مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

دور علماء القرويين في مقاومة الاستعمار 1

 الدكتور سعيد المغناوي

أستاذ التعليم العالي كلية الآداب والعلوم الإنسانية فاس سايس

شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن يقيض لبلاد المغرب من يحافظ على أصالتها وتراثها. فتهيأت الأسباب، وتم بناء جامع القرويين بمدينة فاس، فكان أكبر حدث في عهد الدولة الإدريسية وفي تاريخ الإسلام. وانبثقت عن ذلك الجامع جامعة مباركة، اتخذها العلماء مركزا للبحث والتدريس، وميدانا للمناظرة والجدل، وقصدها طلاب العلم من كل حدب وصوب. فأصبحت حلقة وصل هامة، ربطت بين أجزاء العالم الإسلامي من الشرق إلى الغرب. إذ كان بعض علمائها يملون دروسهم بالقرويين وسائر فروعها، وعندما يكونون في طريقهم إلى الديار المقدسة لأداء مناسك الحج، يفعلون مثل ذلك في مراكز علمية أخرى، مثل القيروان والأزهر، والقدس ودمشق، والبصرة والكوفة وبغداد، ومكة والمدينة وغيرها، ويتبادلون مع أهلها الكتب والإجازات والمعارف، لينشروها بعد عودتهم إلى وطنهم، ويلقنوها لطلبتهم. مثلما فعل أبو عبد الله محمد بن قاسم التميمي، وأبو عبد الله محمد بن سعيد الرعيني وأبو زيد عبد الرحمن بن علي القصري السفياني العاصمي المعروف بسقين.[1]

وقد تخرج على يد هؤلاء وغيرهم فطاحل العلماء وكبار المفكرين، أمثال: أحمد بن فرتون[2] وإسماعيل بن الأحمر[3]، وأحمد زروق[4]، ومحمد بن غازي[5]، وأحمد المنجور[6]، ومحمد ميارة[7]، وغيرهم ممن أنتجوا كتبا مفيدة في كافة المجالات العلمية، وقصدهم طلاب العلم من جميع أرجاء المغرب ومن المشرق[8] وأوربا[9] وإفريقيا[10]، واستفتاهم الناس في أمور بالغة الأهمية.[11]

 

دراسات فاسية، للدكتور سعيد المغناوي، ص10 وما يليها، الطبعة الأولى 1424هـ-2003م. مطبعة آنفو – برينت. فاس.

 

 


[1] – أبو عبد الله محمد بن قاسم التميمي –مثلا- نشأ بفاس وأخذ عن شيوخها، ودخل الأندلس فروى عن علمائها، ورحل إلى المشرق فقضى خمسة عشر عاما، لقي فيها أكثر من مائة شيخ، ورجع إلى بلده فأسمع الحديث وصنف التآليف، وأخذ عنه ابن عربي الحاتمي، وأبو الحسن الشاري، وكثير من طلبة المغرب، وتوفي بفاس سنة 603هـ (انظر ترجمته في: التكملة لابن الأبار، وجذوة الاقتباس لابن القاضي، وسلوة الأنفاس لمحمد بن جعفر الكتاني، وفهرس الفهارس لعبد الحي الكتاني، وشجرة النور الزكية لمحمد مخلوف).

وأبو عبد الله محمد بن سعيد الرعيني المعروف بالسراج، ولد بفاس ونشأ بها وأخذ عن علمائها، ثم طاف المغرب بحثا عن أرباب الإسناد، ورحل إلى المشرق فلقي جلة من العلماء وأخذ عنهم وحمل منهم الروايات، ثم استقر ببلده منصرفا إلى التدريس والتأليف، فأخذ عنه كثير من طلبة فاس، كأبي زكرياء السراج وأبي الوليد بن الأحمر وغيرهما، وتوفي بها سنة 778هـ (انظر ترجمته في: جذوة الاقتباس لابن القاضي، وفهرس الفهارس للكتاني، وشجرة النور الزكية لمحمد مخلوف، ودرة الحجال لابن القاضي).

وأبو زيد عبد الرحمن بن علي القصري السفياني العاصمي المعروف بسقين، تصدى لتدريس الفقه بالمدرسة العنانية، ثم ارتحل إلى المشرق بعد أن اجتاز ببلاد السودان، فلقي بمصر أبا الفتح القلقشندي وغيره من أصحاب شيخ الإسلام ابن حجر ومن غيرهم، وأقام بالحرمين مدة طويلة لأخذ الحديث والتوسع فيه وفي سنده وضبط ألفاظه، حتى حصل له من ذلك علم كثير ورواية واسعة لم تحصل لغيره من أهل عصره من علماء فاس، ولما قفل راجعا إلى بلاده اجتاز في إيابه على بلاد السودان كما اجتاز بها في ذهابه، وجاء منها إلى فاس ثم رجع إليها، فدخل مدينة كنو وغيرها، وحدث بمحضر ملوكها فعظموه ووصلوه بالصلات الجزيلة، ونال عندهم المنزلة الرفيعة. ثم انفصل عنهم بعد سنين كثيرة إلى وطنه فاس فتولى خطابة جامع الأندلس، وبعد ذلك بمدة قليلة تولى الفتوى ثم عزل عنها، فأكب على إقراء الحديث وتدريسه إلى أن توفي سنة 956هـ (انظر ترجمته في: فهرس أحمد المنجور، وجذوة الاقتباس لابن القاضي، وسلوة الأنفاس لمحمد بن جعفر الكتاني، وفهرس الفهارس لعبد الحي الكتاني).

[2] – أحمد بن فرتون السلمي من أهل مدينة فاس، أخذ بها عن أبي ذر الخشني وغيره، ثم انتقل إلى سبتة فأخذ بها عن عالم كبير من أهلها ومن الواردين عليها، ودخل الأندلس فأخذ بالجزيرة الخضراء وبمالقة عمن وجد هنالك ورجع إلى سبتة فبقي بها إلى حين وفاته سنة 660هـ. كان فاضلا زاهدا ورعا، وكان ذاكرا للرجال والتاريخ ولكثير من متون الأحاديث، وقسط صالح من الجرح والتعديل وطبقات الناس، وصنع برنامجا ضمنه ما رواه، وألف كتابا استدرك فيه على السهيلي في كتاب “التعريف والإعلام” سماه “الاستدراك والإتمام” وألف كتاب “الذيل على الصلة”. (انظر ترجمته في: جذوة الاقتباس لابن القاضي، وشجرة النور الزكية لمحمد مخلوف).

[3] – إسماعيل بن الأحمر الخزرجي صاحب “روضة النسرين” و”تأنيس النفوس” و”نثير الجمان” و”بيوتات فاس الكبرى”، أخذ عن الفقيه المحدث الرحال محمد بن سعيد الرعيني المعروف بالسراج، وعن الفقيه القاضي محمد بن أحمد الفشتالي، وكان يسكن بمدينة فاس بعقبة المكودي (العقبة التي تسمى اليوم بالمدارج الواقعة بين الرصيف ورحبة الزبيب)، وتوفي سنة 807هـ. (انظر ترجمته في: جذوة الاقتباس لابن القاضي، وسلوة الأنفاس للكتاني).

[4] – أحمد زروق البرنسي الولي الصالح صاحب التآليف الحسنة في الفقه والتصوف وغير ذلك. ولد بمدينة فاس المحروسة سنة 846هـ، وأخذ بها عن الإمام القوري وغيره حسب ما جاء في فهرسته، وأخذ بالمشرق عن جماعة منهم: علي السنهوري والحافظ الديلمي والحافظ السخاوي. وتوفي رحمه الله سنة 899هـ. (انظر ترجمته في: جذوة الاقتباس لابن القاضي، وشجرة النور الزكية لمحمد مخلوف، وسلوة الأنفاس للكتاني).

[5] – محمد بن غازي العثماني ولد بمكناس سنة 841هـ، ورحل إلى فاس سنة 858هـ لاستكمال دراسته، ثم رجع إلى مكناسة الزيتون وتصدر للتدريس بجامعها وولي الخطابة بها. ووقعت بينه وبين محمد بن أبي زكرياء الوطاسي الملقب بالحلو خصومات، فنفاه. ورحل من جديد إلى فاس، فرشح لخطبة فاس الجديد، ثم عين إماما وخطيبا لجامع القرويين، وأسندت إليه كراسي تدريس الفقه والعربية والحساب والفرائض وغيرها من أصول المعرفة، وتوفي سنة 919هـ. (انظر ترجمته في: فهرس ابن غازي، وفهرس الفهارس للكتاني، ونيل الابتهاج للتنبكتي، وجذوة الاقتباس لابن القاضي).

[6] – أحمد المنجور ولد بمدينة فاس سنة 929هـ، وأخذ بها عن الشيخ سقين وغيره، وكانت له معرفة بالرجال والحديث والفقه والبيان، والمنطق والحساب والفرائض وغير ذلك. وتوفي سنة 995هـ. (انظر ترجمته في: جذوة الاقتباس لابن القاضي، وفهرس أحمد المنجور، وسلوة الأنفاس للكتاني).

[7] – محمد ميارة ولد بفاس سنة 999هـ، ونشأ بها مقبلا على العلم وحلقات الشيوخ، فأخذ عن أبي الحسن البطيوي والقاضي ابن أبي النعيم وأبي العباس المقري وعبد الواحد بن عاشر وغيرهم، ثم اشتغل بتدريس الفقه والحديث والقراءات والعقائد وغيرها، وألف كتبا مفيدة من أشهرها: الدر الثمين ونظم الدرر ونصيحة المغترين، وتوفي رحمة الله عليه سنة 1072هـ. (انظر ترجمته في: فهارس علماء المغرب لعبد الله المرابط، ومعجم المؤلفين لعمر رضا كحالة).

[8] – دخل إلى مدينة فاس عدد من المشارقة فأفادوا واستفادوا، نذكر منهم على سبيل المثال: سهل بن علي النيسابوري، وهبة الله بن الحسين المصري، وعلي بن محمد بن فرحون اليعمري. فأما سهل بن علي النيسابوري فقد سمع من الخرسانيين وغيرهم، وأدرك أبا المعالي الجويني وحضر مجلسه ودرسه، ولقي بعده أصحاب القشيري والطوسي وغيرهما، وأخذ عنه أبو موسى بن الملجوم عند اجتيازه بفاس لما دخلها سنة 515هـ، وتوفي غريقا منصرفه إلى بلده من المرية سنة 531هـ. (انظر ترجمته في جذوة الاقتباس لابن القاضي). وأما هبة الله بن الحسين المصري فكان من أهل العلم، عارفا بالأصول، حافظا للحديث، وكان قدومه من المشرق إلى المغرب خوفا من صلاح الدين بن أيوب. دخل الأندلس، وولي قضاء إشبيلية وقضاء مدينة فاس، ثم استصحبه المنصور معه في غزوة قفصة الثانية، وولاه قضاء تونس، فتوفي بها سنة 586هـ (انظر ترجمته في جذوة الاقتباس لابن القاضي). وأما علي بن محمد بن فرحون اليعمري فكان حافظا للحديث ورجاله، واشتغل بالتصوف في آخر عمره. ولد بالمدينة المنورة سنة 698هـ، وسمع بها عن والده وعن الشيخ أبي عبد الله بن حريث وزين الدين الطبري، والسراج الدمنهوري وغيرهم. وسمع بالمقدس عن الشيخ شرف الدين الخشني والشيخ صلاح الدين العلائي وغيرهما، وسمع بدمشق عن جمال الدين المزني وشمس الدين الذهبي، وصدر الدين الغماري المالكي وغيرهم. ورحل إلى مصر وإلى المغرب سنة 730هـ، فلقي بتونس أبا إسحاق بن عبد الرفيع، وأخذ عن أبي علي عمر بن قداح الهروي. ولقي بمدينة فاس جماعة من العلماء الأعلام، فأخذ بها عنهم، وأخذ عنه بها أبو العباس القباب. وتوفي سنة 746هـ (انظر ترجمته في جذوة الاقتباس لابن القاضي).

[9] – من جملة من تلقى علومه في القرويين من الأوربيين –حسب ما ذكره عبد الهادي التازي في كتابه “جامع القرويين” ج1 ص115-166، وج2 ص418- البابا سيلفيستر الثاني، والقسيس نيكولا كلينار. فأما البابا سيلفيستر الثاني فكان يسمى (جيربير) قبل أن يتولى منصب البابوية. وقد اتفقت كلمة الأوربيين الذين أرخوا له أنه كان طالبا للعلم بالأندلس بين سنة 356هـ وسنة 359هـ، كما ذاع الحديث حول وصوله إلى المغرب أو بالأحرى إلى مدينة فاس، حيث أخذ بطريقة ما في جامعة القرويين عن مشايخها، ونقل عنهم الأعداد العربية بعد أن أتقنها وأدخلها إلى أوربا، وأما القسيس نيكولا كلينار فقد ورد على فاس من أجل تحسين معارفه في اللغة العربية، وبهذه المدينة حرر رسائل إلى بعض أصدقائه ابتداء من فاتح محرم سنة 947هـ.

[10] – جاء في “الموسوعة المغربية للأعلام البشرية والحضارية” لعبد العزيز بنعبد الله ج4 ص114، ما نصه: «الألوفا: معلمون دينيون كانوا ينشرون الإسلام في إفريقية الغربية، وكانت في بعض القبائل دور لاستقبالهم، وتفوق مكانتهم الاجتماعية الحكام أنفسهم، لا سيما وأن القرآن أصبح بفضلهم أساسا للحكم في كل المسائل الدينية. فكانوا ينطلقون من تفسير القرآن، ويحظون بالاحترام حتى في القرى الوثنية التي يؤسسون فيها مدارسهم. وقد درس الكثير منهم في جامعات المغرب العربي، وخاصة بجامعة القرويين بفاس ومساجد القيروان وطرابلس، وكذلك في جامعة الأزهر … »

[11] – استفتي علماء القرويين –مثلا- في أحداث المكس بفاس وبسائر أمصار المغرب، وفي رغبة أهل تلمسان في الدخول في بيعة السلطان عبد الرحمن بن هشام، وقد أشار الناصري إلى ذلك في “الاستقصا” ج8 ص7-9، وج9 ص26-29، فقال: «لما بويع السلطان سيدي محمد بن عبد الله –رحمه الله- وقدم حضرة فاس، رفع إليه أهلها ما كانوا يؤدونه إلى والده المولى عبد الله مما كان موظفا على الموازين، كميزان سيدي فرج، وميزان قاعة السمن، وميزان قاعة الزيت، وغير ذلك … فلما حضر فقهاء فاس عند السلطان سيدي محمد كلمهم في شأنها حتى يكون الأمر فيها مسندا إلى فتوى الفقهاء، فقالوا: إذا لم يكن للسلطان مال جاز له أن يقبض من الرعية ما يستخدم به الجند، فأمرهم أن يكتبوا له في ذلك، فكتبوا له تأليفا اعتمده السلطان ووظف على الأبواب والغلات والسلع، وكان ممن كتب له في ذلك العلامة الشيخ التاودي بن سودة، والعلامة الشيخ أبو عبد الله محمد بن قاسم جسوس، والإمام أبو حفص عمر الفاسي، والفقيه الشريف أبو زيد عبد الرحمن المنجرة، والفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد الصادق الطرابلسي، والفقيه القاضي أبو محمد عبد القادر أبو خريص وغيرهم، فاعتمد السلطان على فتواهم ووظف ما قلناه آنفا» وقال الناصري بعد ذلك أي في (ج9 ص26-29): «كان استيلاء طاغية الفرنسيين على ثغر الجزائر في آخر المحرم فاتح سنة ست وأربعين ومائتين وألف… ولما وقع بأهل الجزائر ما وقع، اجتمع أهل تلمسان وتفاوضوا في شأنهم واتفقوا على أن يدخلوا في بيعة السلطان المولى عبد الرحمن رحمه الله … ولما صرحوا له عن مرادهم توقف في ذلك –رحمه الله- وكان هواه إلى قبولهم أميل، إلا أنه أراد أن يبني ذلك على صريح الشرع كما هي عادته. فاستفتى علماء فاس، فأفتى جلهم بنقيض المقصود ورخص له بعضهم في ذلك، فأخذ السلطان –رحمه الله- بقول المرخص، مع أن أهل تلمسان لما بلغهم فتوى أهل فاس كتبوا إلى السلطان في الرد عليهم ما نصه: ليعلم سيدنا قطب المجد ومركزه … أن فتوى سادتنا علماء فاس مبنية على غير أساس، لأنهم اعتقدوا أن في عنقنا للإمام العثماني بيعة، وهذا لو صح لكان علينا حجة، وليس الأمر كذلك وإنما له مجرد الإسم هنالك … هذا، وعلى فرض تسليم أن للعثماني في عنقنا بيعة، فلا تكون علينا حجة، لأنه تباعد علينا قطره، فلم يغن عنا شيئا ملكه … على أنه ثبت بتواتر الأخبار البالغة حد الكثرة والانتشار أنه مشتغل لنفسه ومقره، عاجز عن الدفع عن إيالته القريبة من محله … فكيف يمكنه مع هذا الدفاع عن قطرنا وناحيتنا وبلدنا، وأدل دليل على بعده عن هذا المرام خبر مصر ونواحي الشام، فقد استولى عليها أعداء الدين، مدة تزيد على الخمس سنين فلم يجد لهم نفعا ولا ملك عنهم دفعا … هذا، ونص الأبي في شرح مسلم مفصح عن مثل قضيتنا ومعلم، على أن الإمام إذا لم ينفذ في ناحية أمره جاز إقامة غيره فيها ونصره … فنطلب من سيدنا –نصره الله- أن يلتزم لنا بفضله من هذه البيعة القبول، مستشفعين بجاه جده الرسول صلى الله عليه وعلى آله الطيبين، وصحابته المنتخبين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين اهـ. ولما وقف السلطان –رحمه الله- على هذا الكلام قبل بيعتهم والتزمها… ».

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق