مجال الدراسة -القرن السادس الهجري- تبلورت الأشعرية من خلال ظهور الموحدين، باعتبار أن الأصول التوحيدية للأشعري شكلت لديهم الإطار الإيديولوجي للدعوة، أو إن شئنا القول: أنها الخلفية الفكرية للتدبير السياسي، على أساس أن «المجال المعرفي» كان جزءا من الصراع حول السلطة، يتبدى ذلك من خلال «السلوك» الذي تعامل به الموحدون ضد مخالفيهم [1]، من جِهة أنهم كانوا يخوضون صراعا دينيا (عقائديا) ضد مَن يعتبرونهم «أصحاب التجسيم والتمثيل»، أي في مُواجهة الذين يقفون على الظاهر من الآيات المتشابهات. و غاية الأمر أن الصراع السياسي تولد عنه تصادم معرفي، ما اقتضى أن كل طرف من أطراف المواجهة، إلا وعمل على اتخاذ مواقف شاذة من الطرف الآخر، أدت إلى بلورة ثقافة «التكفير» و«الإخراج من الملة» [2].

     إن السياق المرابطي لم يكن بهذا الوصف الذي جرى في كتابات الموحدين، فازدهار الحركة الفكرية في أغمات دليل قاطع يدحض مزاعم الموحدين بأن المرابطين حاربوا علم الكلام، ولغياب المصادر لا نستطيع الجزم برأي قاطع. على أن اتهام ابن تومرت لهم بالتجسيم إنما كان المقصود منه على ما يبدو المالكية الحشوية في سوس[3]، وإلا فإن أغمات هي أول المدن المغربية التي تأسست بها مدرسة لعلم العقائد، بحيث تذكر المصادر أن أبا بكر المرادي هو أول من أدخل علم الكلام إلى المغرب، وقد استمر يدرس بها حتى سنة 489ﻫ، فخلفه أحد طلبته في مسجد أغمات: أبو عبد الله مالك بن مروان الضرير. وكان ممن أخذ العلم عن القاضي أبي بكر بن العربي[4]. وقد سبق أن قررنا أن الغرب الإسلامي قبل مجيء الملثمين كان يعج بالملل والنحل، والفرق والمذاهب، فلما قامت دعوة المرابطين عملت على نشر دلائل التوحيد بين الناس، بما يدل على أن مؤسس هذه الدعوة كان مسلحا بمذهب عقلي حتى يستطيع أن يقارع الخوارج البورغواطيين والشيعة البجلية ، الحجة بالحجة، ويناقشهم في حقيقة مذهبهم، فهو تلميذ وجاج بن زلو تلميذ أبي عمران الفاسي؛ الذي صحب البقلاني وأخذ عنه المذهب الأشعري في قالبه الفلسفي[5]. لذلك، فقد شكل علم الكلام تيارا فكريا في عصر المرابطين، وإذا كانت سرقسطة وشرق الأندلس تميزت بعلوم الفلسفة والفلك والموسيقى، فقد كانت سبتة وأغمات من المراكز المهمة لعلوم الاعتقادات في العدوة، وكان أول من أدخل علم الكلام كما أسلفنا أبو بكر  المرادي. مما يعني أن نبذ علم الكلام من طرف أهل الرباط، إنما كان متعلقا بخصوص النظام المرابطي وفقهائه، وليس عاما يشمل علماء هذه الفترة.

    وفيما يخص رجال التصوف فإنهم تلقوا «الأشعرية» بارتياح ظاهر، تجلى ذلك في انتساب عدد منهم إلى حجة الإسلام «الغزالي»، واهتمامهم بموسوعته «الإحياء»، التي كانت تضم أصول التوحيد على طريقة الأشعري، حتى إن أحدهم -وهو ابن برجان- اشتهر عند معاصريه بغزالي الأندلس، ليس ذلك بكثرة مريديه، وإنما انفراده بآراء كلامية، وهو وجه يلتقي فيه مع أبي حامد، فالغزالي متكلم كبير تشهد له بذلك كتبه[6]، وهو الأمر الذي أشخص من أجله ابن برجان إلى حضرة مراكش فيما يحتمل أن يكون بداية عملية استنطاق. ففضلا على تصوفه فقد كان عارفا بعلم الكلام، وهو من المباحث المحظورة لدى المرابطين، الذين كانوا يرون أنها تعقد الأمور، وتحدث الشكوك في العقائد، وللتادلي في التشوف عبارة توحي بأن غلبة الفقهاء لابن برجان أضحت أمرا صعبا، بل لعله أظهر عليهم تقدما في المناظرة، فقد أخرج تلك المسائل على ما تحتمله من التأويل[7]، غير أن اللعنة لاحقت ابن برجان حتى بعد وفاته؛ فقد أمر السلطان أن تطرح جثته على المزبلة فلا تدفن، ولا يصلى عليها، وفي هذا دليل على أن ابن برجان قد اتهم في عقيدته بالكفر، فقد انجر الفقهاء على تكفيره والحكم بخروجه من الملة [8] . واللافت أن مجال التداول وإن كان تطبعه الأشعرية والمالكية، فإنه في الوقت نفسه أرض خصبة كثرت فيه المدارس الصوفية [9]،  ومما يدل على التقارب بين التصوف والأشعرية، أن الممارسة الصوفية عرفت انتشارا واسعا في السياق الموحدي، كما برز عدد من أعلام التصوف الذين أسسوا المدرسة الصوفية المغربية، حتى إنه قيل: إن المذهب الأشعري هو أقرب مذاهب المتكلمين للعرفان، فما قال العارفون أهل الكشف في مسألة بخلاف أقوال المتكلمين، إلا وجدت قول الأشعري أقرب قولهم من غيره، بحيث يمكن رده إلى أقوالهم بأدنى تأويل، بل المواضع المستشكلة من كلامه جارية على ما يقوله أهل الكشف…ومن طالع كتب المؤلفين في عقائد العارفين وإجماعاتهم، وجدها لا تباين مذاهب أهل السنة والجماعة فيما اتفقوا عليه، وقريبة من مذهب الأشعري فيما اختلفوا فيه[10]. إلا أنه على الرغم من هذا التوافق، فقد عمل الصوفية على تهذيب جوانبها العقلية –أي الأشعرية- بما يجعلها نمطا معتدلا، وقد قرأ عثمان السلالجي على ابن حرزهم الإرشاد في علم الكلام للجويني، وإن لم يكن ابن حرزهم متمكنا من حقائق هذا الكتاب بالذات [11]. وربما هذا ما يبين أن الصوفية لم يسلكوا في هذا العلم مسلك التجريد، وإنما عملوا على إدماجه ضمن مسلكهم التربوي بما يجعله سلوكا عمليا، وليس تصورا ذهنيا، و هذا ما أشار إليه الصوفي الكبير معروف الكرخي: «إذا أراد الله بعبده خيرا فتح عليه باب العمل، وأغلق عليه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبده شرا أغلق عنه باب العمل وفتح عليه باب الجدل»[12].

     كما أن رجال التصوف -في هذا المجال- تعاملوا والاضطرابات التي عرفها السياق بتجرد وحيادية، فلم ينساقوا إلى الخوض في الجدال العقدي أو المذهبي بين الأطراف، على اعتبار أن هذا التصادم في هذا المجال المعرفي إنما تأجج على خلفية التنازع حول السلطة السياسية،؛ وهو ما أدى إلى تفكيك عناصر الوحدة المميزة للإنسان داخل مجالنا الإسلامي. فالعمل على إخراج المخالف من دائرة «الإسلام» وقطع نسبته الروحية عن أصولها التوحيدية، إنما هو في عمقه تشتيت لهذا الكيان الجامع، وتفجير لهذه الوحدة المتعالقة، مما حَدا بالصوفية إلى اتخاذ مسافة وهذه القلاقل، وذلك من منظور إعادة الاعتبار للجماعة. فالاختلاف في التمذهب الفقهي، أو الانتماء السياسي، أو حتى مسألة «الاعتقاد» -فيما يختص بالجوانب الفروعية [13]منه-، كل ذلك لا يدعو إلى اتخاذ موقف التكفير ضد الإنسان المسلم، فلذلك عمل رجالهم على صياغة مقاربة مميزة «للإنسان» -أي الإنسان المسلم-، باعتباره وحدة جامعة، فلم يُؤثر أن أحدا منهم نحى الاشتغال بهذه الأمور، بل إن كتب المناقب أو التراجم التي أرخت للوجود الصوفي، مثل التشوف أو المستفاد أو المقصد، لم يصدر منها أي موقف فيما يختص بهذا الأمر، ونجد من المؤلفات التي اعتمدها رجال التصوف في المغرب، كالرسالة القشيرية وإحياء علوم الدين، أنموذجا في بيان معتقدات الصوفية.  والتصوف من خلال أقطابه لم يقدم قط على أنه فرقة من فرق أهل الاعتقاد، وإنما هو طريق تربوي سلوكي، يهتم بالأصول التزكوية، والممارسة العملية، والتجارب الروحية، وليس من شأنه الجدال العقدي مع أن منهم من كان مستوعبا لأصوله. كما أنه ليس من اهتماماتهم الاشتغال بالتشقيق الفروعي على أن منهم من كان من المبرزين في مجاله، ولكن اختصوا بعلم التزكية باعتباره العلم المنسي، الذي يختص بجوهر الإنسان ألا وهو قلبه، وهو موطن الصلاح في الإنسان، ف«اسم التصوف» لا يدل على اختصاص في العقيدة، مما يخرجهم من دائرة الجماعة، وليس هو اختصاص من ناحية المذهب، مما يقتضي رمي غيرهم لهم بالتبديع، وإنما هو اعتقاد وعمل وسلوك.

الهوامش :

1. أي المرابطين.

 2. (الاستقصا، (3/18

 3. أضواء جديدة على المرابطين، (ص17).

4. أضواء جديدة على المرابطين، (ص17).

5. المرجع نفسه، (ص83).

 6. الغرميني، المدارس الصوفية، (ص 117).

 7. التادلي: التشوف إلى رجال التصوف، (ص170).

 8. الغرميني، المدارس الصوفية، (ص 135).

 9. المرجع نفسه، (ص 69).

 10. (رحلة العياشي، (1/480.

 11. إبراهيم حركات: مدخل  إلى تاريخ العلوم، (ص 91).

 12. السلمي: طبقات الصوفية، (ص 87).

13. فلم يخرج علماء المسلمين المعتزلة من دائرة الجماعة، على الرغم من الاختلاف بينهم على بعض القضايا العقدية، والتي لم تصل إلى مستوى القضايا الضرورية التي بموجبها تقدح في انتساب المسلم.

د. طارق العلمي

  • أستاذ باحث في الرابطة المحمدية للعلماء، متخصص في المجال الصوفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق