مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةغير مصنف

من أساليب تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع غيرة أزواجه

بسم الله الرحمن الرحيم

 


بقلم: الباحثة: دة خديجة أبوري*

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره، وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فلا يخلو بيت من المشكلات الزوجية التي عادة تقع بين الزوجين، ومن بين تلك المشكلات غيرة المرأة على الرجل، وحتى بيت النبوة الشريف لم يسلم من ذلك، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتعامل مع هذا الأمر بحكمة وفطنة فمرة يستخدم الرفق  واللين، ومرة يستخدم أسلوب العتاب، أو التغاضي وقت الغضب، أو الترضية… الخ.

كيف لا؟ وقد كان عليه الصلاة والسلام خير زوجٍ لخير أهل، وهو القائل: خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي[1]

وقبل الشروع في هذا الموضوع، رأيت أن أمهد له بتعريف موجز لكلمة غيرة في مدلولها اللغوي والاصطلاحي فأقول وبالله أستعين:  

مفهوم الغيرة لغة واصطلاحا

أولا: مفهوم الغيرة لغة:

الغيرة  -بالفتح-: المصدر من قولك: غار الرجل على أهله والمرأة على بعلها، تغار غيرة، وغيرا ، وغارا، وغيارا، والغيرة هي: الحمية والأنفة. ويقال : رجل مغيار، أي: شديد الغيرة من قوم مغايير قال النابغة:

شمس موانع كل ليلة حرة  ***  يخلفن ظن الفاحش المغيار[2]

هذا من حيث اللغة أما من حيث الاصطلاح:

ثانيا: مفهوم الغيرة اصطلاحا:

قال أبو البقاء الكفوي: الغيرة كراهة الرجل اشتراك  غيره فيما هو حقه[3]. وبنحوه قاله الجرجاني في كتابه التعريفات قال: الغيرة هي كراهة شركة الغير في حقه [4]

وقال الراغب الأصفهاني: الغيرة ثوران الغضب حماية على أكرم الحرم، وأكثر ما يراعى في الحرم والنساء[5].

الأساليب النبوية في التعامل مع غيرة  أزواجه

لقد راعى الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- جملة من الأساليب التربوية الكريمة بأروع صورها وأكملها، وذلك في تعامله مع غيرة أزواجه، وللتدليل على ذلك سنورد بعض الأمثلة على سبيل التمثيل لا الحصر:

أولا: أسلوب الملاطفة والرفق.

كان صلوات الله وسلامه عليه يقابل الغيرة بنوع من الملاطفة والرفق كما صنع مع إحدى زوجاته، ولنترك أنس بن مالك -رضي الله عنه- راوي القصة  يحدثنا عن ذلك، قال:  “كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحْفَة فيها طعام، فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فِلَقَ الصحفة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: غارت أمُّكم، ثم حبس الخادم حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسرت صحفتها وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت فيه”[6]

فلم يغضب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثر، بل عالج الأمر بنوع من الرفق والملاطفة وقال: “غارت أمكم فما أحوجنا أن نتمثل هذا الخلق الكريم مع أهلنا في منازلنا.

ثانيا: أسلوب الابتسامة والتبسم

وأحيانا كان يقابل غيرة نسائه بابتسامة تعرف في وجهه، من ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أن نساء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كن حزبين: فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة، والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المسلمون قد علموا حب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة، فإذا كانت عند أحدهم هدية يريد أن يهديها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرها، حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة بعث صاحب الهدية بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة. فكلم حزب أم سلمة فقلن لها: كلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلم الناس فيقول: من أراد أن يُهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية فليهدها حيث كان من بيوت نسائه، فكلمته أم سلمة بما قلن، فلم يقل لها شيئا، فسألنها فقالت: ما قال لي شيئا، فقلن لها: فكلميه، قالت: فكلمته حين دار إليها أيضا، فلم يقل لها شيئا. فسألنها فقالت: ما قال لي شيئا. فقلن لها: كلميه حتى يكلمك. فدار إليها فكلمته فقال لها: لا تؤذيني في عائشة، فإن الوحي لم يأتني وأنا في ثوب امرأة إلا عائشة. قالت: أتوب إلى الله من أذاك يا رسول الله. ثم إنهن دعون فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول: إن نساءك ينشدنك الله العدل في بنت أبي بكر. فكلمته فقال: يا بنية، ألا تحبين ما أحب؟ قالت: بلى. فرجعت إليهن فأخبرتهن، فقلن ارجعي إليه، فأبت أن ترجع. فأرسلن زينب بنت جحش، فأتته فأغلظت وقالت: إن نساءك ينشدنك الله العدل في بنت ابن أبي قحافة فرفعت صوتها حتى تناولت عائشة وهي قاعدة فسبتها، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لينظر إلى عائشة هل تكلم، قال: فتكلمت عائشة ترد على زينب حتى أسكتتها قالت: فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة وقال: (إنها بنت أبي بكر)[7]، وفي رواية مسلم: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبسم: (إنها ابنة أبي بكر)[8]

ثالثا: أسلوب الحكمة.

ومشهد آخر بيَّن فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم براعته في معالجته لهذا الأمر: من ذلك مثلا ما أخرجه الترمذي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “بلغ صفية أن حفصة قالت: بنت يهودي فبكت فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال: ما يبكيك؟ فقالت: قالت لي حفصة: إني بنت يهودي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك لابنة نبي، وإن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي، ففيم تفخر عليك؟ ثم قال: اتقي الله يا حفصة)[9]

فهنا استخدم النبي -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله- الحكمة والترضية لمعالجة مشكلة الغيرة التي وقعت بين حفصة وصفية رضي الله عنهن.لأنه يعلم أن الغيرة طبعٌ أصيل في المرأة، وأنه دليل حب كبير.

رابعا: أسلوب  العتاب

كما أن الحبيب -صلى الله عليه وسلم- في مواقف أخرى من مواقف الغيرة  التي تقع بين زوجاته -رضي الله عنهن-، كان يتعامل معها بنوع من العتاب على أن هذا العتاب يكون عتاباً لطيفا توجيهياً،  ومن أمثلة ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: “ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم! قلنا: بلى. قال: قالت: “لما كانت ليلتي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي، انقلب فوضع رداءه، وخلع نعليه، فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدتُ، فأخذ رداءه رويدا وانتعل رويدا، وفتح الباب فخرج. ثم أجافه رويدا، فجعلت درعي في رأسي، واختمرت، وتقنعت إزاري ثم انطلقت على إثره. حتى جاء البقيع فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت، فسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت فدخل. فقال: (ما لك يا عائش ! حَشْيَا رَاِبيَةً[10] !) قالت: قلت: “لا شيء”. قال: (لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير) قالت: قلت: “يا رسول الله! بأبي أنت وأمي فأخبرته”. قال: (فأنت السواد الذي رأيت أمامي). قلت: “نعم” فلهدني في صدري لهدة أوجعتني ثم قال: (أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله) قالت: “مهما يكتُم الناس يعلمه الله نعم” قال: (فإن جبريل أتاني حين رأيت فناداني فأخفاه منك. فأجبته فأخفيته منك. ولم يكن يدخل عليك وقد وضعتِ ثيابك وظننت أن قد رقدت فكرهت أن أوقظك وخشيت أن تستوحشي. فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم) قالت: قلت: “كيف أقول لهم يا رسول الله” قال: (قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم اللاحقون ..)[11].

خامسا: أسلوب التلميح بالغضب 

وفي أحيانٍ أخرى يقابل غيرة نسائه بالغضب كما صنع مع السيدة عائشة رضي الله عنها عندما غارت من السيدة خديجة -رضي الله عنها- بعد وفاتها وقالت ما قالت ولنتركها تحدثنا عن ذلك قالت:  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر خديجة فقلت: لقد أعقبك الله عز وجل من امرأة. قال عفان: من عجوزة من عجائز قريش من نساء قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر قالت: فتمعر وجهه تمعرا ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي أو عند المخيلة[12] حتى ينظر أرحمة أم عذاب )[13].

وفي رواية قالت: “كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء قالت: فغرت يوما فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق، قد أبدلك الله عز وجل بها خيرا منها، قال: (ما أبدلني الله عز وجل خيرا منها؛ قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء)”[14]

وموقف آخر مع السيدة عائشة لما عابت أمام الرسول صلى الله عليه وسلم زوجته صفية رضي الله عنها بأنها قصيرة القامة، قال غاضبا: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته)[15] 

خاتمة:

وما ذكرناه هنا قليل من كثير، وغيض من فيض ومن يتصفح  سيرته الطاهرة ليعجب من حكمته وبراعته  في تعامله -صلى الله عليه وسلم- مع غيرة أزواجه، يظهر ذلك جليا في مواقفه التربوية الكثيرة والجديرة بالوقوف عندها للاستفادة منها، وحري بنا نحن المسلمون أن نتأسى به -صلى الله عليه وسلم- ونهتدي به حتى ننال السعادة في الدنيا والآخرة، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا﴾[16].

****************

لائحة المراجع المعتمدة

1-تاج العروس من جواهر القاموس. لمحمد مرتضى الحسيني الزبيدي. تحقيق: د/ حسين نصار. راجعه عبد العليم الطحاوي و عبد الستار أحمد فراج. مطبعة الكويت 1394- 1974.

2-الجامع الصحيح. لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتنقيحه: محب الدين الخطيب، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وراجعه وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة. ط 1 / 1400هـ.

3-الجامع الكبير.لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي.حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه: د بشار عواد معروف. دار الغرب الإسلامي بيروت.ط 1- 1996.

4-الذريعة إلى مكارم الشريعة.للحسين بن محمد ابن المفضل الراغب الأصفهاني. بيروت لبنان. ط 1 /1400-1980.

5-سنن أبي داود . لسليمان بن الأشعث السجستاني تحقيق: شعيب الأرنؤوط – محمد كامل قروبللي دار الرسالة العالمية ط 1 / 1430- 2009.

6-صحيح مسلم بشرح النووي. حققه وخرجه وفهرسه: عصام الصبابطي – حازم محمد – عامر، دار الحديث القاهرة، ط1/1415هـ-1994مـ.

7-الفائق في غريب الحديث. لجار الله محمود بن عمر الزمخشري، تحقيق: علي محمد البجاوي – محمد   أبو الفضل إبراهيم. دار الفكر. ط 1414-1993.

8-كتاب الكليات. لأيوب بن موسى الحسيني الكفوي. تحقيق : عدنان درويش – محمد المصري مؤسسة الرسالة – بيروت – 1419- 1998.

9-مختار الصحاح. لمحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي. إخراج: دائرة المعاجم في مكتبة لبنان بيروت. ط 1986.  

10-المسند. لأبي عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني. تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد، ط 1/ ما بين 1416-1995 و 1418-1997، مؤسسة الرسالة بيروت.

11-معجم التعريفات. لعلي بن محمد السيد الشريف الجرجاني تحقيق ودراسة: محمد صديق المنشاوي دار الفضيلة القاهرة.

12-النهاية في غريب الحديث والأثر. لابن الأثير الجزري، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي-محمود محمد الطناحي. دار إحياء التراث العربي- بيروت. ( د ت ).

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

 

****************

هوامش المقال:

[1]  – أخرجه الترمذي في السنن6 /188 كتاب: المناقب باب: فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم برقم: 3895 .

[2]  – تاج العروس 13 /288، مختار الصحاح للرازي ص: 203 “مادة غير”

[3]  – الكليات ص: 671.

[4]  – التعريفات ص: 137.

[5]  – الذريعة إلى مكارم الشريعة ص: 238.

[6]  – أخرجه البخاري في صحيحه. صحيح البخاري 3/ 394 كتاب النكاح باب: الغيرة برقم: 5225 .

[7]  – صحيح البخاري 2/ 231-232 كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها باب: من أهدى إلى صاحبه وتحرى بعض نسائه دون بعض برقم:2581.

[8]  – صحيح مسلم بشرح النووي 8 /219-220 كتاب فضائل  الصحابة باب: في فضل عائشة رضي الله عنها برقم: 2442.

[9]  – أخرجه الترمذي في السنن6 /188 كتاب المناقب باب: فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم برقم: 3894 قال  أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

[10]  – حَشْيَا رَاِبيَةً أي: مالَك قد وقعَ عليك الحشَا وهو الرّبْو وَالنَّهيج الذي يَعْرِض للمسرِع في مَشْيه والحْتَدّ في كلامه من ارتفاع النَّفَس وتَواتُره. النهاية في غريب الحديث والآثر 1 /392

[11]  – أخرجه مسلم في صحيحه. صحيح مسلم بشرح النووي 4 /47-48 كتاب الجنائز باب: ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها برقم: 974.

[12]  – المخيلة : وهي السحابة الخليقة بالمطر. الفائق في غريب الحديث 1 /402 .

[13]  – أخرجه أحمد في المسند 42/ 89-90 برقم: 25171.

[14]  –  أخرجه أحمد في المسند 41 /356 برقم: 24864.

[15]  – أخرجه أبو داود 7 /237 كتاب الأدب باب: في الغيبة برقم 4875.

[16]  – سورة الأحزاب الآية 21.

*راجع المقال الباحث محمد إليولو

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق