مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

علم علل الحديث: تعريفه، أهميته، وطرق معرفته، ومواطنه، بعض نماذجه

بسم الله الرحمن الرحيم  والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه

تقديم:

    لقد منَّ الله تعالى على الأمة الإسلامية بأن قيض لها علماء جهابذة أفذاذ ، وهبوا أنفسهم لخدمة السنة النبوية، فعكفوا على تنقيتها من التحريف والتبديل ،تحقيقاً لوعد الله تعالى في حفظ كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون”([1])

وقد نتج عن تلكم الجهود المبذولة لحفظ السنة أمور منها:  نشأة  الإسناد، وعلم الرجال والكلام فيهم جرحا وتعديلا  ، وعلم مصطلح الحديث، وعلم العلل .. وغيرها ، وهذا المقال محاولة  للتعريف بعلم علل الحديث وأهميته وطرق معرفته أولا،  ثم مواطنه والتمثيل لذلك بنموذجين اثنين، وهذا أوان الشروع في المقصود فأقول وبالله التوفيق والعون والسداد :

أولا: التعريف بعلم علل الحديث وأهميته وطرق معرفته:

1-تعريف العلة لغة واصطلاحا:

العلة لغة: المرض([2]) .

والعلة في اصطلاح المحدثين:  هو السبب الغامض الخفي القادح. قال الحافظ ابن الصلاح في مقدمته بقوله: “هي عبارة عن أسباب خفية غامضة قادحة فيه” ([3]) .

و عرفها الإمام النووي في التقريب بقوله: “عبارة عن سبب غامض قادح، مع أن الظاهر السلامة منه ” ([4])

و بهذا يتبين أن علم علل الحديث هو العلم الذي يبحث فيه عن الأسباب الخفية الغامضة  القادحة فيه مع أن ظاهر الحديث السلامة منه.  

و في هذا يقول ابن الصلاح : ” الحديث المعلل ، هو الحديث الذي أطُّلع فيه على علة تقدح في صحته، مع أن ظاهره السلامة منها ، و يتطرق ذلك إلى الإسناد الذي رجاله ثقات، الجامع شروط الصحة من حيث الظاهر “([5]).

ومن هذه العلل: وصل ما هو  مرسل، أو رفع ما هو موقوف، أو إدخال حديث في حديث  آخر أو غير ذلك([6])

2-أهمية وطرق معرفة علل الحديث .

      إّن معرفة علل الحديث من أجل علوم الحديث وأدقها وأشرفها([7])، وقد رويت أقوال في أهمية ذلك منها ما روي عن عبد الرحمن بن مهدي قال: “لأن أعرف علة حديث هو عندي أحب إلي من أن أكتب عشرين حديثا ليس عندي”([8])

وإنما يعرف هذه العلل ويضطلع عليها أهل الحفظ والخبرة، الممارسون لعلم الرواية والدراية في الحديث، قال ابن الصلاح في مقدمته: “وإنما يضطلع بذلك أهل الحفظ والخبرة، والفهم الثاقب، وهي عبارة عن أسباب خفية قادحة فيه”([9])

والسبيل إلى معرفة علة الحديث إنما يأتي بجمع طرق الحديث، والنظر في اختلاف رواته، وضبطهم وإتقانهم قال ابن الصلاح في مقدمته نقلا عن الخطيب البغدادي: قال:  السبيل إلى معرفة علة الحديث، أن يجمع بين طرقه، وينظر في اختلاف رواته، ويعتبر بمكانهم من الحفظ، ومنزلتهم في الإتقان والضبط”([10])

قال علي بن المديني: “الباب إذا لم تجمع طرقه، لم يتبين خطؤه”([11]).

ثانيا: مواطن العلة في الحديث وذكر نموذجين منها:

     تقع العلة في الإسناد وهو الغالب، وقد تقع في المتن دون الإسناد، وقد تكون في السند والمتن معا، وما يقع في الإسناد قد يقدح فيه –أي في الإسناد-، وفي المتن؛ كالإرسال، والوقف، وقد يقدح في الإسناد خاصة ويكون المتن صحيحا([12])

أولا: النموذج الأول:

مثال العلة في الإسناد غير القادحة في المتن: حديث يعلى بن عبيد الطنافسي، عن سفيان الثوري، عن عمرو بن دينار:”البيعان بالخيار”([13]صرح الحفاظ أن: يعلى غلط على سفيان في قوله: “عن عمرو بن دينار”؛ وإنما هو عن عبد الله بن دينار ، ([14]).

ثانيا: النموذج الثاني:

مثال العلة القادحة في المتن وحده: ما انفرد به مسلم من رواية الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي،عن قتادة، أنه كتب إليه يخبره عن أنس، أنه قال : «صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، ولا يذكرون «بسم الله الرحمن الرحيم»، في أول قراءة ولا في آخرها”([15]).

قال ابن الصلاح: “فعلل قوم رواية اللفظ المذكور، لما رأوا الأكثرين إنما قالوا فيه : فكانوا يستفتحون القراءة بـ: (الحمد لله رب العالمين) من غير تعرض لذكر البسملة، وهو الذي اتفق  البخاري ومسلم  على إخراجه في  الصحيح([16]) ، ورأوا أن من رواه باللفظ المذكور رواه بالمعنى الذي وقع له، ففهم من قوله : كانوا يستفتحون بالحمد لله ..أنهم كانوا لا يبسملون، فرواه على ما فهم، وأخطأ، لأن معناه: أن السورة التي كانوا يفتتحون بها من السور هي الفاتحة، وليس فيه تعرض لذكر التسمية.  وانضم إلى ذلك أمور، منها : أنه ثبت عن أنس رضي الله عنه : أنه سئل عن الافتتاح بالتسمية ، فذكر أنه لا يحفظ فيه شيئا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم والله أعلم”([17])

    وختاما يمكن أن نخلص إلى الآتي:

أن علم علل الحديث يعد من أجل علوم الحديث وأدقها وأشرفها، ولا يعرفه إلا الحذاق من أهل الحفظ والخبرة والفهم، الممارسون لعلم الرواية والدراية، وهي عبارة عن أسباب خفية قادحة فيه كما قال ابن الصلاح في المقدمة، وقد يقع في الإسناد أو المتن أو هما معا. 

**************

هوامش المقال:

([1])  سورة الحجر الآية: (9).

([2])  الصحاح في اللغة للجوهري (5 /1773 ) مادة “علل”.

([3])  مقدمة ابن الصلاح (ص: 259).

([4])  التقريب والتيسير (ص: 43).

([5])  مقدمة ابن الصلاح (ص: 259).

([6])  مقدمة ابن الصلاح (ص: 260) بتصرف.

([7])  مقدمة ابن الصلاح (ص: 259).

([8])  علل الحديث لابن حاتم (1 /387).

([9])  مقدمة ابن الصلاح (ص: 259).

([10])  مقدمة ابن الصلاح (ص: 259).

([11]) مقدمة ابن الصلاح (ص: 260).

([12])  التقريب والتيسير (ص: 44)

([13])  رواية يعلى بن عبيد: أخرجها الطبراني في المعجم الكبير 12 /448-449 برقم 13629 بلفظ: «كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا، إلا بيع الخيار»، وقد تحرف فيها اسم «يعلى بن عبيد» إلى: «علي بن عبيد».

([14])  كالدار قطني في العلل (1 /40)، وابن الصلاح في المقدمة ص: (260)، والعراقي  في: شرح التبصرة والتذكرة (1 /255) وغيرهم.

([15])  صحيح مسلم بشرح النووي (2 /346) كتاب: الصلاة، باب: حجة من قال: لا يجهر بالبسملة، برقم: (399).

([16])  صحيح البخاري (1/ 242) كتاب: الأذان، باب: ما يقول بعد التكبير، برقم (743)، وصحيح مسلم (1 /187)، كتاب: الصلاة، باب: حجة من قال لا يجهر بالبسملة، برقم: (399).

([17])  مقدمة ابن الصلاح (ص: 261).

*********************

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:

التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير.لمحي الدين بن شرف النووي. تقديم وتحقيق وتعليق: محمد عثمان الخشت. دار الكتاب العربي. ط1/ 1405هـ-1985مـ.

الجامع الصحيح.: لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتنقيحه: محب الدين الخطيب، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وراجعه وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة. ط 1/ 1400مـ

شرح التبصرة والتذكرة. لأبي الفضل زيد الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي. حقق نصوصه وخرج أحاديثه وعلق عليه: د. عبد اللطيف الهميم- الشيخ: ماهر ياسين فحل. دار الكتب العلمية بيروت. ط 1 /1423هـ-2002 مـ.

الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية. لإسماعيل بن حماد الجوهري. تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار. الناشر: دار العلم للملايين – بيروت. ط: 4 /1990مـ.

صحيح مسلم بشرح النووي.  حققه وخرجه وفهرسه: عصام الصبابطي – حازم محمد – عماد عامر دار الحديث القاهرة. ط4 /1422هـ-2001مـ…

صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد كتاب مسلم بن الحجاج للزبيدي.دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427هـ-2006مـ.

العلل الواردة في الأحاديث النبوية. لأبي الحسن علي بن عُمَر ابن أحمد بن مهدي الدارقطني. تحقيق وتخريج: د/ محفوظ الرحمن زين الله السلفي. دار طيبة الرياض. ط1/ 1405هـ-1985مـ.

كتاب العلل. لأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم. تحقيق: فريق من الباحثين. د/ سعيد بن عبد الله الحميد- د/ خالد بن عبد الرحمن الجريسي. ط1/ 1427هـ-2006 مـ.

المعجم الكبير. لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني. تحقيق وتخريج: حمدي عبد المجيد السلفي. مكتبة ابن تيمية.القاهرة.

مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح. لأبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري– طبعة جديدة محررة – تحقيق: دة/ عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ. دار المعارف القاهرة ط 1411هـ- 1990مـ.

*راجع المقال الباحث: عبد الفتاح مغفور

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق