مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

فقه العمليات في التراث الفقهي المغربي فقه الشركات ومتعلقاتها نموذجا(15)

2.2- الشفعـة في التبرعـات

إن القاعدة المقررة في المذهب أن الشريك إذا فوت نصيبه في الملك المشترك إلى غيره بطريق التبرع، أي بطريق لا عوض فيه كالصدقة أو الحبس أو الهبة أو ما شاكل ذلك من التبرعات، فليس لشريكه أو شركائه الحق في ضم النصيب المتبرع به بطريق الشفعة؛ إذ لا شفعة في التبرعات.

جاء في التهذيب ما نصه: «ومن وهب شقصا لغير ثواب، فعوض فيه فقبل، فإن رأى أنه لصداقة أو صلة رحم، فلا شفعة»[1].

فإذا اقترن بالتبرع عوض لزمت فيه الشفعة لجريانه مجرى البيع، جاء في التهذيب: «ومن وهب شقصا من دار لثواب أو تصدق به على عوض، أو أوصى به على عوض، فهو بيع وفيه الشفعة، فإن سمى العوض فالشفعة بقيمة العوض إن كان مما له قيمة من العروض، أو بمثله في المقدار والصفة إن كان عينا أو طعاما، أو إذا ما كانت الهبة بيد الواهب أو قد دفعها. وإن وهبه على عوض يرجوه لم يسمه، فلا قيام للشفيع إلا بعد العوض»([2]).

وقد نقل ابن ناجي عن ابن عبد الحكم قوله بلزوم الشفعة في التبرع ولو بغير عوض، ونص على مشهورية القول الأول،([3]) والقول بعدم الشفعة هو المنصوص عليه في التحفة حيث قال:

وشفعة في الشقص يعطى عن عوض والمنـع في التبـرعـات مفتـرض

قال الشيخ ميارة شارحا: «يعني أن الشفعة إنما هي في الشقص المدفوع في مقابلة عوض، كالمبيع والمدفوع رأس مال سلم والمصالح به والموهوب للثواب ونحو ذلك، أما المدفوع تبرعا من غير عوض رأسا كالموهوب والمتصدق به والموصى به فلا شفعة فيه»([4]).

وقال العلامة التسولي: «وما ذكره الناظم من منع الشفعة في التبرعات هو المشهور»([5]).

كما نص عليه صاحب العمل المطلق بقوله:

وليـس في صدقة ولا هبة لا لثواب شفعة مستوجبة

لكن جرى العمل بخلاف المشهور، حيث تلزم الشفعة في المحوز تبرعا كلزومها في المحوز عن عوض، وقد نص على جريان هذا العمل أبو زيد الفاسي حيث قال في عملياته:

وشفعة المحـوز بالتبــرع ضمان راع غنم النـاس رع

قال السجلماسي شارحا: «أشار بالشطر الأول من البيت إلى أن الشفعة تكون في الشقص المحوز بالتبرع به كالصدقة والهبة لغير ثواب، كما تكون في المحوز بالمعاوضة، والمشهور ومذهب المدونة: لا شفعة في الصدقة ونحوها، ابن يونس: وهو الأصح. قال في المقصد المحمود: وبه العمل، وروى ابن الجلاب ثبوتها في ذلك بقيمة الشقص، وبهذه الرواية جرى العمل على ما ذكر الناظم»([6]).

ويتعلق بهذا العمل جملة من الملاحظات أجملها فيما يلي:

– أن المعتمد في إجراء العمل بالقول المقابل أي تمكين الشفيع من شفعة المحوز بالتبرع، ما عليه الناس من كثرة الخداع والتحيل لبلوغ الأغراض الفاسدة، وبيانه أن الحائز للشقص مخافة أن يستحق منه ما حازه بموجب الشفعة، يعمد إلى التواطؤ مع الشريك الذي فوت إليه الشقص بعوض، وذلك بإخفاء المعاوضة وإظهار التبرع قصد إسقاط شفعة الشفيع، فكان أن أفتى الفقهاء بلزوم الشفعة كلما ظهرت مخايل التحيل الفاسد، وقامت القرائن الدالة على وجود العوضية في المعاملة، وذلك سدا للذريعة وجريا على قاعدة مصلحية مقررة في المذهب وهي المعاملة بنقيض القصد الفاسد. قال الرهوني عند قول اللامية:

كخط ووقف شفعة في تبـرع كراء كذا غرم الرعاة قد انجلا

«المشهور ومذهب المدونة أن التبرع لاشفعة فيه، وقد أفتى ابن المكوي بوجوبها عند قيام القرائن على قصد التحيل، وعليه يحمل ما جرى به العمل»([7]).

وفتوى ابن المكوي هذه، أوردها الونشريسي في آخر نوازل الشفعة ونصها:

«وسئل أبو عمر بن المكوي عن مسألة نزلت بسبتة، وهي إذ ذاك من عمل صاحب الأندلس، وذلك أن الفقيه يحيى بن تمام من أهلها اشترى حصة من حمام فيه شريك، وأشهد البائع للفقيه يحيى بن تمام في الظاهر أنه تصدق به عليه ليقطع بذلك الشفعة، فقام الشريك يطلب الشفعة.

فأجاب فقهاء سبتة بعدم الشفعة، وقال الشفيع للقاضي لا أرضى إلا بفتوى فقهاء الحضرة، فرفع إليهم السؤال على وجهه وبدأ بأبي عمر ابن المكوي، فأجاب: هذه حيلة من حيل الفجار، وأرى الشفعة واجبة، فلما رأى ابن تمام جوابه هذا قال: هذا عقاب لا يطار تحت جناحه، والحق خير ما قيل، هات المال وخذ حمامك»([8]).

– وإذا كان العمل المذكور مبنيا على مقاصد الشرع المرعية في باب الشفعة على العموم، ومؤسسا على هذا المعنى المصلحي الواضح على الخصوص، فلا يمكن اعتباره بحال مخالفا للمشهور بل هو بيان له أو تخصيص لعمومه، وفي هذا شاهد حي على الوظيفة البيانية التي يمكن أن يضطلع بها العمل، تلك الوظيفة التي من شأنها أن تجعل الفقيه ينظر إلى أدلة المذهب نظرة شمولية تستحضر ما بينها من علاقات التكامل، ولقد أشار سيدي عمر الفاسي في شرحه للامية الزقاق إلى أن فتوى أبي عمر الإشبيلي المذكورة ومن خلالها العمل المستند إليها لا تعارض المشهور في شيء فقال: «وما ينقل عن ابن المكوي من افتائه بالشفعة غير مخالف للمشهور، لقوله هذا من تحيل الفجار وأرى الشفعة واجبة، فهو جار على ما ذكره ابن ناجي والإشبيلي، كأنه قامت له قرائن توذن بالتحيل»([9]).

وباعتبار العمل المذكور مخصصا لعموم القول المشهور، يتحصل أن حكم الشفعة في التبرعات ثابت على أصله وهو المنع، ما لم تقم قرينة دالة على العوضية ولم يوجد القصد إلى التحيل لإسقاط شفعة الشفيع. قال المهدي الوزاني مقررا هذا المعنى:

«وظهر بهذا أنه لا شفعة في الهبة الحقيقية ولا في التبرعات بأسرها إلا إن قامت قرينة على العوضية، أما إن تحققت الهبة ولم تقم قرينة على المعاوضة فلا شفعة بحال، وذلك بأن ينظر إلى النازلة بخصوصها عند وقوعها هل احتفت بها قرائن العوض أم لا، فإن وجدت القرائن فالشفعة وإلا فلا، ولا عبرة بتكرر ذلك في الناس خلافا لابن ناجي ومن تبعه؛ لأن هذا الأمر هو متكرر في الناس دائما أو غالبا (…)، وأيضا لو فرضنا تكرره في الناس، ووجدنا نازلة خالية من ذلك لكان الواجب عدم الشفعة، فالاعتبار إنما هو بحصول القرائن القوية لا بتكرره في الناس، لأن تكرره قديم حسبما أفتى بذلك ابن المكوي»([10]).

– ومع ذلك نجد من العلماء من نص على أن العمل المذكور منسوخ، وأن المدار في الفتوى والقضاء على المشهور. قال أبو الشتاء الصنهاجي: «قال المنجور: ولعل هذا العمل قبل اليوم وأما اليوم فالعمل بالمشهور»([11]).

ونقل الأمر نفسه سيدي عمر الفاسي في شرحه للامية حيث قال:

«وليس هذا العمل المذكور في النظم باقيا بفاس بل العمل على المشهور»([12]).

وعليه فإن المسطرة المتبعة وفق المشهور أن لا يمكن الشريك من الشفعة حتى يقيم البينة على أن المعاملة كانت بعوض، وأن التبرع المدعى صوري وحسب، وإن تعذر عليه الإثبات تعينت في حق الحائز اليمين فيحلف أن ما حازه كان بغير عوض، فإن نكل ثبتت الشفعة للشفيع، قال المتحف مقررا المعمول به وفق المشهور:

ومن لـه الشفعة مهما يدعي بيعـا لشقص حيز بالتبرع
فما ادعـاه فعليه البينـة وخصمه يمينـه معينة([13])

– على أني أعود فأقرر أن ادعاء النسخ، في شأن العمل المذكور فيه نوع من التجوز، ولعل مقصود العلماء من إطلاقهم ينصرف إلى النسخ بمعناه البياني العام دون معناه الاصطلاحي الخاص الذي يقتضي وجود التعارض الكلي بين الناسخ والمنسوخ، وقد تبين من تأصيلات علمائنا انتفاء التعارض بين المشهور وما جرى به العمل في مسألة الشفعة في التبرع، بل هما عند تحقيق النظر قول واحد بحيث لا يلزم عن اجتماعهما أي تناقض؛ إذ المعنى الحاصل هو امتناع الشفعة في التبرع إلا إذا قامت قرائن العوضية، وعليه فالقول المشهور باق على أصله في عموم الأحوال، مثلما أن ما جرى به العمل ثابت الإجراء في مورده الخاص، فلا حاجة إذن إلى ادعاء النسخ.

ويشهد لهذا التقرير تأصيلات فقهائنا النوازليين خاصة منهم المتأخرين الذين خبروا أدلة المذهب وحصلوا المعرفة الواسعة بالناسخ والمنسوخ من الأعمال، من هؤلاء الشيخ المهدي الوزاني الذي أورد في نوازله الصغرى ما يلي:

«وسئلت عن امرأة لها حظ في دار أعمرته لامرأة أخرى ولا ولد لها، فادعى الشريك أنها أكرتها ذلك، وإنما العمرى صورة فقط، فعلتا ذلك لقطع شفعته، وأقام بينة باللفيف أنها أكرتها لحظها المذكور سرا.

فأجبت: الحمد لله، حيث ثبت بالبينة أن الإسكان كان في الحظ المذكور على وجه الكراء فلا عبرة بتلك العمرى، والشفعة فيها ثابتة؛ لأنها حيلة لإسقاط الشفعة فقط، وقد نص الأئمة على وجوب الشفعة في التبرعات إذا قامت القرائن أنها بيع، والكراء منه لأنه بيع المنافع، فأحرى مع ثبوت بالبينة كما هنا»([14]).

فقوله: «قد نص الأئمة على وجوب الشفعة في التبرعات إذا قامت القرائن أنها بيع»، فيه دلالة واضحة على ثبوت العمل المذكور واستمرار جريانه.

وقال الوزاني أيضا في نوازله الكبرى: «وسئلت عن امرأة وهبت نصيبها من عرصة على ولدي أخيها وهما فقيهان ضعيفان يتعلمان العلم، وحازا الهبة معاينة وتمت لهما باستيفاء شروطها، فقام الشريك في العرصة يطلب الشفعة فيها، فهل له الشفعة كما في الزقاق والعمل الفاسي أو لا؟

فأجبت: الحمد لله، المتحصل من كلام المتأخرين أن لا شفعة في الهبة ولا في التبرعات بأسرها إلا إن قامت قرينة على العوضية، أما إن تحققت الهبة ولم تقم قرينة على المعاوضة فلا شفعة بحال، وذلك بأن ينظر إلى النازلة بخصوصها عند وقوعها، هل احتفت بها قرائن العوض أم لا؟، فإن وجدت القرائن فالشفعة وإلا فلا، ولا عبرة بتكرر ذلك في الناس خلافا لابن ناجي ومن تبعه؛ لأنا لو فرضنا تكرره في الناس ووجدنا نازلة خالية من ذلك لكان الواجب عدم الشفعة، والاعتبار إنما هو بخصوص النوازل لا بتكرره في الناس، لأن تكرره قديم حسبما أفتى بذلك ابن المكوي وهو قديم»([15]).

ثم ساق جملة من نقول العلماء في الموضوع ليخلص إلى القول: «فظهر من هذا أن الطمع في الشفعة في هذه النازلة إنما هو من الأمور الأشعبية والخيالات الوهمية؛ لأن الطالب لها إن كان يسلم أن الهبة حقيقية فلا إشكال، وإن كان يزعم أنها صورية فقط فشرطها أن توجد قرائن العوض، ولا وجود لها هنا، بل الأمر بالعكس وهو احتفافها بنفي العوضية، فلا شفعة فيها بحال والعلم لله الكبير المتعال»([16]).

الهوامش:


[1] التهذيب في اختصار المدونة للبراذعي 4/159.

[2] نفسه 4/158-159.

[3] انظر فتح الجليل الصمد للسجلماسي ص 295.

[4] شرح ميارة للتحفة 2/82.

[5] البهجة، 2/217.

[6] شرح العمل الفاسي، 2/269.

([7]) حادي الرفاق، ص 465.

([8]) المعيار 8/115.

([9]) تحفة الحذاق، ص 302.

([10]) تحفة أكياس الناس ص 292.

([11]) مواهب الخلاق 2/303.

([12]) تحفة الحذاق ص 302، وانظر كذلك تحفة أكياس الناس ص 293، وشرح السجلماسي لعمل فاس 2/269، وفتح الجليل الصمد له، ص 295.

([13]) انظر شرح ميارة للتحفة 2/89، والبهجة 2/233، ومواهب الخلاق 2/304، وشرح السجلماسي لعمل فاس، 2/269-270.

([14]) النوازل الصغرى، 3/608.

([15]) النوازل الكبرى، 7/366-367.

([16]) النوازل الكبرى، 7/368.

د. إدريس غازي

• خريج دار الحديث الحسنية ـ الرباط.
• دكتوراه في الدراسات الإسلامية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس، في موضوع: "أصل ما جرى به العمل ونماذجه من فقه الأموال عند علماء المغرب".
• دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية، الرباط، في موضوع: "المنهجية الأصولية والاستدلال الحجاجي في المذهب المالكي".
من أعماله:
ـ الشاطبي بين الوعي بضيق البرهان واستشراف آفاق الحجاج.
ـ في الحاجة إلى تجديد المعرفة الأصولية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق