مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

ملامح من الحركة التأليفية العقدية بالمغرب العصر العلوي نموذجا

اضطلع العصر العلوي بكل فتراته ومراحله بحركة تأليفية غنية وخصبة في شتى صنوف المعرفة الإسلامية، خاصة في العلوم التي تشكل أساسا ومحورا رئيسا في خدمة الدين الإسلامي بشكل مباشر في مقام من مقاماته الثلاثة؛ إسلام وإيمان وإحسان، ونقصد بذلك؛ علم الفقه، وعلم التوحيد، وعلم السلوك أو التصوف، هذه العلوم التي عرفت تكاملا كبيرا فيما بينها في هذه الفترة على وجه الخصوص، انسجاما مع الوحدة الدينية التي اختارها المغاربة في ممارستهم التدينية؛ مذهبا وعقيدة وسلوكا، بما شهده كل واحد من هذه العلوم من غنى كبير في الكتابات التي أنجزت حول كبريات مباحثه بشتى صنوف التأليف التي عرفها؛ تقعيدا، وتقريبا، وبسطا، واختصارا، ونظما…الخ.

إننا وإذ يهمنا في هذه المناسبة التركيز على ما شهده العصر العلوي من حركة تأليفية في علم العقائد، يمكن أن نؤكد بهذا الخصوص، أنه على الرغم من كوننا نجد التأليف في هذا المجال أقل مقارنة مع ما هو عليه الحال بالنسبة للحركة التأليفية التي عرفها كل من الفقه والتصوف، إلا أننا إذا نظرنا إلى هذا الجانب بشكل مستقل، نجده قد عرف بدوره حركة تأليفية هامة وكبيرة، وتبدو هذه الحركة فيما عرفه هذا المكون من كثرة الكتابات المنجزة بخصوصه؛ وهذه الكتابات في عمومها تدور في فلك تقريب أصول المذهب العقدي الأشعري وتيسيره، وإن كان البعض منها يندرج أيضا ضمن الكتابات التنظيرية التي تعنى بالأصول المنهجية والتقعيدية التي انبنى عليها الدرس العقدي الأشعري، ومناقشة كبريات المسائل العقدية مناقشة علمية دقيقة، غير أن هذه الأخيرة نجدها أقل مقارنة مع سابقتها؛ والسبب هو كون هذا الجانب التنظيري قد تمت مباحثته وتقعيده وبيانه وضبطه من لدن كبار علماء الكلام الأشاعرة، بدءا من المؤسس أبي الحسن الأشعري، ومن جاء بعده كالإمام الفخر الرازي، والإمام الجويني، والإمام الغزالي، وغيرهم ممن قعّدوا لهذا الجانب ودققوا في أصوله النظرية والشرعية، ومع ذلك فإن الأمر لا يمنع من أن يستدرك علماء العصر على هؤلاء العلماء بعض الدقائق والتفاصيل ومناقشتها من وجهة نظر مواكِبة ومتجددة.

إن من يتتبع حركة التأليف العقدي في العصر العلوي يلاحظ الغلبة الواضحة للمؤلفات ذات البعد التقريبي، حيث انصب اهتمام العلماء في هذه الفترة بالاجتهاد في تقريب مضمون العقيدة الإسلامية أكثر، وفق الأصول التي كان عليها أهل السنة والجماعة، بما يتلاءم والمستجدات السياقية التي عرفها هذا العصر؛ علمية واجتماعية وغيرها، وهذا المقصد التقريبي سيبدو من خلال كثير من المؤلفات التي سعى فيها أصحابها إلى بسط المضمون العقدي الأشعري وتقريبه، سواء تلك التي انصب اهتمامها بمعالجة قضايا بعينها وبسط القول فيها وفي مغاليقها ومتعلقاتها، أو تلك التي جرى السعي فيها إلى بسط وتقريب عدد من المتون العقدية التي شكلت أصولا كبرى للفكر الأشعري من جهته المضمونية والتي دارت في فلكها الكتابات العقدية في العصر العلوي، ومن هذه الأصول المضمونية؛ نجد: عقيدة ابن أبي زيد القيرواني، العقيدة البرهانية للسلالجي، المرشدة لابن تومرت، مؤلفات السنوسي، عقيدة سيدي عبد القادر الفاسي، توحيد المرشد المعين لعبد الواحد بن عاشر، أرجوزة جلال الدين السيوطي المسماة “التثبيت في ليلة المبيت” في سؤال الملكين وفتنة القبور، وغيرها من المتون، هذا بالإضافة إلى ما أنشئ حول أسماء الله الحسنى من شروح، وكذا بعض التقاييد التي اختصت بكلمة التوحيد …، فهذه المتون جميعها تعتبر أصولا شكلت المعالم الكبرى التي دار حولها التأليف العقدي في المغرب في العهد العلوي، هذا بالإضافة إلى ما حظي به كل واحد من هذه المتون من عناية كبيرة من لدن العلماء؛ من خلال ما وضعوه عليها من شروح وحواشي وتقاييد وأنظام، وهو ما أسهم بفاعلية في خلق حركة تأليفية واسعة تمركزت حول هذه المؤلفات، وهذه الحركة في مجملها اتسمت بالطابع التقريبي، كما سبق التنبيه إلى ذلك، لِما طمح إليه أصحابها من تيسير لتلك الأصول العقدية الأشعرية وتبسيطٍ لمعانيها، ويمكن أن نتتبع تفاصيل هذه الحركة من خلال النظر المفصّل في العناية الكبيرة التي نالته هذه المتون من قِبل العلماء، ويمكن أن نذكرها على النحو الآتي:

أولا: عقيدة ابن أبي زيد القيرواني: وهي العقيدة التي تضمنتها رسالة ابن أبي زيد القيرواني، إلى جانب قسمها الفقهي، إذ قد خصص ابن أبي زيد في رسالته قسما خاصا بالعقيدة سماه: “باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات”، بيّن فيه ما يجب على المكلف معرفته من علم التوحيد بالضرورة، وهذا القسم من الرسالة قد نال، مثلما نالته الرسالة عامة، أهمية بالغة لدى العلماء منذ زمن تأليفها، ونحن إذ نهتم بما نالته هذه العقيدة من اهتمام في العصر العلوي؛ نجد أن هذا المتن كان حاضرا بقوة في الحركة التأليفية العقدية التي عرفها هذا العصر بشكل عام؛ فقد نال اهتماما كبيرا يكاد يتفوق به على سائر المتون العقدية الأخرى التي ساد تناولها في هذه الفترة، ويبدو ذلك من خلال هيمنته على الساحة التدريسية من جهة، وكذا في كثرة ما أنجز حوله من تآليف وتقاييد في هذا العصر خاصة، ويمكن أن نذكر من هذه المؤلفات النماذج الآتية:

ـ شرح توحيد الرسالة؛ لأبي مدين محمد بن أحمد الفاسي أحد علماء فاس الكبار، “كانت له وجاهة عند الكبراء وأعيان الدولة ملحوظا عند الملوك بعين الوقار” (ت1181هـ)؛ وهو شرح نفيس ذكره غير ما واحد ونسبه إلى المؤلف[1]، توجد نسخة منه بالمكتبة الوطنية رقم 2594 د.

ـ شرح توحيد الرسالة للشيخ محمد بن قاسم جسوس (ت1182هـ)، وهو شرح نفيس شهد بقيمته العلماء بمن في شيوخ المؤلف، فبعد أن أتمه “عرضه على شيوخه الثلاثة محمد بن عبد الرحمن بن زكري ومحمد بن أحمد المسناوي ومحمد بن محمد بن حمدون بناني، وبعد اطلاعهم عليه كتبوا شهاداتهم وتقييمهم لهذا المصنف وكلها تشيد بما جاء فيه وتشهد لمصنفه بالتفقه والتثبت وحسن التأليف”[2]، فكان شرحا كما قيل عنه: “موفيا بمقاصد المشروح جامعا لأشتات ما تفرق في الشروح مع التحرير والتهذيب، ولبيان ما في ضمن المتن من الارتباط والترتيب وجلب النصوص المعتمدة والأدلة المصححة لما أراده واعتمده يغني الواقف عليه في إتعاب الفكر في استخراج زبدة ما طولت به المقيدات، فلقد أغنى وأقنى وقرب وأدنى..”[3]، طبع هذا الشرح بتحقيق ودراسة الأستاذة إحسان النقوطي، ضمن منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ـ المملكة المغربية؛ 1429هـ/2008م، يقع في جزءين.

ـ شرح على توحيد الرسالة للشيخ أبي عبد الله الطيب بن محمد بن عبد المجيد بن كيران (ت1227هـ)، لم يكمله يقع في حدود 334 صفحة؛ توجد نسخة منه بالخزانة العامة بالرباط تحت رقم: 2334د، وهذا الشرح بدوره يعتبر من الشروح الهامة الجامعة في بابها، وهو على أهميته التي تبدو في منهج صاحبه وأسلوبه، التي شهد بها غير ما واحد من كبار العلماء، يستند فيه صاحبه بشكل كبير إلى شرح شيخه السابق الشيخ محمد بن قاسم جسوس؛ الذي جعله نبراسا اهتدى به في تأليف شرحه هذا، حتى إنه يمكن القول إنه عبارة عن إعادة كتابة شرح شيخه جسوس بأسلوب متفرد إلى حدّ ما. توجد منه نسخة بالخزانة الحسنية بالرباط.

ـ شرح على توحيد الرسالة؛ لأبي عبد الله محمد بن مسعود الطُرُنْباطي الفاسي (1214هـ) من علماء فاس توفي بها ودفن بالقباب، ذكر نسبته له غير واحد من العلماء[4].

ـ شرح على توحيد الرسالة؛ لأبي العباس أحمد بن جعفر الكتاني (ت1340هـ) [5].

ـ الفتح الرباني على توحيد رسالة ابن أبي زيد القيرواني؛ لأبي العباس أحمد بن جعفر الكتاني (ت1340هـ) من علماء القرويين مولده ووفاته بفاس، كان من العلماء المشاركين، “كثير الإفادة والتدريس، له عدة تآليف تقرب من خمسين تأليفا”، منها شرحه على توحيد الرسالة[6].

ـ حاشية على شرح جسوس على توحيد الرسالة لابن أبي زيد القيرواني، لعبد الله بن خضراء (ت1324ه).

وبالإضافة إلى هذه الشروح وما ماثلها من تقاييد مختصرة أو مطولة استقل اهتمامها وعنايتها بعقيدة ابن أبي زيد القيرواني خاصة، نجد عددا من الشروح التي شملت متن الرسالة بكامله بما فيها القسم العقدي، بما وضع عليها هي الأخرى من حواشي، وهذه الشروح بدورها لا تخفى أهميتها في بيان وتوضيح وتقريب المضامين العقدية الكبرى التي تضمنتها عقيدة ابن أبي زيد، ومن بين هذه الشروح التي تم إنشاؤها في العصر العلوي نذكر الآتي:

ـ حاشية الشيخ أبي الحسن علي بن محمد بركة التطواني (ت1120هـ)؛ على شرح الشيخ علي بن عبد الحق الزرويلي المعروف بأبي الحسن الصغير (ت719هـ)، توجد نسخة منها بمؤسسة علال الفاسي بالرباط تحت رقم: 86.

ـ نصح المؤمنين في شرح قول ابن أبي زيد لأئمة المسلمين، لأبي العباس أحمد بن محمد بن الحسن الرهوني التطواني (ت1373هـ) صدره برسالة في الإمامة العظمى، توجد نسخة منه في الخزانة العامة بالرباط.

ـ مذاكرة إخواني برسالة ابن أبي زيد القيرواني، لمحمد الرهوني التطواني (ت1373هـ)، توجد نسخة منه في الخزانة الوطنية بالرباط.

ـ شرح الرسالة القيروانية لمحمد بن أحمد الجزولي الحضيكي السوسي (ت1189هـ) أحد أبرز علماء سوس[7].

ـ شرح الرسالة لعلي بن سليمان الدمناتي البُجمعوي (ت1306هـ)[8].

هذه جملة من الشروح التي حظيت بها عقيدة الرسالة في العهد العلوي؛ سواء التي وضعت على متن الرسالة عامة بما فيها القسم العقدي، أو التي وضعت على عقيدتها خاصة. ومن خلال تتبعنا لهذه الشروح ندرك مدى عناية المغاربة، في هذا العصر خاصة، بهذا المتن العقدي التراثي الأصيل، بالإضافة إلى ما ناله من تصانيف أخرى تمثلت فيما وضع عليه من تعاليق وتقاييد وأنظام، وهو ما يُظهر العناية الكبيرة التي حظيت بها هذه العقيدة في هذه الفترة، وما كان للعلماء أن يُقبلوا على هذا المتن لولا أنه يمثل المنهج العقدي الأصيل، فلكونه يتوافق مع الأصول العقدية التي اختارها المغاربة مما كان عليه السلف الصالح؛ فإن الأمر جعلهم يولونه عناية كبيرة؛ لما رأوه في صاحبه ابن أبي زيد من نموذج للعالم العامل الذي اهتم ببيان عقيدة السلف أحسن بيان، ولذلك وصفه القاضي عياض بأنه كان: “بصيرا بالرد على أهل الأهواء”[9].

وبالرجوع إلى قسم العقيدة من الرسالة، نرى أن هذا الجزء ـ على الرغم من صغر حجمه ـ فإنه يمثل نموذجا للتوحيد الخالص الذي كان عليه السلف الصالح. والذي يجب التنبيه عليه هنا، هو أن الشيخ ابن أبي زيد لم يكن غرضه بهذه العقيدة التي صدّر بها رسالته أن يُنظِّر لمسائل علم الكلام، وإنما وضعها للطلبة المبتدئين، بغرض تنبيههم إلى أهم مسائل الاعتقاد بأسلوب ميسر مناسب لمداركهم، يشهد لذلك قوله أثناء مخاطبته لشيخه محرز وبيانه للقصد الذي جعل هذا الأخير يطلب منه تأليف الرسالة: “لِما رغبت فيه من تعليم ذلك للولدان، كما تعلمهم حروف القرآن ليسبق إلى قلوبهم من فهم دين الله وشرائعه ما ترجى لهم بركته، وتحمد لهم عاقبته، فأجبتك إلى ذلك لما رجوته لنفسي ولك من ثواب من علم دين الله أو دعا إليه”.

كما يتعين أن نأخذ بعين الاعتبار بأن الرسالة هي أولى تآليف الشيخ ابن أبي زيد، يقول الدباغ :”وأول تواليفه: الرسالة، كان الشيخ أبو إسحاق السِّبائي سأله وهو في سن الحداثة أن يؤلف له كتابا مختصرا في اعتقاد أهل السنة مع فقه وآداب ليتعلم ذلك أولاد المسلمين، فألّف الرسالة وذلك سنة سبع وعشرين وثلاثمائة وسنه إذ ذاك سبع عشرة سنة”، وإن كان المشهور أن الذي طلب منه تأليفها ه.و الشيخ محرز وليس السبائي[10].

لهذا، فقد حظيت عقيدة الرسالة باهتمام كبير في سائر الأقطار الإسلامية وخاصة في القطر المغربي وبصفة أخص في العهد العلوي، ويظهر هذا الأمر، أولا من خلال ما أنشئ حولها من تصانيف كثيرة في هذا العصر، على تأخره، وثانيا من خلال الموقع الذي أخذته ضمن حركة التدريس التي عرفها هذا العصر؛ فقد كانت إحدى أهم المتون التي تدرس في مجال الكلام؛ خاصة في عهد السلطان مولاي محمد بن عبد الله الذي كان لايرتضي الخوض في علم الكلام والخوض في مسائله؛ ويبدو هذا في الأوامر التي كان يُصدرها بشأن تنظيم الدراسة في القرويين التي كان يشير فيها إلى الاقتصار في علم الكلام على عقيدة ابن أبي زيد القيرواني[11]، ويدل على ذلك لفظه الصريح الذي جاء في الفصل الثالث من المنشور الذي أصدره بهذا الشأن حيث قال فيه: “ومن أراد علم الكلام فعقيدةُ ابن أبي زيد رضي الله عنه كافية شافية يستغني بها جميع المسلمين”[12]، وذلك لسلاستها ووضوحها وعدم خوضها في تفاصيل علم الكلام والاقتصار على أصوله التوحيدية الكبرى، وبهذا الموقف الرسمي الصريح كانت لهذه العقيدة مكانة خاصة ضمن سائر المتون العقدية الأخرى؛ ويبدو ذلك جليا فيما حظيت به من مكانة فريدة ضمن مجال التدريس العقدي، فقد كانت من أبرز المتون العقدية المُدرّسة في هذا العصر، بل إن هذا البعد التعليمي كان من أهم الدوافع التي جعلت العلماء ينشئون حولها كثيرا من الشروح والحواشي بدافع تقريب معانيها وتبسيطها وتيسيرها على الطلبة، والشاهد على ذلك ما صرح به الشيخ جسوس في مقدمة شرحه لتوحيد الرسالة حيث قال: “فهذا تعليق لطيف على عقيدة رسالة الشيخ الإمام أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني نفعنا الله به يشتمل على فوائد، ونظم جملة وافرة من الفوائد، جمعتها من معادنها، قاصدا إضافتها إلى ما كنت قيدته من مجلس قراءتي على الشيخ الفاضل العلامة المحقق البركة، سليل السراة الأكابر، فريد عصره، ووحيد مصره، شيخنا الأمثل الأحفل الأفضل، خاتمة المحققين، أبي عبد الله سيدي محمد بن الأستاذ البركة سيدي أحمد بن المسناوي رفع الله قدره وأجزل في الدارين أجره خشية أن يدثر ويطول عليه الزمان فلا يبقى له أثر أو تأكله الأرضة فلا يستوفي الواقف عليه غرضه، فضمنت جميع ذلك هذه الأوراق حفظا له وصونا وقيدته لنفسي ولمن طلبه مني من الإخوان تذكرة وعونا رجاء أن أجده في مجلس الإملاء”[13]، فهذا القول يؤكد البعد التيسيري والتقريبي الذي اختص به هذا الشرح، فهو من جهة عبارة عن تقييد وضعه المؤلف عن شيخه في حلقة درس التوحيد على متن الرسالة بما يتضمنه التدريس من معالم التقريب والإفهام، ومن جهة ثانية وضعه صاحبه ليكون عونا له وكذا لسائر طلبة العلم على ضبط معالم التوحيد وفق أسس واضحة معلومة وميسرة.

وبهذا، تتبين الغاية التقريبية التي انطبعت بها المؤلفات المُنشأة حول توحيد الرسالة. ويبدو هذا البعد التقريبي من خلال الأسلوب التعليمي الذي صيغ به هذا الشرح وغيره، ويتجلى “في وضوح اللغة التي كتب بها، ثم استشهاد المصنف الكثير بنصوص الكتاب والسنة وأقوال العلماء، وأيضا أسلوب الحوار وضرب الأمثلة الذي يشد انتباه الطالب إلى أستاذه”[14]، وغيرها من أساليب التقريب والتيسير المعتمدة في المنهج التعليمي.

ثانيا: العقيدة البرهانية للسلالجي: وهي متن مختصر ألفه الشيخ أبو عمرو السلالجي الفاسي (ت574هـ) في العقيدة لتلميذته خيرونة المرأة الأندلسية الزاهدة والورعة التي أقبلت على طلب العلم ومدارسته، وأرادت أن تتعلم من أمور الكلام ما يجعل عقيدتها في مأمن من الانحراف والزيغ، فرغبت إلى السلالجي أن يكتب لها عقيدة مختصرة وافية بمطلوبها، فكتب لها هذه العقيدة المختصرة، وهي على الرغم من اختصارها “فعلت في الفكر العقدي المغربي ما لم تفعله المؤلفات الضخمة، وأثرت فيه بما لم تؤثره الكتب المطولة، فقد كان لحجمها الصغير ودقة عباراتها، دور فعال في إقبال المغاربة عليها بكل أصنافهم وفئاتهم وأعمارهم وتخصصاتهم. فالتفوا حولها وقاموا بحفظها وتعلمها وشرحها كل حسب طاقته وإمكانياته”[15]، فهي على وجازتها استطاعت أن “تعطي تصورا عاما ودقيقا عن أصول وأركان العقيدة، بحيث يخرج قارئها بنظرة وافية عما يجب أن يعتقده في حق الله وصفاته ورسله والأخبار الغيبية المرتبطة بالرسالة، كما يخرج بموقف واضح من موضوع الإمامة وشروطها..”[16]، لذا فقد لاقت رواجا كبيرا من لدن المغاربة؛ إذ كانت “محورا للدراسة ومنطلقا لأبحاث العقيدة في كل القرون والمراكز الدراسية بالمغرب”[17]، بما في ذلك العهد العلوي، فهي بدورها كانت من ضمن المتون العقدية الهامة التي اعتنى بها العلماء في هذا العصر سواء بحضورها في الساحة التعليمية، أو من خلال ما وُضع عليها من تقاييد، ومن ذلك الشرح الذي وضعه عليها علي بن محمد بن أحمد العبادي، توجد نسخة منه في خزانة علال الفاسي بالرباط، تحت رقم:165.

ثالثا: عقائد السنوسي: لا تخفى المحورية التي أخذتها مؤلفات الشيخ أبي عبد الله محمد بن يوسف السنوسي (ت895هـ) في الدرس العقدي المغربي بشكل عام، فهي تشكل محطة هامة من محطات الدرس العقدي المغربي، ويمكن أن نذكر من مؤلفاته في هذا الباب: عقيدته الكبرى، مع شرحها؛ “عمدة أهل التّوفيق والسّداد”. والعقيدة الوسطى، وشرحها. والعقيدة الصغرى أم البراهين وشرحها. وعقيدة صغرى الصغرى. وعقيدة صغرى صغرى الصغرى. وكتابه توحيد أهل العرفان وتوحيد الله بالدليل والبرهان. وشرحه لنظم الحوضي في العقائد. ورسالة: الدّهريّة، في العقيدة. وشرح مرشدة ابن تومرت. وشرح جواهر العلوم للعضد. وتهذيب شرح السنوسية، فهذه المؤلفات كلها قد عني بها المغاربة أيما عناية، خاصة عقائده الكبرى والوسطى والصغرى، التي كانت محل اهتمام من لدن العلماء منذ زمن تأليفها، وقد عرفت انتشارا واسعا في العهد العلوي بما دار حولها من تصانيف؛ خاصة العقيدة الصغرى المسماة “أم البراهين” التي نالت اهتماما خاصا أكثر من نظيراتها[18]، والذي يزيد من تأكيد قيمة هذه العقيدة “هو الكم الهائل من الشروح والحواشي، والأنظام عليها”[19]، بما نالته هذه الحركة التأليفية حول هذه العقيدة من نصيب وافر في العهد العلوي؛ ويبدو هذا الأمر جليا فيما أنجز حولها في هذا العصر من تصانيف، يمكن أن نذكر بعضا منها على النحو الآتي:

ـ شرح العقيدة الصغرى للسنوسي، لسيدي عيسى بن عبد الرحمن السكتاني قاضي الجماعة بمراكش (ت1062هـ). توجد نسخة منه في الخزانة العياشية، رقم 674.

ـ شرح العقيدة الصغرى للسنوسي، لأبي العباس أحمد بن عبد الله بن يعقوب السملالي الجزولي (1093هـ/1682م)، توجد نسخة منه في الخزانة الحسنية، رقم: 7286.

ـ شرح العقيدة الصغرى للسنوسي، لأبي علي الحسن بن محمد الهداجي الدرعي الشهير بـ”الدراوي” (1006هـ/1598م)، توجد نسخة منه في الخزانة الحسنية، رقم: 6071.

ــ شرح أبي الحسن علي اليوسي (ت1102هـ).

ــ شرح الحسين بن محمد بنعلي بن شرحبيل الدرعي (ت1142هـ).

ــ شرح آخر لنفس المؤلف.

ـ فتح الرحمن لأقفال أم البرهان، لأبي عبد الله محمد بن عبد السلام البيجري المكناسي (كان حيا عام 1149هـ/1736م)، توجد نسخة منه في الخزانة الحسنية، رقم:13937.

ـ شرح العقيدة الصغرى، لعبد القادر بن أحمد الراشدي المعروف بابن خدة (ت1194هـ).

ــ شرح علي بن سليمان الدمناتي (ت1306هـ) المسمى فتح الله الونوسي في شرح صغرى السنوسي”.

ــ الغنيمة الكبرى بشرح مقدمة السنوسي الصغرى لأحمد بن محمد الرهوني التطواني (ت1953م).

وغيرها من الشروح. هذا، بالإضافة إلى ما أُنجز عليها من حواشي وتعاليق وأنظام، يمكن أن نذكر منها الآتي:

ـ حاشية على شرح أم البراهين، للأبي مهدي عيسى بن عبد الرحمن الرجراجي السوسي السكتاني قاضي الجماعة بمراكش (ت1062هـ)، توجد نسخة منه في الخزانة الحسنية، رقم: 1511.

ــ حاشية يحيى بن محمد بن أبي البركات الشاوي (ت1096هـ) المسماة توكيد العقد فيما أخذ الله علينا من العهد.

ـ حاشية على شرح الصغرى : ليحي الشاوي (ت1097هـ).

ــ حاشية مصطفى الرماحي؛ انتهى من وضعها عام 1105هـ.

حاشية على صغرى السنوسي : لمسعود جموع السلوي (ت1119هـ).

ـ حاشية على صغرى السنوسي، لمحمد بن المدني كنون (ت1302هـ).

ـ حاشية على شرح الصغرى في التوحيد، لإبراهيم بن محمد بن عبد القادر التالي (ت1313هـ).

ــ تعليق محمد بن عبد القادر التواتي (ت1115هـ) المسمى “الهادي الرشيد وحل المقفل الشديد من مسائل كلام التوحيد”.

ــ نظم عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي (ت1096هـ).

هذا بالإضافة إلى ما نالته العقيدة الكبرى المسماة بـ”عقيدة أهل التوحيد المخرجة من ظلمات الجهل وربقة التقليد المرغمة أنف كل مبتدع عنيد”، فقد نالت بدورها أهمية كبيرة، ويظهر ذلك فيما أنشئ عليها هي الأخرى من تآليف نذكر منها الآتي:

ـ شرح على كبرى السنوسي، لمحمد السوسي المنصوري (ت1142هـ).

ــ شرح عمر بن عبد الله الفاسي أبي حفص (ت1188هـ) المسمى “طلائع البشرى فيما يتعلق بشرح العقيدة الكبرى”، توجد نسخة منه في خزانة علال الفاسي، رقم:720.

ـ حواشي أبي علي الحسن اليوسي (ت1102هـ) على شرح كبرى السنوسي، طبعت بتحقيق حميد حماني اليوسي، مطبعة دار الفرقان للنشر الحديث الدار البيضاء، ط1/2008م.

ـ حاشية عبد الرحمن الفاسي (ت1096هـ).

ـ حاشية علي العكاري المراكشي (ت1118هـ)، درّس العقيدة الكبرى وشرحها بالقرويين وجمعت أماليه وشروحه عليها.

ـ حاشية عمر بن عبد الله الفاسي (ت1188هـ).

وغير ذلك من التقاييد التي أنشئت على هذه العقيدة. بالإضافة إلى ما نالته عقيدة الحفيدة المسماة بـ”صغرى صغرى الصغرى” هي الأخرى من اهتمام وعناية، وما أنجز حولها من شروح، مثل: شرح عبد الله بن يعقوب الجزولي المسمى “التحفة المفيدة لتحصيل معاني الحفيدة”، وكذا شرح أبي محمد حسين بن محمد بن شرحبيل الدرعي البوسعيدي (ت1142هـ)، وغيرهما من التقاييد التي وضعت على هذه العقيدة.

أما المقدمات فقد نالت هي الأخرى نصيبها من العناية والاهتمام، يكفي أن نشير إلى حاشية الشيخ حمزة التازي عليها. وبشكل عام فقد حظيت مؤلفات السنوسي باهتمام كبير من قبل العلماء، وكل ما أوردناه من الشروح والحواشي والتعليقات والأنظام التي وضعت على عقائد السنوسي إنما هي نماذج أوردناها على سبيل التمثيل لا الحصر، وإلا فإن المؤلفات العقدية التي وضعت عليها كثيرة وغزيرة.

يبدو من خلال ما تم سرده من النماذج التأليفية التي أقيمت حول عقائد السنوسي، مدى الهيمنة التي كانت لهذه العقائد ضمن الساحة التأليفية العقدية التي عرفها المغرب في العهد العلوي، وهذا الأمر يرجع أساسا إلى وضوح مضامينها واستيعابها للمرتكزات الكبرى التي انبنى عليها الفكر العقدي الأشعري، مما جعلها تحظى باهتمام خاص ضمن أسلاك التعليم في هذا العصر، إذ كانت محط اهتمام من قبل العلماء والمفكرين الذين عملوا على “تكريسها عن طريق تدريسها للصغار والكبار، ووضع تقاييد توضيحية عليها متعددة ومختلفة. فلو أخذنا مثلا العقيدة الصغرى لوجدناها تلقن للصغار في الجوامع، حتى يحفظونها عن ظهر قلب، ولكنهم ما إن يرتقوا في سلم أسلاك التعليم، حتى نجدهم يقبلون على دراسة شرحها الذي وضعه السنوسي نفسه، أو شروحها الأخرى. وبعد ذلك يتوجهون إلى بعض الحواشي على شروحها وذلك طلبا للتوسع في معانيها ومضامينها، وبحثا عن جليل الكلام ودقيقه في محتوياتها”[20].

لقد أخذت عقائد السنوسي أهمية كبيرة في مجال الفكر العقدي الأشعري المغربي في العهد العلوي، بحيث كانت بوصلة يُهتدى بمعالمها في ضبط المنهج العقدي للمغاربة، وهذا الحضور والهيمنة التي نالتهما عقائد السنوسي مستمرة إلى اليوم، سواء في برامج التعليم العتيق أو ما نالته من عناية في الدراسات الجامعية والأكاديمية، بل و”في قرى ومداشر المغرب ما تزال بعض الجوامع تدرس عقائد السنوسي وبعض شروحها، ويقبل الطلبة على حفظها (العقيدة الصغرى) عن ظهر قلب، وإن كانوا لا يدركون بعضا من مضامينها، لكنهم واعون في ذلك بأنها تمثل عقيدة أهل الحق… وما تزال هناك ثلة من الفقهاء الذين كرسوا وقتهم للتدريس في مثل هذه الجوامع يدرسون بعض الحواشي على شرح أم البراهين، فيوقفون طلبتهم على بعض المضامين، وعلى بعض النكت المنطقية والنحوية والبلاغية فيها، والتعريف بأشهر الأعلام الواردة أسماؤهم في هذا الشرح أو ذاك”[21].

1 2 3 4الصفحة التالية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق