مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

آية وعبرة:”خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ”

بسم الله الرحمن الرحيم

1-إطلاقات العفو

          من سماحة الملة رعي طبائع الناس، وعدم إلزامهم فوق ما يستطيعون، أو تكليفهم ما لا يطيقون، فلا حرج في الدين، ولا تشديد في أحكامه، ولا تعسير في تشريعاته، بل إن الناظر في مجموع ذلك بعين الفحص يلمح التجاوز والصفح؛ بما تطالعه من نصوص تحث على المطاوعة، وتحمل التبشير، وتحض على التيسير، التجاوز عن المسيء، ما لم تنتهك حرمة فيها تجاسر على حقوق الآدميين، أو منازعة لحق الله الأكبر على المكلفين، وإن آية الأعراف لواحدة من الآي الرافعة لهذا الشعار، وذلك قوله تعالى: ” خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ” [الآية:199]

          والخطاب فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتدخل فيه أمة الاستجابة بالتبع؛ وذلك بما دعيت إليه من تنزيل آي التشـريع في حياتها، وتفعيلها في علائقها، والتحاكم إليها في منازعاتها…

           نقف عند هذه الهدايات واحدة واحدة، ونستهل هذا المقال بأول هدايات الآية:

  “خذ العفو: العفو كلمة قرآنية لها دلالات، يوجهها السياق العام للقرآن، وهي في مجموعها ترجع إلى التسامح والتجاوز و التيسير.

المعنى الأول: الأمر الزائد على قدر الحاجة، وذلك كالفاضل عن نفقة المرء الضرورية، ومنه قوله تعالى: “وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ” [البقرة:219]، أي: ما فضل عن نفقة الإنسان، والآية نزلت جوابا لمن سأل عن المنفق ما يتعين فيه[1]؟ فجاءت الإجابة من رب العالمين، قل العفو، أي: أنفقوا الفضل من أموالكم، وقيل إن الآية نسخت بعد ذلك بفرض الزكاة، ومعلوم شرعا أن البداءة في النفقة تكون على النفس، ثم الأدنى فالأدنى، فقد روى الإمام مسلم عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: ” ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَفِي ذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ فَهَكَذَا وَهَكَذَا يَقُولُ: فَبَيْنَ يَدَيْكَ، وَعَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ “[2]،

المعنى الثاني: أن يأتي بمدلول الصفح والتجاوز، ومنه قوله تعالى ” فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ” [الشورى:40]وقوله ” فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ” [المائدة:13] ” فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ” [البقرة:109]”فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ” [آل عمران:159] “وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ” [آل عمران:152] “عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ” [المائدة95] “وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا” [المائدة101] “عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ” [التوبة:43]، وغيرها من الآيات.

و هذا الإطلاق أغلب استعمالات هذا المصطلح القرآني؛ وكثرة دوره قرينة على ركنيته العتيدة في البناء، يدل على ذلك جملة أمور منها؛ أن الشـريعة جاءت بالتخفيف ورفع الإصر عن هذه الأمة، فوضعت عنها كثيرا من شرائع الأمم السابقة التي كانت فيها مشقة وكلفة قال سبحانه و تعالى في أواخر سورة البقرة ” رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ” [الآية: 286]، كما أن الملة راعت أحوال الناس فجاءت بإزاء عزائم تشريعاتها رخص كثير في عبادات شتى؛ كالطهارة والصلاة والصوم ..كما جاء في تضاعيف الكتاب الإخبار عن عفو الله وتجاوزه عن كثير من المخالفات لمن اطلع منه على صدق الطوية، وحسن القصد و خلوص النية ، فقال مطمئنا رسوله بعدم مؤاخذته عن إذنه للكاذبين ” عَفَا اللَّهُ عَنْكَ “، وأخبر عن تجاوزه عما  مضـى من المعاملات المحرمة إن نزع العبد عنها، وأصلح فيما بقي، فقال: “عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ” ، وأخبر عن نفسه سبحانه أنه عفو يحب العفو[3]، في إشارة إلى شحذ الهمة إلى الاتصاف بهذا الخلق الرفيع،  ليجيء بعد ذلك التصـريح الصريح  ندبا للأمة إلى رفع علم العفو بينها، وحمل النفس عليه، ومجاهدة النفس للاتصاف به، بعد أن أباح لمن لم يقو على ذلك، ولم تطاوعه نفسه عليه  أن ينتصـر لمظلمته بقدر ما وقع عليه من ظلم، فقال: “وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله” [الشورى:40]، فأباح لها التعامل بالعدل وندبها إلى التشوف لما هو خير وأفضل،  وهذا ما وعاه الرعيل الأول من أسلاف الأمة، ونماذج ذلك مبثوثة لمن طالع أخبارهم.

المعنى الثالث  من معاني العفو ما جاء عفوا دون جهد؛ هو ما يجري على الألسن تعبيرا عما حصل للمرء من المكتسبات التي نيلت دون عناء، ولم يبذل لها كبير معالجة ولا مزيد تخطيط و تفكير، فتجيب مثلا من سألك عن مصدر تحقيق شيء ما؛ فتقول: جاءني عفوا، أي دون برمجة ولا إعداد، وتقول عن إجابة حضـرتك دون تبييت جواب؛ جاءتني عفو الخاطر، وتخبر عن شخص لا يلقي بالا لمرامي الكلام وأبعاده؛ يتكلم بعفوية، وما إلى ذلك من الاستعمالات التي توظف هذا المصطلح..

وعليه فإن الأمر بأخذ العفو في الآية تندرج فيه هذه المعاني كلها، وذلك حسب الموقف الذي يراد له الأخذ بالعفو فيه ، ومن وقف على كلام أرباب التفسير ألفى كلامهم يدور في هذا الفلك، قال ابن عطية: “وقوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ الآية، وصية من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم تعم جميع أمته وأخذ بجميع مكارم الأخلاق، وقال الجمهور في قوله خُذِ الْعَفْوَ إن معناه اقبل من الناس في أخلاقهم وأقوالهم ومعاشرتهم ما أتى عفوا دون تكلف، فالعفو هنا الفضل والصفو الذي تهيأ دون تحرج، قاله عبد الله بن الزبير … ومنه قول حاتم الطائي:

خذي العفو مني تستديمي مودتي … ولا تنطقي في سورتي حين أغضب” [4]

 و قال في البحر المحيط: “هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعم جميع أمته، وهي أمر بجميع مكارم الأخلاق، وقال عبد الله بن الزبير ومجاهد وعروة والجمهور: أي: اقبل من الناس في أخلاقهم وأموالهم ومعاشرتهم بما أتى عفوا دون تكلف ولا تحرج، والعفو ضد الجهد، أي: لا تطلب منهم ما يشق عليهم حتى لا ينفروا، وقد أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: يَسِّروا ولا تُعسِّروا”[5]

وقد استشهد ابن منظور بكلام ابن الزبير في تفسيره للعفو فقال: “أمر الله نبيه أن يأخذ العفو من أخلاق الناس، قال: هو السهل الميسـر، أي: أمره أن يحتمل أخلاقهم ويقبل منها ما سهل وتيسر ولا يستقصي عليهم .”[6]

           ومن فهم هذا المعنى تفادى كثيرا من النزاعات التي تترتب على إغفاله وإهداره ، وعدم إعماله واستحضاره، فالكياسة أن تقنع من الناس بما اسطاعوا، وأن لا تكلفهم ولا تعتب عليهم فيما عجزوا، بدءا بالولد الذي هو أقرب القرابة وانتهاء بالعلاقات العابرة.

 ولنا في رسول الله الأسوة الحسنة فهذا أنس بن مالك رضي الله عن خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشرَ سِنين، فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ قَطُ، ومَا قَال لِي لِشَيءٍ لَم أفْعَلُهُ أَلَا كُنْتَ فَعَلتَهُ؟ وَلَا لِشَيء فَعَلتُهُ، لِمَ فَعَلتَه؟[7]                                                                                                         يتبع..

[1] ينظر تفسير ابن كثير، 1/579.

[2] طرف من حديث رواه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة، رقم:997. و أوله:  عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَلَكَ مَالٌ غَيْرُهُ؟» ، فَقَالَ: لَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّحَّامُ الْعَدَوِيُّ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَجَاءَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ …

[3] حديث روته أمنا عائشة، لما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عما تقول في ليلة القدر، رواه الحاكم في المستدرك، رقم: 1942، وأحمد في المسند، رقم: 25423، والترمذي في السنن، كتاب الدعوات، رقم:3513، وابن ماجة في السنن، أبواب الدعوات، باب الدعاء بالعفو والعافية، رقم:3850. والنسائي في عمل اليوم والليلة، ما يقول إذا وافق ليلة القدر، رقم: 872.

[4] المحرر الوجيز، 2/490-491.

[5] لأبي حيان، 5/256.

[6] لسان العرب: مادة “عفا”.

[7] رواه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل، رقم: 6038،  ومسلم في صحيحه باب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا، رقم 2309

Science

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق