مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

لغة القرآن وبلاغته من خلال كتاب: «معارج التفكر ودقائق التدبر» الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني «وقفات التأني عند آيات سورة السبع المثاني (الفاتحة)» في رحاب فاتحة الكتاب ح: 18

التناسب في براعة المطلع «الحمد لله رب العالمين»:

وعلى ذكر استهلال القرآن بالفاتحة نذكر هذا الفن في الفاتحة، وهو براعة الاستهلال، وهو من أرق فنون البلاغة وأرشقها، وحده أن يبتدئ المتكلم كلامه بما يشير إلى الغرض المقصود من غير تصريح، بل بإشارة لطيفة وإيماءة بعيدة أو قريبة، والاستهلال في الأصل رفعُ الصوت، وسمي الهلال هلالا لأن الناس يرفعون أصواتهم عند رؤيته[1]. ومن أمثلته في الشعر قول أبي تمام ي مطلع قصيدته: «فتح عمورية»: [2]

السَّيْفُ أَصْدَقُ أَنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ/// فِي حَدِّهِ الحَدُّ بَيْنَ الجِدِّ واللَّعِبِ

فقد استهل قصيدته بذكر السيف، وفيه إيماءة قريبة جدا إلى الموضوع الذي نظمت القصيدة بصدده. وقد اشتهر أبو الطيب ببراعة مطالعه[3]، ومن روائعها قوله:[4]

أَتُرَاهَا لِكَثْرَةِ العُشَّاقِ /// تَحْسَبُ الدَّمْعَ خِلْقَةً في المَآقِي

فقد ألمع إلى موضوع قصيدته -وهو الغزل- برشاقة زادها ابتكار المعنى في حسبان الدمع خلقة في المآقي حسنا وجمالا.[5] التناسب الأسلوبي:
من التناسب الأسلوبي في قوله تعالى: «الحمد لله» إيثار الأسلوب الخبري دون الإنشائي بصيغة الأمر على تقدير: «احمدوا»، وجمالية الأسلوب الخبري هذا يحقق نكتة أسلوبية في إيثار الجملة الاسمية لدلالتها على الثبوت والاستقرار؛ وهذا المعنى مقصود في المطلع يعضده تعريف الحمد للاستغراق وهو بهذا يفيد الاطلاق والعموم والكمال أي: «كل الحمد لله»، فضلا عن دلالته بأنه سبحانه كان محمودا قبل حمد الحامدين، فالجملة الخبرية «الحمد لله» جاءت لتشمل وتدل على كل الحمد ما نستطيع تصوره وما لا نستطيع تصوره على صفات ذات الله وصفات أفعاله، وعلى براءة الله من كل الصفات التي لا تليق بجلاله هو لله ملكا أو اختصاصا، ويلزم من كون كل الحمد لله تفرده بهذا الحمد، فلا يشاركه في كمال الحمد شيء في الوجود، وهذا يتضمن الإعلان عن توحيد الله في ذاته وفي صفاته وأسمائه الحسنى[6]. ولهذا قدم لفظ «الحمد» على الاسم «لله»، وأوثر التعبير بــ«الله» دون غيره مثل «ربي» لتحقيق تناسب في التركيب باعتبار أسلوب القصر المطلق المتحقق في قوله تعالى «الحمد لله»، فضلا عن لام الاختصاص في الاسم «لله» للدلالة على أن جميع المحامد مختصة به.
التناسب التركيبي:
يتحقق التناسب التركيبي في المطلع بين قوله تعالى: «الحمد لله» وقوله: «رب العالمين»، إذ نجد المناسبة بين استغراق الحمد لله وحده ووجوب ذلك على العالمين لأنه خالقه وهو المنعم المتفضل وحده، وهذا تناسب لطيف في استجلاء المعنى الجامع بينهما، وجاء أسلوب الفصل بالجمع بين ذكر نعمة الخلق ونعمة هداية الخلق ومصالحهم، لأن السياق يرشح لنا مفهوم التأمل والتفكر في خلق الله عز وجل، والنظر في ملكوت السماوات والأرض، فلا يسع الإنسان إلا أن يعترف بقدرة الله عز وجل وفضله ليقول الحمد لله، وهذا من بديع التناسب المعنوي في التركيب، وقد أشار الألوسي إلى هذه النكتة السياقية التركيبية بقوله: «كما افتتح بما يشير إلى الإبداء وفي إجرائها عليه تعالى تعليل لإثبات ما سبق وتمهيد لما لحق، وفيه إيماء إلى أن الحمد ليس مجرد الحمد لله بل مع العلم بصفات الكمال ونعوت الجلال وهذه أمهاتها ولم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها، وقد يقال في إجراء هذه الأوصاف بعد ذكر اسم الذات الجامع لصفات الكمال إشارة إلى أن الذي يحمده الناس ويعظمونه إنما يكون حمده وتعظيمه لأحد أمور أربعة: إما لكونه كاملا في ذاته وصفاته وإن لم يكن منه إحسان إليهم، وإما لكونه محسنا إليهم ومتفضلا عليهم، وإما لأنهم يرجون لطفه وإحسانه في الاستقبال، وإما لأنهم يخافون من كمال قدرته، فهذه هي الجهات الموجبة للحمد والتعظيم فكأنه سبحانه يقول يا عبادي إن كنتم تحمدون وتعظمون للكمال الذاتي والصفاتي فاحمدوني فإني أنا الله، وإن كان للإحسان والتربية والإنعام فإني أنا رب العالمين، وإن كان للرجاء والطمع في المستقبل فإني أنا الرحمن الرحيم، وإن كان للخوف فإني أنا مالك يوم الدين».[7] ومن جمال صيغة المطلع أسلوب التَّدَلِّي، وهو من بديع الكلام؛ وهو من التقديم والتأخير والسيوطي رحمه الله تعالى ممن عنوا بتتبع أسباب التقديم والتأخير وبيان بعض نكت ذلك؛ فقد ذكر في كتابه «معترك الأقران في إعجاز القرآن» عشرة أسباب لذلك فكان السبب العاشر هو التدلي[8]، إذ ذكر الألوهية «لله» ثم ذكر بعدها مقام الربوبية «رب العالمين» للتدليل على استحقاقه عز وجل لكليهما، فالاسم «لله» يتضمن غاية العبد ومصيره ومنتهاه وما خُلِقَ له وما فيه صلاحه وكماله وهو عبادة اللَّه، والاسم الثّاني «رَبِّ» يتضمن خَلْقَ العبد ومُبتداه وهو أنه يُرَبِّهِ ويتولّاه مع أن الثاني يدخل في الأول دخول الرُّبُوبِيَّةِ في الإلهيّة والرُّبُوبِيَّةُ تستلزم الألوهيَّة[9]، وقد حقق هذا التدلي انسجاما وتناسقا بين الألفاظ في الآية الكريمة، لأن في وصفه تعالى بـ «رب العالمين» مناسبة للفظ «الحمد»، إذ فيه إشارة إلى سبب الحمد الكامل المطلق له سبحانه لأنه الخالق والمالك والمربي.
ومن دقائق التعبير إيثار صيغة العَالَمين وهو جميع المخلوقات، والعَالَم ليس له مفرد من لفظه، فإذا نظرت إلى العالم باعتبار موجوداته وكائناته، تأتي لديك مجموعة من العوالم هي: عالم الإنس، والملائكة، والجن، والحيوان، والنبات، والبحار، والأفلاك، وهذه تتضمن العقلاء وغير العقلاء، أما عالم غير العقلاء فجمعه عوالم، وأما عالم العقلاء فجمعه عالمون[10]، وجاء اختيار هذه الصيغة لأنها تناسب سورة الفاتحة التي تخاطب المكلفين بطلب الهداية وإظهار العبودية لله، ليكون في ذلك إشارة إلى سمو عالم العقلاء، فهم المكلفون الممتحنون بطاعة الله، وهم المشرفون بالعقل وبهذا التكليف، فهي إشارة إلى التكليف والتشريف معا[11]، ففيهم دقة التكوين وجمال التصوير وروعة الخلق، من عقل يدبر، ولسان وجوارح تتحرك، فجمع الله تعالى في عالم العقلاء كل العوالم الأخرى في إحكام الصنع وبديع التكوين كما قال تعالى في تقديم العلم بالنفس، وجلائل الخلق والتكوين:«وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ»[الذاريات:21-22]، ففي الإنسان أكمل صورة للخلق والتكوين[12]. ومن التناسب تنوع معناها فقد يراد من العالمين كل العوالم، لأن الجمع قرينة الاستغراق، وفيه شمول واستغراق لربوبية الله لكل شيء، لتتجه العوالم كلها إلى رب واحد، تقر له بالسيادة المطلقة، وتنفض عن كاهلها زحمة الأرباب المتفرقة، ثم ليطمئن ضمير هذه العوالم إلى رعاية الله الدائمة وربوبيته القائمة، وإلى أن هذه الرعاية لا تنقطع أبدا ولا تفتر ولا تغيب.[13] العنوان الثاني:
مطلوب الله من عباده الذين وضعهم موضع الامتحان في ظروف الحياة الدنيا، وقد دل عليه صراحة وضمنا باللزوم الذهني ومقتضياته، قول الله عز وجل فيها:«إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين»[الفاتحة:5][14] وبعد تثبيت هذه القضايا في ومضات موجزات تمتد أنوارها إلى فروعها في آفاق الفكر والنفس، والتي تدخل تحت عنوان « الإيمان بالله واليوم الآخر» يقضي الواجب أن يتوجه العبد لربه فيناجيه بإفراده بالعبادة، وإفراده بالاستعانة في كل أمر من أموره، وفي كل عمل من أعماله الظاهرة والباطنة الجسدية والنفسية، حتى فيما يقوم به من عبادة لربه، لأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فيقول خطابا لربه، وملتفتا إليه بعد الحديث عنه بضمير الغائب[15]:«إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين» فــ«إيَّاك» ضمير منفصل في محل نصب مفعول به مقدم للاختصاص، و«نعبد» فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره: نحن، و«إياك نستعين» عطف على «إياك نعبد»، و«نستعين»: فعل مضارع مرفوع، وهو معتل أجوف، والأصل فيه نستعون، فاستثقلت الكسرة على الواو، فنقلت إلى العين، فانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، فصار نستعين.[16] فـــ «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» [الفاتحة: 5] مَبْنيٌّ على الإِلهيَّةِ، و«إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» [الفاتحة: 5] على الرُّبُوبِيَّةِ، وطلبُ الهِداية إلى الصِّراط المُستقِيم بصفة الرَّحْمة[17]، وعبادة الله وحده هي حق الله على عباده، ومطلوبه منهم في رحلة امتحانهم في الحياة الدنيا، وهو الذي يتوقف عليه استحقاقهم دخول جِنَّتِه يوم الدين خالدين فيها أبدا، والعبادة في مفهوم الدين الرباني الحق: سلوك إرادي نفسي، أو ظاهر ذو دوافع باطنة، يقصد به أداء ما يحب الرب عز وجل من مربوبيه وما يرضيه منهم ويقربهم إليه، ويدخل فيها الإيمان وأعمال القلب والنفس الإرادية، وأعمال الجوارح الظاهرة من الأفعال والتروك.[18] ولما كان واقع حال العبد المخلوق كذلك كان عليه أن يعلن لربه حاجته الدائمة إلى معونته وحده، وأن يعلن أنه لا يستعين من أي أمر من أموره استعانة حقيقية إلا به، مؤمنا بهذه الحقيقة من الحقائق التي يجب على العباد أن يؤمنوا بها، ومتبرئا من حوله وقوته، ومتبرئا من معونة أية قوة غيبية في الوجود سوى ربه جل جلاله، فيخاطبه قائلا: « وإياك نستعين» أي: ولا نستعين إلا بك، والسين في نستعين للطلب، أي: نطلب الاستعانة بك.
وفي التعبير بنون الجماعة في فعلي: « نعبد» و « نستعين» يلاحظ العبد أنه واحد من الأمة الربانية المؤمنة العابدة لربها، لا تشرك بعبادته أحدا، فهو يقول معها في مخاطبة الله: « إياك نعبد وإياك نستعين» وفي هذا تعميق لمعنى الجماعة الربانية الواحدة، في قلب كل مؤمن مسلم لله جل جلاله، منذ نشأة الخليقة وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وترث هذه الأمة جنات النعيم.[19] وقدم العبادة على الاستعانة ليتوافق رؤوس الآي، وليُعلَم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة، فإن من تلبس بخدمة الملك وشرع فيها بحسب وسعه، ثم طلب منه الإعانة عليها أجيب إلى مطلبه، بخلاف من كلفه الملك بخدمته، فقال: أعطني ما يعينني عليها، فهو سوء أدب، وأيضا من استحضر الأوصاف العظام ما أمكنه إلا المسارعة إلى الخضوع والعبادة، وأيضا: لَمَّا نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحا واعتدادا منه بما يصدر عنه فعقبه بقوله: «وإياك نستعين» دفعا لذلك التوهم.[20] التناسب بين ثنائية العبادة والاستعانة:
جاءت الآية «إياك نعبد وإياك نستعين» استئنافا بيانيا بعد الحمد الكامل لله تعالى تجلت في بلاغة الفصل، ومعنى الآية أي نخصَّك يا الله بالعبادة، ونخصك بطلب الإعانة، فلا نعبد أحداً سواك، لك وحدك نذلُّ ونخضع ونستكين ونخشع، وإيَّاك ربنا نستعين على طاعتك ومرضاتك، فإِنك المستحق لكل إِجلال وتعظيم، ولا يملك القدرة على عون أحدٌ سواك[21]. ومعنى العبادةِ في اللّغة الطّاعةُ مع الخُضُوعِ، ومِنهُ طريقٌ مُعَبَّدٌ إذا كان مُذَلَّلًا بِكَثْرَةِ الوطءِ[22]، أما الاستعانة فهي طلب العون والنصرة، والسين في نستعين للطلب، أي: نطلب الاستعانة بك.[23] ولعل المتأمل في قوله تعالى:« إياك نعبد وإياك نستعين» يلحظ تزاحم الأساليب البلاغية لتوضيح المعنى، فتركيب الآية يحوي في خصائصه دلالات نتجت عن تواشج الفنون البلاغية الواردة فيها المنسجمة في هذه الكلمات ذات الألفاظ القليلة، هذا التركيب الذي ارتقى من مستوى الإخبار العادي إلى مستوى الأداء الجمالي البليغ، وأولى هذه الأساليب البلاغية فن الالتفات، فقد عبر عن العبادة والاستعانة بأسلوب عدل به عن الأسلوب في الآيات السابقة، إذ تحول الخطاب من الغائب في قوله عز وجل: « الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين الرَّحْمـنِ الرَّحِيم مَـالِكِ يَوْمِ الدِّين»[الفاتحة: 2-3-4] إلى الخطاب في قوله تعالى: « إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين»[الفاتحة: 5]وهذا العدول أشار إليه ابن كثير فقال: «وتَحوُّلُ الكلام من الغَيْبَةِ إلى المُواجَهَةِ بِكَافِ الخِطابِ، وهو مُنَاسَبَةٌ، لأنّه لمَّا أَثْنَى على اللَّه فكأنَّه اقْتربَ وحَضَرَ بَيْنَ يدَي اللَّه تعالى؛ فلهذا قال: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» وفي هذا دَلِيلٌ على أَنَّ أَوَّلَ السّورةِ خَبَرٌ منَ اللَّه تعالى بالثّناءِ على نفسه الكريمةِ بجَمِيلِ صفاتهِ الحُسْنَى، وإرْشَادٌ لعِبادِهِ بأنْ يُثْنُوا عليه بِذَلِكَ»[24]. ولا شك أن للالتفات في القرآن أثره في المتلقي من حيث لفت انتباهه نحو المعنى المراد، لأن النفس مجبولة على حب المتجدد فإذا نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب كان أدعى للإقبال عليه، وقد زخر تراثنا الأدبي بهذا الفن من البلاغة وذلك على عادة افتنانهم في الكلام وتصرفهم فيه، ولأنّ الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب، كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع، وإيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد، وقد تختص مواقعه بفوائد[25]. كما أن العدول السياقي له أسراره ذلك أنه لما ذكر أن الحمد لله المتصف بالربوبية والرحمة والمُلْك والمَلِك لليوم المذكور، أقبل الحامد مخبرا بأثر ذكره الحمد المستقر له منه ومن غيره، أنه وغيره يَعْبُده ويَخْضع له[26]، وفي الالتفات حكمة معنوية تكمن في التجاوب مع سياق الآيات ومع التطلع الروحي للمؤمن العابد إلى أن يترقى في عبادته، ويتقرب إلى الله بالعبادة والاستعانة وفي هذا الشأن يقول البيضاوي: بنى أول الكلام على ما هو مبادي حال العارف من الذكر والفكر والتأمل في أسمائه والنظر في آلائه والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه، ثم قفى بما هو منتهى أمره وهو أن يخوض لجة الوصول ويصير من أهل المشاهدة فيراه عياناً ويناجيه شفاهاً[27] وهذا من بديع التناسب.
وما يميز تركيب الآية الكريمة فن التقديم، فقد قدَّم الضمير لحصر العبادة والاستعانة بالله وحده، وقدمت العبادة على الاستعانة؛ لأن الاستعانة ثمرتها، وإعادة «إياك» مع الفعل الثاني تفيد أن كلا من العبادة والاستعانة مقصود بالذات، فلا يستلزم كل منهما الآخر، ولأن الكاف التي مع «إيَّا» هي الكاف التي كانت تتصل بالفعل، أعني بقوله: «نعبد» لو كانت مؤخرة بعد الفعل، وهي كناية عن اسم المخاطب المنصوب بالفعل، فكثّرت بـ «إيَّا» متقدمة، وكان الأفصح إعادتها مع كل فعل[28]، وتقديم «العبادة» على «الاستعانة» في الفاتحة من باب تقديم الغايات على الوسائل، إذ « العبادة» غاية العباد التي خلقوا لها، و«الاستعانة» وسيلة إليها، ولأن «إياك نعبد» [الفاتحة: 5] متعلق بألوهيته واسمه «الله» «وإياك نستعين» [الفاتحة: 5] متعلق بربوبيته واسمه «الرب» فقدم «إياك نعبد» [الفاتحة: 5] على «إياك نستعين» كما قدم اسم «الله» على «الرب» في أول السورة، ولأن « إياك نعبد» قسم « الرب»، فكان من الشطر الأول، الذي هو ثناء على الله تعالى، لكونه أولى به، و«إياك نستعين» قسم العبد، فكان من الشطر الذي له، وهو «اهدنا الصراط المستقيم» [الفاتحة: 6] إلى آخر السورة.
ولأن «العبادة» المطلقة تتضمن «الاستعانة» من غير عكس، فكل عابد لله عبودية تامة مستعين به ولا ينعكس، لأن صاحب الأغراض والشهوات قد يستعين به على شهواته، فكانت العبادة أكمل وأتم، ولهذا كانت قسم الرب.
ولأن «الاستعانة» جزء من « العبادة» من غير عكس، ولأن «الاستعانة» طلب منه، و«العبادة » طلب له.
ولأن «العبادة» لا تكون إلا من مخلص، و«الاستعانة» تكون من مخلص ومن غير مخلص.
ولأن «العبادة» حقه الذي أوجبه عليك، و«الاستعانة» طلب العون على «العبادة»، وهو بيان صدقته التي تصدق بها عليك، وأداء حقه أهم من التعرض لصدقته.
ولأن «العبادة» شكر نعمته عليك، والله يحب أن يشكر، والإعانة فعله بك وتوفيقه لك، فإذا التزمت عبوديته، ودخلت تحت رقها أعانك عليها، فكان التزامها والدخول تحت رقها سببا لنيل الإعانة، وكلما كان العبد أتم عبودية كانت الإعانة من الله له أعظم.[29] وجاء قوله تعالى: «وإياك نستعين» في سياق فن الوصل مع قوله: «إياك نعبد»؛ فـ «إياك نستعين» جملة معطوفة على جملة «إياك نعبد» وإنما لم تفصل عن جملة «إياك نعبد» بطريقة تعداد الجمل مقام التضرع ونحوه من مقامات التعداد والتكرير كلاً أو بعضاً للإشارة إلى خطور الفعلين جميعاً في إرادة المتكلمين بهذا التخصيص، أي نخصك بالاستعانة أيضاً مع تخصيصك بالعبادة.[30] وأوثر بالتعبير بنون الجمع في قوله «نعبد ونستعين» والمتكلم واحد، لأنه ورد في الشريعة أنه من باع أجناسا مختلفة صفقة واحدة، ثم ظهر للمشتري في بعضها عيب فهو مخير بين رد الجميع أو إمساكه، وليس له تبعيض الصفقة، برد المعيب وإبقاء السليم، وهنا لما رأى العابد أن عبادته ناقصة معيبة لم يعرضها على الله مفردة، بل جنح إلى ضم عباده جميع العابدين إليها، وعرض الجميع صفقة كاملة راجيا قبول عبادته في ضمنها؛ لأن الجميع لا يرد البتة، إذ بعضه مقبول، ورد المعيب وإبقاء السليم تبعيض للصفقة، وقد نهى سبحانه عباده عنه، وهو لا يليق بكرمه العظيم، وفضله العميم، فبقي قبول الجميع[31]. ومن بديع استعمال صيغة الجمع في لفظتي «نعبد» و«نستعين» لقَصدِ التّواضُع لا لتَعْظِيمِ النَّفْسِ؛ وقُدِّمت العبادةُ على الاستعانةِ لكَوْنِ الأولى وسيلَةً إلى الثّانِيةِ، وتقْديمُ الوَسائلِ سَببٌ لتَحصيلِ المَطالبِ، وإطْلاقُ الاسْتعانةِ لقَصْدِ التّعْميمِ.[32] ومن الإعجاز البلاغي في نظم الآية أنها جاءت تناسبا لما قبلها وتمهيدا لما بعدها، فقوله: «إياك نعبد» متعلق بألوهيته واسمه «الله» و «إياك نستعين» متعلق بربوبيته واسمه الرب. فقدم «إياك نعبد» على «إياك نستعين» كما تقدم اسم الله على الرب في أول السورة، ولأن «إياك نعبد» قسم الرب، فكان من الشطر الأول الذي هو ثناء على الله تعالى، لكونه أولى به، و «إياك نستعين» قسم العبد، فكان مع الشطر الذي له، وهو «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» إلى آخر السورة.[33] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، 1/33.
[2] ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، تحقيق: محمد عبده عزام، 1/40، الطبعة الخامسة، دار المعارف.
[3] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 1/33.
[4] ديوان أبي الطيب المتنبي بشرح عبد الرحمن البرقوقي، تحقيق: عمر فاروق الطباع،2/73.
[5] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 1/33.
[6] معارج التفكر ودقائق التدبر، عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، 1/288.
[7] روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي، تحقيق: علي عبد الباري عطية، 1/88، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى، 1415 هـ.
[8] انظر معترك الأقران في إعجاز القرآن، ويُسمَّى (إعجاز القرآن ومعترك الأقران)، السيوطي، 1/135.
[9] مجموع الفتاوى، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، 14/13، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416هـ/1995م. باب: «معنى الإله والرب وسر تقديم إياك نعبد على إياك نستعين».
[10] رياض القرآن، تفسير في النظم القرآني ونهجه النفسي والتربوي، الدكتور سمير شريف استيتية، 1/31، الطبعة الأولى: 1426هـ/2005م.
[11] نفسه، 1/31.
[12] زهرة التفاسير، محمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد المعروف بأبي زهرة ، 1/59، دار الفكر العربي.
[13] في ظلال القرآن، سيد قطب، 1/23.
[14] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/286 .
[15] نفسه، 1/298.
[16] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 1/30.
[17] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد المعتصم بالله البغدادي، 1/31، دار الكتاب العربي – بيروت، الطبعة: الثالثة، 1416 هـ – 1996م.
[18] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/298.
[19] نفسه، 1/299.
[20] البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، أبي العباس أحمد بن محمد بن المهدي ابن عجيبة الحسني، تحقيق: عمر أحمد الراوي، 1/33-34، دار الكتب العلمية- بيروت، الطبعة: الثالثة، 2010م.
[21] صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، ص: 19-20، دار الصابوني للطباعة والنشر والتوزيع – القاهرة، الطبعة: الأولى، 1417هـ – 1997م.
[22] لسان العرب، محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري، 3/273، دار صادر – بيروت، الطبعة: الثالثة – 1414 هـ.
[23] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/299.
[24] تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، 1/135، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة: الثانية 1420هـ – 1999م.
[25] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، الزمخشري، 1/14، دار الكتاب العربي -بيروت، الطبعة: الثالثة – 1407 هـ.
[26] البحر المحيط في التفسير، أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان أثير الدين الأندلسي، تحقيق: صدقي محمد جميل، 1/42، دار الفكر- بيروت، الطبعة: 1420 هـ.
[27] أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي، تحقيق: محمد عبد الرحمن المرعشلي، 1/29، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الأولى – 1418 هـ.
[28] إعراب القرآن الكريم وبيانه،1/31.
[29] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد المعتصم بالله البغدادي، 1/97، دار الكتاب العربي – بيروت، الطبعة: الثالثة، 1416 هـ – 1996م.
[30] التحرير والتنوير، الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، 1/183-184، دار سحنون للنشر والتوزيع – تونس – 1997م.
[31] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 1/32-33.
[32] فتح القدير، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني، 1/27، دار ابن كثير، دار الكلم الطيب – دمشق، بيروت، الطبعة: الأولى – 1414 هـ.
[33] تفسير القرآن الكريم، ابن القيم الجوزية، تحقيق: مكتب الدراسات والبحوث العربية والإسلامية بإشراف الشيخ إبراهيم رمضان، ص: 70، دار ومكتبة الهلال – بيروت، الطبعة: الأولى – 1410 هـ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق