مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

هل الله «محسُوسٌ»؟، جوابٌ في علم الكَلام للحسَن اليوسيّ (ت. 1691م) – «ولا نلتفتُ إلى من يحرّمُ علوم الفَلسفةِ والمَنْطقِ» اليوسيّ

ما تقرأه، أدناه، ليسَ سوى تحليلٍ لطرفٍ هامّ من سيرة علاّمة الغرب الإسلاميّ أبي علي الحسن اليوسيّ (1102 هـ/1691م)، وعرضٍ منسّق لها بنحو مَا؛ معَ تحليل آخر لنصّ في جواب اليوسي عمّا إذا يصحّ وصف ذات الله بكونِه معنويّا أو محسوسًا، أم أنّ الوصفَ بهما ممّا يمتنعُ عقلاً وشرعا؟. وهي مسألة مثارة، قديما، بتفريعات فلسفية وطبيعة في التقاليد الكلامية المعروفة في الحقب التقليدية والوسيطة من تاريخ الفكر الإسلاميّ.

ونصّ الجواب النفيس، كما سترى، نشرَ نشرة وحيدة عن مخطوطة مفردةٍ معَ نصوصٍ أخرى لليوسي؛ رغم أنّ شيخ الجماعة سيدي ابن حمدون السّلميّ (ت. 1273هـ/1857م) —واحد من أشهر علماء وفقهاء المغرب من المتأخرين— كانَ قد ضمّن نصّها في أحدِ كتبه الأكثر تداولا مدرسيّا إلى اليومِ في التعليم والتدريسِ الدينيّين ببلدان الغرب الإسلاميّ وشمال إفريقيا ذات المرجعية الدينية الواحدة وفق المذهبين الأشعريّ، في علم الكلام والعقائد، والفقه المالكيّ، في التشريع. وقد سمح لي المقال بعرضِ نصّ الجواب بعد سلِّه من كتاب شيخ الجماعة، وبيان الفروق الحاصِلة بين نشرة الدار البيضاء المغربية، ونصّ كتاب ابن حمدون؛ دونَ الرجوع إلى الأصول الخطية لأسبابٍ ما. ويبدو أنّ شيخ الجماعة كان قد أثبت النصّ من موردٍ مغاير لما عرف في نشرة الثمانينات كما سترى.

هذا وقد عرضتُ الفروق على شاكلةٍ غير معهودة في النّشر والتوثيق، أحسبها نزقًا عابرا مني قد يثير حفيظَة بعض الدارسين. وأيّا كان فما أبديه، هنا، أقلّ، بكثير، ممّا عندي في ذا المقامِ على الأقلّ؛ لأسبابٍ تتعلقُ برسمِ النّشر، وموضعِ المقال منْه، وشيوعِ الأخذِ بلا إحالاتٍ ممّا تنكفُ عنْه أيدي الباحثين الجادّين.

  1. اليُوسي دارسًا لعلم الكلام

في فهرسَته العلميّة، يذكر لنَا العلامة أبو عليّ اليوسيّ (1102 هـ/1691م) طرفًا من البرنامج العلميّ الذي كانَ منتظمًا تحته في تحصيل العلوم الدينيّة وغير الدينيّة؛ من تفسير، وحديثٍ، وفقهٍ، ولغة، وحسابٍ … وغيرها من المعارف التِي كانتْ، كما هو معروفٌ، رائجةً في السياق المدرسي المغربيّ آنذاك؛ أي في القرن السابع عشر الميلادي. وما يهمّنا في هذا البرنامجِ التعليميّ هو ما تلقاه اليوسي من معارفَ كلامية عقائديّة، وعقليّة جعلته، فيما بعدَ، مؤلّفًا بارعًا في علم الكلام ومسائلِه الدّقيقة؛ وعلى هذا فإنّي أجتزئ، بعرضٍ منّي، ما درسَه في علم الكلام من فهرستِه التي تمدّنا بمعطياتٍ مهمة، من غير أن يشمل هذا فهرسته الكبرى المطبوعة بأخرة (تح. حميد حماني اليوسي، الدارالبيضاء: دار الرشاد، 2023م).

بعدَ أنْ قرأ اليوسي القرآنَ، وختمه حفظًا —مشيرًا إلى تعهده له بالعناية بعدَ ذلك دائما—؛ بدأَ عالمنا دراسَة العلوم الدينية وغير الدينيّة في حلقات جماعة من الأساتذة أو «شيوخِ التعليم» —كما يسميهم في موضعٍ مخصوص لهم بالفهرسة—  (اليوسي 2004م: 50، 51، 52).

يمكن القول إنّ أوّل ما أخذه اليوسيّ في علم الكلام أو العقائد كانَ «شيئًا من الدياناتِ، وصدرًا من رسالة الشيخ أبي محمّد» القيرواني (ت. 386 هـ/996م) عنْد أستاذِه أبي محمّد الحسين بن أبي بكر التعلاليني (اليوسي 2004م: 53). لاحقًا سيبدأ اليوسي في تطويرِ وترقية مدارج الدراسَة، ليدرس على أبي محمد الحسين بن أحمد المَدوري «منظومة الرّقعي في الدّيانات» (؟)، ثم جملةً من «الرسالة» القيروانيّة عنْد الشيخِ أبي بكر بن الحسن التطافي (ت. 1100 هـ/1688م). وسيُدخل، فيما بعد، أساتذته في مقرّرات الدرسِ أعمالَ المتكلم المغربيّ العلامة أبي عبد الله السنوسي (ت. 895 هـ/1490م) الذائعة حينها؛ حيث سيدرس اليوسي على الفقيه أبي عبد الله محمد ابن السيّد الحسيني (ت. 1089 هـ/1678م) العقيدة «الصغرى»، و«جملة من الرسالة». (اليوسي 2004م: 54؛ 57).

وقد كانَ العلامة الشيخ أبو مهديّ عيسى السًّكتانيّ (ت. 1062هـ/1651م) —المعروف باشتغاله القوي بالعلوم العقليّة— ضمن لائحة أساتذته في المنطقِ والكلامِ؛ لكن اليوسي يخبرنا بأنه قرأ عليه «جملةً من محصَّل المقاصد لابن زكريّ» (ت. 899هـ/1494م) فحسب، ثم انتقل إلى دراسة «كبرى الشيخ السنوسي، مع شرحها» عند أستاذه الآخر أبي العباس عمران الفاسي (اليوسي 2004م: 58، 59، 62).

ويحكي لنا اليوسي استجازته لبعض أساتذته لـمَّا كانَ في الزاوية الدلائية، في فترة من حياتِه؛ حيثُ قدّم له بعض أساتذته «إجازات» خطيّة تنزل منزلة شهادة علمية ببلوع الرجل درجة معرفية رفيعَة، عقب استيفائه مراحل التعلّم الأساسيّة، محصّلا، خلالها، من المعارف ما يؤهّله للتدريس والتأليف وإبداء آراء قد تكون ذات اعتبار وشأنٍ في حلقات العلماء. ومن الذينَ أجازوه؛ يذكر اليوسي أستاذَه محمد بن سعيد الميرغثي (1089هـ/1678م) الذي  أجازه في جملةٍ من الكتب والمعارف منْ جملتها الكتب الكلامية التالية:

  • الإرشادلأبي المعالي الجويني (ت. 478 هـ/1085م).
  • «كتاب الإمام ابن زكري»؛ أيالمحصّل.
  • «عقائد السنوسي الخمسَة، وما له من غير ذلك» (اليوسي 2004م: 68؛ 76).

وسيستدرك اليوسي، في آخر برنامجه الدراسي عند أساتذتِه، بما يعتبره منهلاً آخر من مناهل العلم والدراسة؛ يعني به الذكاء والفطانة، فالرجل رغم قلّة أساتذته والكتب التي درسها —كما يقول—؛ رزقَ «فتحا ربانيا» و«فطنة ذكية»، وما يراه القارئ، في نظر عالمنَا، من «قلة سماعِ الكتبِ والفنون» لا يقتضي قلّة التحصيل. وحقّا؛ فإّن إنتاجه العلميّ فاق ما كان عند غيره، وأبان عن سعة اطلاع، وحدة نظر باينتْ ما راج في عصره إلى درجة أنّها جرت عليه جانبًا من العداء من قِبل بعضِ معاصريه؛ لكن ذلك ما كان ليمحو أثره الذي بقيَ خالدا (اليوسي 2004م: 79. وراجع: مقدمة فاطمة خليل القبلي ضمن: اليوسي 1981: قسم الدراسة).

  أخيرًا؛ يجدر بنا أن نشير إلى أنّ شرح العقيدة الكبرى، ومحصل المقاصد يعدّان أوسع مقرّرين دراسيّين قرأهما اليوسيّ، ويساعدنا على هذا الاستنتاج ما هو معلومٌ من أمرِ الكتابين المعدين، أساسًا، للدراسات المتقدمة في علم الكلام. وأيا كانَ فإنّ الفهرسة لا تخبرنا بطبيعةِ، وكيفية دراسة اليوسي للمقرّرات الأخرى في علم الكلام. وعليه؛ فإنّي أنظم المقررات المدروسة من قِبله والمدرجة في برنامجه التعليميّ فِي الجدول الآتي، دون أنْ أخفي شعورًا بغموضٍ تطويه عبارة لليوسي إذ يقول: «وقد بقيت جماعة أخرى ممن انتفعت بهم» (اليوسي 2004م: 79)؛ حيثُ لا نعلم من أمر هؤلاء الأساتذة ووجوه الانتفاع بهم، في الفهرسة، إلا أسماءهم وبعض ما استفاده منهم إجمالا، ولا أظنهم يعدلون من قدّمهم في مسرد «شيوخِ التعليم».

المقرّر الدراسينوعية الدراسة وعدتهاملاحظاتٌ
صدرُ رسَالة ابن أبي زَيدقرأه إجازةً ودرسًا ثلاث مرّات عند أستاذة مختلفين. (راجع الإجازة في: اليوسي 2004م: 73).عادة ما تحيل الرسالة القيروانية على الفقه المالكيّ؛ لكنّها، وكما هو معرورف، تتضمن قسمًا عقديّا ذا اتجاهٍ أثريّ ظاهر شرحه المتأخرون وفقَ رؤيّة أشعريّة ظاهرة هي الأخرى؛ فيكون اليوسي، بناءً على ذلك، قد تلقى تكوينًا عقديّا من خلال مقرّر «صدر الرسالة».
منظومة الرّقعيّ في الدّياناتقرأه درسًا مرتين فيما أظن.وردت باسم: «منظومة الرّقعيّ في الدّيانات» تصريحا، فيما أعتقد أنّ عبارة: «شيئا من الديانات» تحيلُ عليها أيضا، ويبقى هذا تخمينا. (راجع الإحالات السابقة). وتبقى معطيات هذه المنظومة مجهولة عندي إلى الآن.
العقيدة الصّغرىقرأه درسا في مرّة واحِدة، ثم إجازة.مجازٌ به ضمن إجازة أستاذه محمد الميرغثيّ المتضمنة لأعمال السنوسي.
محصّل المقاصدقرأه درسًا، وإجازة.لا أظن أنّ قراءَته للمحصل عند عيسى السًّكتانيّ كانت كاملةً، وقد أجيز به ضمن إجازة الميرغثيّ.
العقيدة الكبرى وشرحهاقرأه درسًا، وإجازة.أخذه درسا عند أستاذه العباس عمران الفاسي، ثم أجيز به ضمن إجازة أستاذه الميرغثيّ المتضمنة لأعمال السنوسي.
مقدمة منظومة منظومة المرشد المعين على الضروري لأبي محمد ابن عاشر (ت. 1040 هـ/1631م).إجازة (؟).يذكر اليوسي أنّ أستاذه عبد القادر الفاسي (ت. 1091 هـ/1680م) أجازه فيما أخذه عن أستاذه أبي محمد ابن عاشر (ت. 1040 هـ/1631م) – العالم المغربيّ المشهور – دون تعيين، وأخمنُ أنّ منظومته المدرسية: المرشد المعين من مروياتِه (؟).
الإرشاد لأبي المعالي الجويني.إجازة.ضمن إجازة أستاذه الميرغثيّ.
عقائد السنوسي الخمسَة، وما له من غير ذلك.إجازةً.العبارة غير دقيقة!؛ لذا أفترض أنّ أعمال السنوسي المجاز بها من قِبل الميرغثيّ، غير ما ذكر من أعماله هي؛ العقيدة الوسطى، والعقيدة صغرى الصغرى، الحفيدة؛ فيصير عدد العقائد خمس عقائد، مع ما مرّ، يضاف إليها: المقدمات، والشروح، وشرح العقائد الجزائرية ثم شرح واسطة السلوك على الأقلّ.
  1. الجوابِ جوانب نصيّة وتحليليةٌ

يبدي لنا اليوسي، في فهرسته، وفي غيرها، انفتاحًا واسعًا على جملةِ العلوم العقليّة التِي شهد عصره ما يشبه أن يكون قلة حماسة نحوها لربما. وإن هذا الانفتاح تشهد له الدراسة النقدية لجملة نصوصه وأعماله المعروفة كـ حواشي الكبرى والقانون وغيرهما. ففي سنة: 1981م نشرتْ الباحثة فاطمة خليل القبلي مجموعًا من رسائل اليوسي شملتْ أجناسا أدبية وفنية علمية متنوعة، وقد ضمّ مجموع الرسائل المنشور ثماني رسائل كانت كلها أجوبة عن قضايا محدّدة في علم الكلام باستثناء العقيدة الصغرى، والتي كانتْ أشمل، في عبارات مختصرة لمجمل القضايا العقديّة. وما يهمنَا من نصوص الأجوبة والرسائل العقدية والواردة في قسم العقائد الذي شغل من ص. 471 إلى ص. 522؛ السؤال الذي ورد على اليوسي برسم الاستفسار عن «ذات الله هل هي حسيّة أو معنويّة؟»، والتي شغلتْ صفحتين من 482 إلى 483 ضمن النشرة المحال عليها، وأعقبتْ بإجابة أخرى تماثلها فحوًى، ومعنًى شغلتْ من ص. 478 إلى ص. 480؛ أي قبل إجابتنا المقصودة هنا.

أيا كان فنصنا عبارة عن إجابة كاملة أوردها، أيضا، شيخ الجماعة ابن حمدون السّلميّ (ت. 1273 هـ/1857م) في تعليقاتِه، أو حواشيه، المستفيضة على كتابِ مختصر شرح المرشد المعين للشيخ الفقيه ميّارة الفاسي (ت. 1072 هـ/1662م) ضمنَ القسم العقديّ منه. ويبدو أنّ شيخ الجماعة الطالب ابن حمدون قد طالعَ الجوابَ وأثبته كاملاً من موردٍ ما في نصّه معلّقا على قول الشارح ميّارة في مسألة مفهومِ «الذات» من قسم العقيدة (ابن حمدون، مع شرح الشيخ ميّارة، 2011م: 44، 45). إنَّ النص، في نشرته المذكورة، كان مضمّنًا في مجموعٍ مخطوطٍ للمكتبة الناصرية كائن بالخزانة العامة – الرباط «تحت رقم ق. 302»، حسب ما ذكرتْه الباحثة في نشرتها (فاطمة خليل القبلي ضمن: اليوسي 1981: 481. راجع: ليفي بروفنسال، فهرس المخطوطات العربية المحفوظة بالخزانة العامة بالرباط، مج 1،  1997-98م: 191). وما يثير في النشرة، قياسًا بما أورده ابن حمدون الفاسي، هو الإجابة المنشورة قبل نصّنا —كما سبقت الإشارة— والتي تحملُ نفس المضمون والمعنَى (اليوسي 1981: 477).

هذا؛ وإن النصّ الذي ستقرأه أسفله قمنا باستلاله من حواشي شيخ الجماعة مقارنين بينه وبين نشرة: 1981م (= نشرة الدار البيضاء)، مستفيدين مما أثبته ابن حمدون، مادام نصه يقدم لنَا صورة أخرى لا تختلف، غالبًا، عن نشرة البيضاء إلا شكليّا، معَ إضافتين من قراءةِ وزيادة المحقّقة؛ مستثنين موضعًا يبدو أنّه خَطأ في الطباعة في نشرة حواشي ابن حمدون.

أما فيما يخصّ دواعي الجواب؛ فإنه، على ما يبدو، قد كتب في سياقٍ المناقشات العلمية التي يثيرها، عادة، بعض الطلبة عقب الدروس، وأثناء المراجعاتِ؛ مما اقتضى بيانًا من قِبل الأستاذ لمسألة وصفت في الإجابة التي قبلها بأنها «سؤال شيطانيّ». ولئن كانتْ الرسالة التي قبل هذه، كما أشرتُ، من جنس رسالتِنا؛ فإنّ الأولى يميل فيها اليوسِي إلى تقريرٍ غير عقلانيّ في البدءِ، مضمّنا فيه فحوى إجابتنا هذه (اليوسي 1981: 478، 479). ويظهر أنّ الإجابتين كانتَا في سياقٍ واحدٍ.

يمكن أنْ يتلمسَ من بنيةِ الإجابة الثانية —المضمّنة هنا— أنّه لم يكن جوابًا لسؤالٍ تخصّصي صعب الحلّ والنقاش كتلك المسائل والأجوبة التي خصّها اليوسي بأعمال كاملة جوابا ومناقشة، شارحا ومفصلا —نذكر منها كتاب مشرب العام والخاص مثلا—. على هذَا؛ فالقارئ ليدرك أنّ السائل إنّما وقعَ سؤاله موقَع المستفتي الطالب لمعرفة ما إذا كان إطلاق بعضِ الألفاظ سائغًا (=جائزًا بلغة فقهيّة) أم لا.

لم تكن إجابة اليوسي مدعّمة بالأدلّة والبراهين، كما اعتدنَا في الكتابات الكلاميّة، وفي أهم أعماله العقدية؛ وإنما كانتْ عبارة عن استرسالٍ في الجوابِ، وتفصيلاً لجوانب أخرى من بنية السؤال، ويتعلق الأمر، ها هنا، بالمستوى المفهوميّ والدلالي لبعض الألفاظ ومدى موائمتها للنسق العقديّ السّني الذي يتبناه اليوسي، ويسألُ عنه السائل معتبرًا إياه نسقًا من صميم القرآن والسنّة لربمَا.

إلى هذا فاليوسيّ لم يطرَح، من حيثُ النسق العام دائما، أمرًا جديدًا ولا مستحدثًا؛ لأنّا سنراه متبنيّا لمجمل وتفاصيل مقتضيات العقائد الأشعريّة في بنياتِها وخطوطها العامّة والكلية. وقد سبق أنْ قلنا بأنّ الجواب كانَ، في مجمله، متعقبًا للمعاني الدلاليّة أكثر من كونِه مكتنفًا للبراهين العقليّة والنقليّة في المسألة المجاب عنها، والتحليل التالي يوضحُ بنية الجواب:

يسألُ السائل عمّا إذا كانَت ذات الله «حسيّة أو معنويّة؟»، وهو سؤال لم نتبيّن، على الأقل الآن، حدود سياقاتِه الخارجيّة تبيّنًا أكثر؛ لكنا نفترضُ السائلَ طالبًا دارسًا أو شخصا ما من المثقفينَ لربّما.

يمضي اليوسي، في محاولة رفع الإشكال، ببيان بعض المعانِي الدلاليّة التِي يمكن أنْ تحمل عليها لفظتا السؤال: حسيّة ومعنويّة، ويقرّر، في البدايَة، أنّ المعاني، أو مدلول «المعنَى» يجري على: «ما لا يقوم بنفسه»، وذلك «كالعِلمِ، والقدرة، والوجودِ؛ أو كالبياضِ والسّوادِ والحركة» —يقول اليوسيّ—. غير أنّ المعنى، هنا وبمفهومه المذكور، يبقى أمرًا شاملاً لـ معاني الله «القديمة» ومعاني الموجودات العَرضيّة (= المقابلة للأجسامِ والجواهر) و«الحادثَة»، كما تنبئ أمثلته المذكورة.

إنّا لو افترضنَا أنّ طبيعة ذات الله عبارة عن «معنى»، بالدلالة المذكورة؛ لزمنَا، حسب اليوسي، أنْ نصوّر مفهومَ الله على نحو «ما لزم النّصَارى حيث قالوا: إنّ الله صفة قديمة»، على الأقلّ في إحدى التصوراتِ التي عرفها المسلمون من مذاهب النصارى في يخصّ طبيعة الله —يستدرك اليوسي—؛ وأيّا كان فإنّ في مماثلة هذا المعنى لعقيدة النصارى كفايةً في كونه غير مقبولٍ لدى أيّ قارئ للجواب من المسلمين، وههنا نجد أنفسنا بإزاء حجاجٍ من جنسٍ آخر غير معتمدٍ على الدلائل بما هي دلائل على المسألة في نفسها.

 وليقال بأنّ الله معنى أو ليس كذلك ينبغِي أنّ نفسّر العبارة، وههنا يلزمنَا أنْ نستبعدَ مفهومَ «المعاني» —القديمة والحادثة— في التقاليد الكلاميّة؛ وينبغي، تاليًا، أنْ نفسّر لفظ المعنى «ليُحكم عليه بالبطلان، أو الصحة»؛ وعلى هذا فإنّ اليوسي يفترضُ تفسيراتٍ للعبارة، ولا ينبئنَا عمّا إذا كانَت تلك التفسيرات متبناةً من قِبل بعضِ من يوجّه إليهم الجواب. ويمضي اليوسي قائلا بأن عبارة «معنويّ» قد تنطلق على «الحسيّ» أو «المحسوس»، وعندئذٍ فإنّا إما أنْ نلحق طبيعة الله بجنس الموجوداتِ «المتحيّزة» والتي «في جهة»، وهذا ممّا يمتنعُ عقلاً؛ وإمّا أن نعنيَ باللفظِ أحد المعنيين الصحيحين في حقّ الله أو كلاهما؛ حيث يمكن أنْ نحمل المعنى الأوّل المقبول للفظة «حسيّ» بالنسبة إلى الله على «ما تتعلق به الحواس»، ولا شكّ أنّ الله، بهذا المعنَى ووفق الأشاعرة، محسوسٌ؛ لأنّه « يصحّ أنْ يُرى، ويقع ذلك في الآخرة، ولا يلزم من كونها [=ذات الله] حسيّةً أن تكون متحيّزة» —يقول اليوسي—. وقدْ يحملُ اللفظُ، في المعنى الثاني الصحيح، على معنى أنّ ذات الله «موجودة في الخارج، يمكن أنْ تتعلّق بها الحواسّ»، أو بمعنى: «أنّها توجد في الخارجِ، وليست من المعقولات التي لا توجد إلاّ في الأذهان، وهِي بحيث تدركها الحواسّ».

إنّ المعنيينَ المذكورين، حسب اليوسي، ينطويانِ على دلالاتٍ معقولة ومقبولة بالنسبة إلى الله؛ لكن يبقى فقط النظر إلى لفظيهما من جهة أنّ الشريعَة لم تصرّح بكون الله حسيّا أو معنويّا بالمعنيين الصحيحين فـ«يترك لفظ الحسيّة وإنْ صحّ معناها، كما يترك لفظ المعنويّة لعدم صحتها معنى ولفظًا».

  1. نصّ جوابِ اليوسيّ:

رموز النصّ:

الرمز:معنَاه:
ننشرة الباحثة: فاطمة القبلي.
عبارة زائدة من النشرة المذكورة.
عبارة ناقصة من النشرة المذكورة.
عبارة مع تسطيرتشير إلى محلّ الفرق.

 نصّ الجواب:

«سئلَ العلامة سيدي الحسن اليوسي عن ذات الله تعالى: هل هي حسيّة أو معنويّة؟؛ فأجاب بـ: أنّه (1) يقال لمن قال إنّ ذاته معنويّة: ما تعني بقولك معنويّة؟، إنْ عنيتَ أنّها معنى كالعِلمِ، والقدرة، والوجودِ، أو كالبياضِ، والسّوادِ، والحركة، أو(2) نحوِ ذلك من المعَانيّ من كل ما لا يقوم بنفسه، و(3) يقومُ بذاتٍ سواء كان وجُوديّا أو عدميّا قديمًا أو حادثًا؛ فهذا محال؛ لأنّ ذاتَ الله لو كانتْ معنًى لاحتَاج إلى ذاتٍ تقوم(4) به، إذ لا يقوم المعنى بنفسِه ضرورة.

ويلزم من يقوم(5) بهذا ما لزم النّصَارى حيث قالوا: إنّ الله(6) صفة قديمة. وذلك أنّهم قالوا: إنّ معبودهم مركب من الأقانيم الثلاثة: وهي العلم والحياة والوجود، ثم حكموا بأنّ هذه الثلاثة اتحدت فصارتْ الإله واحِدًا، وهو معَ ذلك ثلاثة(7)؛ فجمعوا بين الوحدة والكثرة، وحكموا بأنّ الإله مركّب من أحوالٍ أو وجوهٍ واعتباراتٍ لا تقوم بنفسها، فكل من ذهب إلى(8) ذاتِ الله تعالى معنى من المعانِي، فمذهبه كمذهب النصارى، وللنصارى مذاهب أخر ليس هذا محلّ تفصيلها(9).

وإن أراد من يقول إنها معنوية غيرَ هذا؛ فليفسّره ليُحكم عليه بالبطلان، أو الصحة. وأمّا من قال إنها حسيّة فيقال له: إنْ أراد(10) أنها متحيّزة، و(11) في جهةٍ، وتمكن الإشارة(12)، كما هو في المحسُوساتِ(13)؛ فمحال لأنّ الله تعالى مخلف لخلقه(14)، ليس بجرم، ولا عرضٍ، ولا له شيء من خواصّ الجِرم، أو العَرض؛ وإنْ أراد بكونها حسيّة أنّها توجد(15) في الخارجِ، وليست من المعقولات التي لا(16) توجد إلاّ في الأذهان، وهِي بحيث تدركها(17) الحواسّ؛ فهذا صحيح لا شكّ فيه.

فنقول: إنّ ذات الله تعالى من جهة المعنَى هي حسيّة؛ لأنّه تعالى موجود مشخّص في الخارج، قام بنفسه، والحسيّ(18) في اللغةِ والعرف، هو(19) ما تتعلق(20) به الحواس، ولا شكّ أنّ ذات الله تعالى يصحّ أنْ ترى، ويقع ذلك(21) في الآخرة، ولا يلزم من كونها حسيّةً أن تكون متحيّزة، ولا أن تكون في جِهةِ، كما أنّ الله تعالى يرى من غير جهة ولا مقابلةٍـ وكون الرؤية لا تستدعي جهة، ولا مقابلة، مقرّر في مبحثِ الرؤية من علم الكلام(22).

فإذا قال أحد إنّ ذات الله حسيّة؛ على معنى أنها موجودة في الخارج، يمكن أنْ تتعلّق بها الحواسّ؛ فكلامه صحيح(23)، وهو من جهةِ المعنى كما قلنا. وأما من جهةِ إطلاق اللفظِ، أعني لفظ الحسيّة على ذاته تعالى(24)، فنقول: إنْ كان فيها إبهام(25) للعوام فلا ينبغي أنْ يطلق؛ بل يقال: إنّ ذات الله تعَالى موجودة، وهو قائم بنفسِه، ويترك لفظ الحسيّة وإنْ صحّ معناها، كما يترك لفظ المعنويّة لعدم صحتها معنى ولفظًا(26)، والله الموفق اهـ».

هوامِشُ النصّ:

  1. غير واردة في: ن، ولعلها من زيادة ابن حمدون.
  2. ن: و.
  3. + ن: لا، من زيادة محققة النص.
  4. ن: يقوم.
  5. ن: يقول.
  6. +ن: الله تعالى.
  7. ن: أو هو مركب مع ذلك من ثلاثة. و«من»: من زيادة محققة النص
  8. +ن: أنّ.
  9. ن: وللنصارى مذهب آخر ليس هذا محلّ تفصيله.
  10. ن: أردت.
  11. – ن: و.
  12. +ن: إليها.
  13. +ن: عندنا.
  14. ن: مخالف لخلقه. وأظنّه خطئًا مطبعيّا في نشرة حواشي ابن حمدون.
  15. ن: موجودة.
  16. – ن: لا.
  17. ن: يدركها.
  18. ن: والحس.
  19. – ن: هو.
  20. ن: يتعلق.
  21. +ن: عندنا.
  22. ن: معلوم في علم الكلام مقرر في مسألة الرؤية.
  23. +ن: لا يرد عليه.
  24. ن: عليه تعالى.
  25. ن: إيهام.
  26. ن: هي معنى.

(ابن حَمدون 1929م:  1 – 32، 33. ابن حمدون 2011م: 44، 45. اليوسي 1981: 482، 483).

***

المصادر:

  • ابن حمدون أبو عبد الله محمّد الطالب ابن الحاج:

ابن حَمدون 1929م: حاشيّة على شرح محمّد بن أحمد ميّارة الفاسيّ على منظومة المرشد المعين على الضروري من علوم الدّين من علوم الدين. القاهرة (؟).

ابن حمدون 2011م: حاشيّة على شرح محمّد بن أحمد ميّارة الفاسيّ على منظومة المرشد المعين على الضروري من علوم الدّين من علوم الدين، راجعه وصحّحه عبد الكريم قبول. دار الرشاد الحديثَة، الدار البيضاء.

  • اليوسي أبو عليّ الحسن:

اليوسي 2004: فهرسة اليوسي، تحقيق زكريا الخثيري. بحث مرقون لنيل شهادة د. ع. المعمقة بجامعة محمد الخامس، كلية الآداب الرباط، بإشراف: د. جعفر بلحاج السلمي.

اليوسي 1981: رسائل أبي علي الحسن اليوسي، تحقيق فاطمة خليل القبلي. دار الثقافة، البيضاء.

Science
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق