مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكتراث

تقريب نظم ابن عاشر شذرات من شرح العلامة الشيخ أبي عبد الله محمد بن قاسم جسوس على توحيد ابن عاشر(9)

قال العلامة الشيخ أبو عبد الله محمد بن قاسم جسوس شارحا لقول الناظم:

“فواجب لا يقبل النفي بحال **** وما أبى الثبوت عقلا المحال

وجائزا ما قبل الأمرين سِمْ **** للضروري والنظري كل قسم”

وقد علمتَ بهذا أن الجائز ثلاثة أقسام: المقطوع بوجوده كالبعث والثواب والعقاب ونحو ذلك، والمقطوع بعدمه كدخول الكافر الجنة وإيمان أبي لهب ونحو ذلك، والمحتمل كقبول الطاعة منا وفوزنا بحسن الخاتمة وسلامتنا من عذاب النار.

وليس المراد بالجائز هنا ما أذن الشرع في فعله وتركه فيكون مرادفا للمباح كالبيع والنكاح ونحوهما، ولا ما أذن الشرع في فعله وإن لم يأذن في تركه فيكون أعم من المباح لصدقه على المباح والمندوب.

ثم الممكن هو الجائز الذاتي عند المتكلمين، وعند أهل المنطق الممكن قسمان: خاص وهو مرادف للجائز، وعام وهو ما لا يمتنع وقوعه فيدخل فيه الواجب والجائز العقليان، ولا يخرج عنه إلا المستحيل العقلي، وبالله التوفيق.

ويعني بقوله: “الضروري والنظري كل قسم”؛ أن كل قسم من الثلاثة المتقدمة ينقسم إلى ضروري وهو ما يدرك ابتداء بلا تأمل، وإلى نظري وهو ما يدرك بعد التأمل.

فالواجب الضروري كالتحيز للجِرْم؛ أي أخذه قدْرَ ذاتِه من الفراغ، فإن ثبوت هذا المعنى له لا يفتقر إلى تأمل، وكذلك كون الإثنين أكثر من واحد.

والنظري كثبوت القدم لمولانا جل وعلا فإنه إنما يدرك بعد التأمل فيما يترتب على نفيه من المستحيلات، كالدور والتسلسل، وتعدد الإله، وتخصيص كل واحد منهم بنوع من الممكنات بلا مخصص، وككون الواحد ربع عشر الأربعين.

والمستحيل الضروري كتعري الجسم عن الحركة والسكون معا.

والنظري ككون الذات العلية جرما، فان استحالته إنما تدرك بعد التأمل فيما يترتب على كون القديم جِرما من الجمع بين النقيضين، فيكون واجب القدم [لألوهيته] والحدوث لجرميته تعالى الله عن ذلك.

والجائز الضروري كاتصاف الجرم بخصوص الحركة مثلا. والنظري كتعذيب المطيع الذي لم يَعص قط؛ فإن هذا قد يُنكِر العقل جوازَه ابتداء، بل يتوهمه مستحيلا كما توهمته المعتزلة، وأما بَعد النظر في أنه المنفرد بخلق جميع الممكنات وإرادتها خيرا كانت أو شرا، وأنه لا حكم لأحد عليه، فنعلم على القطع أنه لا يلزم من تعذيب المطيع نقص ولا محال أصلا.

وقال المصنف: “للضروري”[1]، مع أن المستعمل في عباراتهم الضروري؛ منسوب للضرورة، وهو عندهم من باب الألقاب، والألقاب لا تغير لأجل ضرورة النظم، والله أعلم.

قال في شرح صغرى الصغرى: والتقسيم إلى ضروري ونظري بحسب مجرى العادة، وإلا فيجوز بإجماعٍ أن يُصيِّر سبحانه جميع العلوم ضرورية يلجأ العقل إلى تيقنها، وتُخلق فيه بلا تأمل أصلا، واختلفوا هل يصح أن تكون العلوم كلها نظرية للعقل بناء على أن العقل قبول القلب عادة للعلم أو أضداده خاصة كالظن والشك والوهم والجهل المركب، وليس نفس العلم ولا ملزوما له، أو لا يصح ذلك بناء على أن العقل نفس العلوم الضرورية [أو] ملزوم لها، فلا يصح الجمع بين العقل وبين نفي العلوم الضرورية. والظاهر القول الأول، ويدل على ذلك وجود السمنية[2] المنكرين لما عدا المحسوسات من العلم؛ ضرورية كانت أو نظرية، ووجود السوفسطائية المنكرين لجميع العلوم ضروريها ونظريها، محسوسها وغير محسوسها، وهم من العقلاء بدليل تعرض الأئمة لبدعتهم والتحيل في مناظرتهم لدفعها. انتهـى. ويأتي عند قول الناظم: “وكل تكليف بشرط العقل” ما للائمة في العقل من الخلاف.

الهوامش:


[1]– هذا هو المثبت في الأصل ولعل المراد كلمة الضرري كما هو الوارد في النظم.

[2]– قال الفيومي: “والسُّمَنيةُ بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مُخَفَّفَةً فِرْقَةٌ تَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَتَقُولُ بِالتَّنَاسُخِ، وَتُنْكِرُ حُصُولَ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ، قِيلَ نِسْبَةً إلَى سومنات بَلْدَةٌ مِنْ الْهِنْدِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ”. “المصباح المنير” للْعَلامَة أحمد بن محمد بن علي الْفَيومِي، ص: 174، دار الحديث، القاهرة، 1424هـ-2003م.

د. إدريس غازي

• خريج دار الحديث الحسنية ـ الرباط.
• دكتوراه في الدراسات الإسلامية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس، في موضوع: "أصل ما جرى به العمل ونماذجه من فقه الأموال عند علماء المغرب".
• دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية، الرباط، في موضوع: "المنهجية الأصولية والاستدلال الحجاجي في المذهب المالكي".
من أعماله:
ـ الشاطبي بين الوعي بضيق البرهان واستشراف آفاق الحجاج.
ـ في الحاجة إلى تجديد المعرفة الأصولية.

الدكتور عبد الله معصر

• رئيس مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوك بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق