مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعينغير مصنف

رُجْحَانُ الْكِفَّة في بيان نُبْذَة من أخبار أهل الصُّفَّة

إعداد: عبداللطيف السملالي

شكلت أخبار وأحوال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مادة كبيرة في كتب العلماء المتقدمين والمتأخرين، وتفنن بعضهم في اقتفاء أحوال هذه الصفوة المباركة من الصحابة رضوان الله عليهم، والتعرف على سني أخلاقهم، وإبراز ما خصوا به من جليل الفضائل، وما نالوه من رفعة ومكرمات، مصورين تارة تضحياتهم وحسن بلائهم في نصـرة دعوة الإسلام، معددين المشاهد والغزوات التي حضـروها، حيث استرخصوا الغالي والنفيس في الذود عن حياض الإسلام وتمكين القيم السامية التي آمنوا بها في واقع الناس.

ومن لطيف الرسائل التي اعتنت بأحوال الصفوة المباركة من الصحابة الكرام، رسالة: (رجحان الكِفَّة في بيان نبذة من أخبار أهل الصفة) التي ألفها العلامة المحدث محمد بن عبدالرحمن السخاوي ( ت 902هـ)،  وهي رسالة مفيدة في بابها، مستوعبة لأسماء أهل الصفة رضوان الله عليهم، جوَّدَ المؤلف فيها الجمع وأحسن اختيار المادة العلمية لصياغة تأليفه هذا.

ولقد سعى المؤلف في طالعة كتابه التعريف بعمله مجليا مضمونه، والجهد المبذول من قبله في الإحاطة بأسماء من اندرجوا في زمرة أهل الصفة ممن أنفقوا أوقاتهم في الطاعات وسلكوا سبيل الزهد في الدنيا، وعلا شأنهم في الإقبال على العلم والتعلم، والاجتهاد في نصـرة دعوة الإسلام، من خلال المشاركة في المشاهد وإبلاء البلاء الحسن في كافة غزوات الإسلام. يقول السخاوي :

>فهذا جزء جمعت فيه أسماء من وقفت عليه من أهل الصفة، الفائقين في المعنى والصفة، من شأنهم وأخلاقهم، وسائر أحوالهم في آنهم ومآلهم، وكيف كانت الصُّفة، ومحلها السّوي، من المسجد النبوي، والإشارة لما قيل في عددهم، رجاء بركتهم ومددهم….<[1].

وإذا أنعمنا النظر في مضمون الكتاب ، وجدنا أن المؤلف قسم عمله إلى قسمين أساسين:

تناول في القسم الأول جملة وافرة من الإفادات المتصلة بأهل الصُّفَة، استقاها من كتب الحديث، والسير، والتراجم، والتاريخ،  من تلك الإفادات:

+ التذكير بمصنفات وضعها العلماء المتقدمون حول أهل الصفة.
+ سبب بناء الصُّفَة.
+ صفة ساكني الصُّفَة، مع الإشارة إلى ملابسهم وطعامهم.
+ تقديم نبذة عن أخلاقهم وأحوالهم، وبيان انقطاعهم للعلم والعبادة.
+ إيراد ما ورد في شأن عددهم.
+ ذكر الآيات التي نزلت في حقهم.
+ إيراد أخبار عن رعاية النبي صلى الله عليه وسلم، وصحابته لهؤلاء الزمرة الطيبة من الأصحاب الكرام.

اعتمد المؤلف في هذا القسم على مجموعات من الروايات والآثار التي تدل على مقصوده منها، وغالبا ما كان يعزوها إلى مصادرها الأصيلة، معتنيا أحيانا بألفاظ تلك الروايات، وتارة كان يعتني ببيان غريبها، و نادراً ما كان يحكم عليها.

وأما القسم الآخر فخصصه السخاوي لسـرد جميع أسماء أهل الصفة كيفما وردت الأخبار في شأنهم، وقد تمثل منهجه في هذا القسم على النحو التالي:

* سرد أسماء من عُدَّ في أهل الصُّفة، وبيان المصدر الذي أفاد بذلك، مع ترتيب تلك الأسماء  على حروف المعجم.
* ذكر كنية المشهورين منهم، مع بيان حقيقة أسمائهم.
* إدراج أسماء من الصحابة، نص أهل العلم على أنهم من أهل الصفة.
* إيراد إثر كل اسم من أهل الصفة حديثا أو أكثر، وربما أورد أثرا.

ومن أمثلة هذا القسم أُورِدُ الترجمة التالية:

>شدَّادُ بْنُ أُسَيْد:  ذكره بعضهم في أهل الصُّفَّة، وحكاه عمرو بن قيظي بن عامر بن شداد، عن أبيه، عن جده: >أنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فأسكنه الصفة<.

ثم ساق أبو نعيم من طريق زَيْد بن الحُبَاب، حدثنا عمرو بن قيظي بهذا السند عن جده، شداد:> أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فبايعه على الهجرة فاشتكى، فقال: ما لك؟. قال: اشتكيت يا رسول الله، ولو شربت من ماء بطحان لبرئت، فقال: قال: فما يمنعك؟ قال: هجرتي، قال: فاذهب فأنت مهاجر حيث ما كنت<[2].

والمتأمل في كتاب (رجحان الكِفَّة) يجد مُؤَلِّفَهُ اعتمد اعتمادا كبيرا على كتاب (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء) للحافظ أبي نعيم الأصبهاني(ت 430هـ)، باعتبار أن هذا المصدر استوعب بتفصيل أسماء أهل الصفة، واجتهد صاحبه في بيان الأوهام التي وقع فيها من تقدمه من العلماء (كأبي سعيد ابن الأعرابي، وأبي عبدالرحمن السلمي)، وتعقب أخطاءهم، كما استدرك عليهم أسماء فاتهم إدراجها في أهل الصفة.

والحافظ السخاوي أحسن استثمار مضمون كتاب (حلية الأولياء)، فهو اجتهد في تهذيب فصل (ذكر أهل الصفة)، حيث اختصـر الأسانيد، وأوجز عبارات أبي نعيم دون الإخلال بمعناها، ثم عمد بعد ذلك إلى جرد أسماء أهل الصفة حسب الترتيب الأبجدي، يقول السخاوي في بيان ما انتهى إليه عمله قائلا: > وهذا حين الشـروع في تجريدهم تبعا لأبي نعيم، لكنني رتبتهم الترتيب المحكم على حروف المعجم<[3].

 وإذا كان أبو نعيم أدرج في (فصل أهل الصفة) 85 اسما من أهل الصفة دون ترتيب، فإن السخاوي استقصـى أسماءهم بين تراجم كتاب(حلية الأولياء) نفسه، واستطاع الإحاطة بأسماء أخرى من أهل الصفة لم يوردها أبو نعيم في الفصل المذكور من كتابه. و مجموع ما استوعبه كتاب (رجحان الكفة) من أهل الصفة بلغ 104 أسماء.

كما أفاد السخاوي من مصادر السنة النبوية، ومن كتب غريب الحديث وكتب التفسير، وغيرها من المصادر في صياغة كتابه، وانتقى منها أحاديث وآثارًا وأخبارًا أثرى بها موضوع أهل الصفة، وجوانب عديدة من أحوالهم، مُجَلِّيًّا الأدوار التي اضطلعوا بها، ومُبْرِزًا السِّمَات التي طبعت مسار حياتهم العملية والعلمية. ومن أهم الكتب التي اعتمدها السخاوي:

1.  مسند الحميدي (ت 219هـ). 

2. مسند الإمام أحمد (ت241هـ).

3. صحيح البخاري ( ت 256هـ).

4. صحيح مسلم (ت 261هـ).

5. سنن أبي داود (ت 275هـ).

6. سنن الترمذي (ت 279هـ).

7.  سنن النسائي (ت 303هـ).

8. الدلائل في شرح ما أغفله أبو عبيد وابن قتيبة من غريب الحديث. لأبي القاسم السرقسطي (ت 313هـ).

9. صحيح ابن حبان. (ت 354هـ).

10. المستدرك على الصحيحين. للحاكم النيسابوري (ت 405هـ).

11. فتاوى ابن تيمية (ت 728هـ).

12. تفسير ابن كثير (ت 774هـ).

13. الإصابة في تمييز الصحابة. ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ).

14. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ).

إن كتاب (رجحان الكفة في بيان نبذة من أخبار أهل الصفة) من أجَلِّ الكتب المصَنَّفَةِ في أهل الصُّفَّة استوعب فيه السخاوي بتفصيل تاريخ الصفة، وهي الظلة التي كانت تقع في مؤخر المسجد النبوي، وإليها أوى جماعة من الصحابة الكرام ممن لا مأوى لهم ولا أهل، وكان هؤلاء يكثرون ويقلون في هذا المكان بحسب أوضاعهم وأحوالهم الاجتماعية، فمنهم من أقام فترة هناك ثم عاد إلى قبيلته، ومنهم من تزوج فانتقل إلى الاستقرار في مسكنه،  وبعضهم سقط في ساحة الشـرف شهيدا. ومجموع من نزل الصفة من الصحابة على امتداد عقود من الزمن بلغ بضعة مئات من الأفراد.  قال ابن تيمية: > وجملة من آوى إلى أهل الصفة مع تفرقهم قيل أربعمائة. وقيل أكثر من ذلك<[4].

ولا يخلو هذا الكتاب من فوائد علمية كثيرة، واستنباطات فقهية متعلقة بالمسجد والإقامة فيه، كما أطلعنا على نموذج نبوي فريد في معالجة حالة الفقر في المجتمع الإسلامي الأول، وبث روح المواساة وتخفيف المعاناة عن المحتاجين.

لقد اعتنى بتحقيق هذا الكتاب وبذل جهدا مشكورا في توثيق نصوصه، وتخريج الأحاديث والروايات الواردة فيه: مشهور بن حسن آل سلمان وأحمد الشقيرات، اللّذَانِ مهَّدَا لعملهما بدراسة مفصلة ضمت فصولا ثلاثة، تناولا فيها:

·/ دراسة جوانب من الكتاب من خلال بيان جهود العلماء المتقدمين والمعاصرين في التعريف بأهل الصفة، والتذكير بالأوهام التي نسجت على مر العصور حولهم، كما اجتهد المحققان في تحقيق مكان الصفة من المسجد النبوي.
·/ تعريف شامل بالمؤلف.
·/ إبراز منهج السخاوي في كتابه (رجحان الكفة)، وبيان المصادر المعتمدة من قبله، ولم يغفل المحققان عن توثيق نسبة الكتاب لصاحبه، ووصف النسخ الخطية التي اعتمداها في تحقيق الكتاب، كما أفصحا عن عملهما بتفصيل في ضبط وتحقيق وتخريج متن هذا الأثر النفيس.

وقد ذَيَّل المحققان عملهما باستدراك على السخاوي الذي فاته إدراج زمرة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم جميعا، مع أهل الصفة وهم:

1-   هند بن حارثة الأسلمي.

2-   غرفة الأزدي.

3-   كعب بن مالك.

4-   عبدالله بن قيس، أبو موسى الأشعري.

5-   عتبة بن مسعود.

كما ألحق المحققان بالكتاب: (رسالة في أهل الصفة وأحوالهم) لإسماعيل بن عبدالله الأسكداري النقشبندي (ت 1182هـ).

وقد ظهر هذا الكتاب: (رجحان الكفة في بيان نبذة من أخبار أهل الصفة)، أول مرة إلى عالم المطبوعات، بمبادرة من المحققين المذكورين آنفا، ونشـرته دار السلف للنشـر والتوزيع بالرياض، سنة 1415هـ/ 1995م، ويقع في 361 صفحة.

والجدير بالتنويه أن العلماء قديما وحديثا اعتنوا بأسماء أهل الصفة وأحصوا عددهم، وتتبعوا أخبارهم وأبرزوا أدوارهم في مصنفات مفردة، أو ضمن مؤلفات لهم، ومن أشهر الكتب التي استوعبت أحوالهم:

1-    الطبقات الكبرى: لمحمد بن سعد (ت 230هـ ).

2-   طبقات النساك: لأبي سعيد ابن الأعرابي (ت 340هـ) .

3-   المستدرك على الصحيحين: للحاكم النيسابوري (ت 405 هـ)، أورد فيه ستة وثلاثين اسماً من أهل الصفة.

4-    تاريخ أهل الصفة: لأبي عبد الرحمن السلمي (ت 412 هـ ).

5-  حلية الأولياء: لأبي نعيم الأصفهاني (ت 430 هـ)، حيث جمع فيه كل ما ذكره السابقون، وأضاف أسماء أخرى، وأوصل عددهم إلى بضع ومائة فرد.

6-    منهاج الدين: للهجويري (ت 465 هـ ) ، ذكر فيه مناقب أهل الصفة بالتفصيل.

7-    رسالة في أهل الصفة: لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ ).

8-   التحفة في الكلام على أهل الصفة: لتقي الدين السُّبْكِي (ت 756 هـ).

9-    وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى: لنور الدين السَّمْهُودِي(ت 911 هـ)، حيث عقد فصلاً عن الصفة وأهلها.

10-  رسالة في الصفة وأهلها وأحوالهم، لإسماعيل الأُسكداري النقشبندي (ت 1182هـ)، وهي رسالة مختصـرة، لم يذكر فيها المؤلف أسماء أهل الصفة، نشـرت بذيل كتاب (رجحان الكفة) للسخاوي.

11-   تحفة أهل الزلفة في التوسل بأهل الصفة: للمرتضـى الزَّبِيدِي (ت 1205هـ)[5] ، ذكر فيها اثنين وتسعين اسماً.

ومن أشهر الأعمال والأبحاث المعاصرة التي طرقت موضوع أهل الصفة بتفصيل ومن زوايا مختلفة، نذكر جملة منها:

1 – أصحاب الصُّفَّة: لأبي تراب الظاهري، دار القبلة للثقافة الإسلامية، جدة. 1404هـ، ظهر منه الجزء الأول فقط، وهو يتألف من 112 صفحة. وضم تعريفا بـ 95 صحابيا من أهل الصفة.

2 – أهل الصُّفَّة ودورهم في انتشار الإسلام: لتُنَيْضِب الفايدي. مكتبة المغامسـي. المدينة. 1435هـ. تناول فيه  أدوار أهل الصُّفَّة في نشر الإسلام، وأدرج تراجم عدد كبير منهم.

3 – أهل الصُّفَّة بعيدًا عن الوَهْم والخيال: لصالح أحمد الشامي. دار القلم. دمشق 1412 هـ، 59صفحة، تضمن نقض الأوهام والأخبار غير الصحيحة عن أهل الصُّفَّة، وبيانا لبعض أحوالهم.

4 ـ الصُّفة تاريخها- أصحابها، دراسة تاريخية توثيقية: لمحمود محمد حمو. وهذا البحث بحق أوسع ما كتب  في هذا  الموضوع، وتميز بدقة التحليل والتوثيق، نشـر في مجلة مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة- العددان: 29 و30.

5 ـ أهل الصفة: عبد الشافي محمد عبداللطيف،. دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة. 2007م. 64 صفحة .

6 ـ أهل الصفة في صدر الإسلام والدولة الأموية – أثرهم الفكري والجهادي. عبد العزيز خليل الفياض. دار الكتب العلمية. بيروت. 2015م. 512 صفحة. تضمن الكتاب تعريفا بالصفة، وذكر أصحابها وتراجمهم، وما يتعلق بنشأة المسجد النبوي، وموقع الصفة وأحوال من نزل بها، مع بيان أثرهم الفكري والجهادي وغير ذلك مما يتعلق بهؤلاء الصحابة الكرام.

7ـ وسائلُ معالجةِ الفقرِ في العهدِ النبويِّ (أهلُ الصُّفَّةِ أنموذجًا). ماجد بن صالح بن مشعان الموقد. (بحث لنيل درجة الماجستير). الجامعة الإسلامية. كلية الشريعة. 1435ـ 1436هـ. 115 صفحة.

وجملة القول إن كتاب (رجحان الكفة في بيان نبذة من أخبار أهل الصفة) للحافظ السخاوي، قدم صورة واضحة ومعالم بارزة لفئة من المجتمع الإسلامي التي أوت إلى الصفة، واستقرت بها فترة من الزمن كانت تطول أو تقصـر، وفيهم كان بعض المهاجرين الفقراء، وهناك من قدم إلى المدينة من قبائل أخرى لإعلان إسلامه، ولتعلم مبادئ الدين الجديد استقر بالصفة.

 وأهل الصفة في مجملهم كانوا مجاهدين مرابطين، وكانوا طلاب علم متفرغين يَتَلَقَّوْنَ العلم الشـريف مِنْ فِيهِ النبي عليه الصلاة والسلام، الذي كان يعتني بأحوالهم ويواسيهم ويؤنسهم ويكثر مجالستهم، ويؤاكلهم أحيانا، كما كانوا يباشرون بعض الأعمال، لكنها لم تكن تسد حاجتهم اليومية.

 


[1] . رجحان الكفة في بيان نبذة من أخبار أهل الصفة. السخاوي. 88.

[2] . رجحان الكفة في بيان نبذة من أخبار أهل الصفة. السخاوي. 216.

[3] . رجحان الكفة في بيان نبذة من أخبار أهل الصفة. 148.

[4] ـ أهل الصفة وأحوالهم. ابن تيمية. 21.

[5] ـ تاج العروس. الزبيدي. 24/26.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق