مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكقراءة في كتاب

قراءة في كتاب منهاج العابدين إلى جنة رب العالمين لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي(ت505هـ)

 

        “إني علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء، وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئاً من سيرهم وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلاً، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم، في ظاهرهم وباطنهم، مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به”[1].

         تلك كانت كلمات الإمام الغزالي وغيرها كثير، وهي تنم عن توجهه الذي اختاره وأنه بالنسبة له طوق النجاة والأرض الرحيبة التي استقر عليها بعد أن عاش حين من الدهر ليس باليسير في حياة من الاضطراب والحيرة والتيه الروحي، وقد كان من حسنات تلك المرحلة أن ألف مؤلفات حسان متلث هذا التوجه منها كتاب “منهاج العابدين إلى جنة رب العالمين“، وقبل التطرق للكتاب ومضامينه وقيمته العلمية، يجدر الحديث عن الإمام الغزالي ومكانته العلمية بصفة عامة في مجال التصوف بصفة خاص.

        أبي حامد الغزالي الحُجَّة والمَحجَّة[2]:

          الإمام الجليل، حجة الإسلام، ومحجة الدين زين الدين، العالم الأوحد، مفتي الأمّة، وبركة الأنام، إمام أئمة الدين، وشرف الأئمة ومجدد المائة الخامسة، الشيخ البحر، محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي، أبو حامد، الشافعي، الأشعري، الغَزَالِي نسبة إلى غَزَالَة أو الغَزَّالِي نسبة إلى مهنة أبيه الذي كان يغزل الصوف ويبيعه، جامع أشتات العلوم، والمبرز في المنطوق فيها والمفهوم، ولد رحمه الله بطوس سنة خمسين وأربعمائة، كان والده فقيرا صالحا لا يأكل إلا من كسب يده في عمل غزل الصوف ويبيعه، ويختلف إلى العلماء في أوقات فراغه يجلس في حلقاتهم، ويستمع إلى دروسهم ووعظهم، وكان إذا سمع كلامهم بكى وتضرع، ويسأل الله أن يرزقه ابنا ويجعله فقيها واعظا، فاستجاب الله لدعائه، فكان أبو حامد أفقه أقرانه وإمام أهل زمانه، وفارس ميدانه، كلمته شهد بها الموافق والمخالف، وأقر بحقها المعادي والمحالف، أما أخوه أحمد فكان واعظا يلين له الصم الصخور عند سماع تحذيره وترعد فرائص الحاضرين في مجالس تذكيره.

وقد أثنى على الإمام الغزالي علماء كثر فوصفه شيخه الجويني بالبحر المغدق، وقال عنه الإمام الذهبي: “الشيخ الإمام البحر، حجة الإسلام، أعجوبة الزمان، زين الدين أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الشافعي، الغزالي، صاحب التصانيف والذكاء المفرط”، وقال ابن الجوزي: “صنف الكتب الحسان في الأصول والفروع، التي انفرد بحسن وضعها وترتيبها، وتحقيق الكلام فيها”، وقال عنه تاج الدين السبكي: “حجة الإسلام ومحجة الدين التي يتوصل بها إلى دار السلام، جامع أشتات العلوم، والمبرز في المنقول منها والمفهوم”.

         ويعد الإمام الغزالي واحدا من أعلام الفكر الإسلامي الذين تنوعت معارفهم، واتسعت ثقافتهم فشملت علوم العصر وفنونه على اختلافها وتنوعها، فهو الإمام الفقيه، والإمام الأصولي، والإمام في علم الأخلاق، والإمام في علم التربية، والإمام في التصوف، والإمام المجدد.

          كان رحمه الله شديد الذكاء سديد النظر، مفرط الإدراك قوي الحافظة، بعيد الغور غواصا على المعاني الدقيقة، مناظرا محجاجا، لازم إمام الحرمين، وكان له كبير الأثر في تكوينه الفكري، فبرع في الفقه ومَهِر في علم الكلام والجدل، حتى اعتبر المؤرخون هذه الفترة هي أخصب فترات حياته، إذ عرف كرائد من رواد علم الكلام بالأشعري لأنه واحد من مؤسسي المدرسة الأشعرية في علم الكلام، وأحد أصولها الثلاثة بعد الأشعري(ت342هـ) وهم: الباقلاني(ت403هـ)، والجويني(ت487هـ) والغزالي(ت 505هـ).

        وقد كانت وفاة شيخه إمام الحرمين الجويني حدا فاصلا في حياة الإمام الغزالي حيث خرج من نيسابور قاصدا نظام الملك، الذي كان مجلسه مجمع أهل العلم وملاذهم فناظر الأئمة العلماء، وظهر كلامه عليهم، واعترفوا بفضله فأكرمه نظام الملك وعظمه، وفوض إليه التدريس بمدينة بغداد بالمدرسة النظامية، وأعجب الخلق حسن كلامه، وكمال فضله، وفصاحة لسانه، ونكته الدقيقة، وإشاراته اللطيفة، وأحبوه وأقبلوا عليه، وأقام على تدريس العلم ونشره بالتعليم والفتيا والتصنيف، حتى ضربت به الأمثال، وشدت إليه الرحال.

        أما مؤلفات الإمام الغزالي فأُلفت في علوم وفنون شتى حيث برع رحمه الله في علوم كثيرة، فقد كان فارس كل ميدان، الفقه وأصوله، علم الكلام والمنطق وغيرها حتى قيل: إن تصانيفه لو وُزِّعت على أيام عُمُره لأصاب كلَّ يومٍ كتابٌ، مما جعله يحظى بمكانة مرموقة في صفوف علماء عصره، وأصبح مقصدا لكثير من طلبة العلم يرجعون إليه وينتفعون به، ولعل مؤلفاته القيمة شاهدة على ذلك، نذكر منها: المنخول، شفاء الغليل، المستصفى من علم الأصول، إحياء علوم الدين، معيار العلم، الوسيط والبسيط، الوجيز، المنقذ من الضلال، ميزان العمل، الاقتصاد في الاعتقاد، أساس القياس، تهافت الفلاسفة، ومنهاج العابدين الى جنة رب العالمين وغيرها كثير، وقد قيل أنه توفي رحمه الله والمداد يغطي أصابعه.

الغزالي والفكر الصوفي          

 

بعد خوض الغزالي في علوم الفلسفة والباطنية، عَكَف على قراءة ودراسة علوم الصوفية، فتأثر بذلك، ولاحظ على نفسه بُعدُه عن حقيقة الإخلاص لله وعن العلوم الحقيقية النافعة في طريق الآخرة، وشعر أن تدريسه في النظامية مليء بحب الشهرة والعُجُب والمفاسد، عند ذلك عقد العزم على الخروج من بغداد، يقول عن نفسه:

“ثم لاحظت أحوالي، فإذا أنا منغمس في العلائق، وقد أحدقت بي من الجوانب، ولاحظت أعمالي – وأحسنها التدريس والتعليم – فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة، ولا نافعة في طريق الآخرة، ثم تفكرت في نيتي في التدريس، فإذا هي غير خالصة لوجه الله، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار، وأني قد أشفيت على النار، إن لم أشتغل بتلافي الأحوال، لم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا، ودواعي الآخرة، قريباً من ستة أشهر أولها رجب سنة ( 488هـ)، في هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوماً واحداً تطييباً لقلوب المختلفة إلي، فكان لا ينطق لساني بكلمة واحدة ولا أستطيعها البتة، ثم لما أحسست بعجزي، وسقط بالكلية اختياري، التجأت إلى الله التجاء المضطر الذي لا حيلة له، فأجابني الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال والأهل والولد والأصحاب.

          الغزالي ورحلة تطهير النفس سنة 488هــ خرج الغزالي إلى الشام قاصداً الإقامة فيها، مُظهِرَاً أنه متّجه إلى مكة للحجّ حذراً أن يعرف الخليفة فيمنعه من السفر إلى الشام، فوصل دمشق ومكث فيها قرابة السنتين، لا شغل له إلا العزلة والخلوة، والمجاهدة، اشتغالاً بتزكية النفس، وتهذيب الأخلاق، يصعد منارة المسجد طول النهار، ويغلق على نفسه الباب. بعد ذلك رحل الغزالي إلى القدس واعتكف في المسجد الأقصى وقبة الصخرة، وهناك بدأ في تأليف كتابه العظيم إحياء علوم الدين، وما لبث أن سافر إلى مكة والمدينة المنورة لأداء فريضة الحج، ثم عاد إلى بغداد، بعد أن قضى إحدى عشر سنة في رحلته، وقد استقر أمره على الصوفية، ولم يدم طويلاً في بغداد حتى أكمل رحلته إلى نيسابور، ومن ثمّ إلى بلده طوس، وهناك لم يلبث أن استجاب إلى رأي الوزير فخر الملك  للتدريس في نظامية نيسابور مكرهاً، فدرّس فيها مدة قليلة، وما لبث أن قُتل فخر الدين الملك على يد الباطنية، من ثم رحل الغزالي مرة أخرى إلى بلده “طابران” في طوس، وسكن فيها متخذاً بجوار بيته مدرسة للفقهاء وخانقاه مكان للتعبّد والعزلة للصوفية”[3]، وإقامته في المسجد الأموي بدمشق واعتزاله هناك لسنوات قد أفاده في الخروج من أزمته النفسية التي كانت تجتاحه ذلك الاجتياح الكبير،

وهكذا فالصوفية لم تقدم له تلك الواحة الروحية ذات الينابيع الصافية الرقراقة فحسب، بل أسهمت بمثاليتها في تكوين منهجه العقلي ولقد كتب يقول عن الصوفية في جملة ما كتب: “إني علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة وأن سيرتهم أحسن السير[4] وطريقهم أصوب الطرق واخلاقهم أزكى الاخلاق بل لو جمع عقل العقلاء وحكمة الحكماء وعلم الواقفين على اسرار الشرع من العلماء ليغيروا شيئا من سيرهم وأخلاقهم ويبدلوه بما هو خير منه لم يجدو اليه سبيلا..

ما أكثر ما كان الغزالي يردد لنفسه سواء في أيام عزلته في منارة المسجد الاموي بدمشق أو في الزاوية التي أقامها في بلدة طوس ما كان يردده الصوفيون[5]

كثيرة كانت سفرات الغزالي ورحلاته إلى وجه ربه … وكما أن المسافر يمر بالعديد من الواحات أو المحطات قبل أن يصل إلى هدفه فالصوفي كذلك يمر بما يسمى” المقامات” وهو خلال سفره يتعرض لأعراض نفسية تعرف بالأحوال والمقامات الصوفية تبدأ بالمعرفة التي يكتسبها الصوفي عن طريق الذوق أو بواسطة نور يضعه الله في قلبه ثم يبدأ الشوق فالمجاهدة وقهر النفس.

ولقد عالج الغزالي المقامات الصوفية من أجل الوصول إلى الإيقاع الروحي عالجها في كتابه الذي أطلقه عليه “مشكاة الأنوار”، وتجدر الإشارة إلى أن الغزالي أثر على الصوفية والذي ظهر في كثرة الطرق الصوفية التي نشأت بعد وفاته وكانت أهم الطرق التي تأثرت به:

  • القادرية: التي قام بتاسيسها عبد القادر الجيلاني
  • الرفاعية والتي أسسها احمد الرفاعي
  • الشاذلية ومؤسسها أبو الحسن الشاذلي

   ولقد تأثر الشاذلي أبلغ التأثر بكل ما جاء في كتاب إحياء علوم الدين الذي ألفه الغزالي … وكل الطرق الصوفية تتجه بالنهاية الى السماء والى محاولة الذوبان في القيم الروحية الصافية وتتجه الى محاولة الخلاص من المتع القريبة والحسية وتصبح المتعة الكبرى هي الاقتراب من الله في عليائه[6].

1 2الصفحة التالية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق