تقريب نظم ابن عاشر شذرات من شرح العلامة الشيخ أبي عبد الله محمد بن قاسم جسوس على توحيد ابن عاشر(5)
قال العلامة الشيخ أبو عبد الله محمد بن قاسم جسوس شارحا لقول الناظم:
"مقدمة لكتاب الاعتقاد معينة على المراد..."
تنبيه؛ يفهم مما تقدم أن الحكم العقلي هو إدراك العقل الثبوت أو النفي من نفسه من غير توسط خارج عنه، وأن الحكم الشرعي هو إدراك العقل ذلك بواسطة الشرع، وأن الحكم العادي هو إدراكه ذلك بواسطة العادة، وأن هذا تقسيم صحيح لا يَرِد عليه ما تقدم على تفسير الشيخ الشرعيَّ بأنه خطاب الله إلخ تبعا لأهل أصول الفقه.
نعم رأيت بخط الشيخ سيدي العربي الفاسي في بعض تقاييده ما نصه: الحق أن الحكم المفسر بإثبات أمر أو نفيه الذي هو إدراك إنما هو عقلي فقط، وأن تقسيمه إنما هو بحسب سبب الإدراك، وهو غير منحصر في الشرع والعقل والعادة، والحكم حينئذ مقول بالتواطي على هذه الأقسام التي هي بحسب أسبابها. انتهـى.
تنبيه ثان؛ سيأتي إن شاء الله الكلام على الحكم الشرعي حيث تكلم عليه الناظم، وأما العادي فلم يتعرض له الناظم لعدم حاجته إلى ذكره، وقد تتشوف النفس إلى معرفته لتحصل المعرفة بجميع أقسام الحكم سيما وقد غلط قوم في الأحكام العادية فجعلوها من قبيل الأحكام العقلية، فتأكدت الحاجة إلى معرفتها. فأقول:
قال في المقدمات: "وأما الحكم العادي فهو إثبات الربط بين أمر وأمر وجودا أو عدما بواسطة التكرر، مع صحة التخلف وعدم تأثير أحدهما في الآخر البتة". قال في شرحها ما معناه: قولنا وجودا أو عدما راجع لكل واحد من الأمرين لا لأحدهما فقط، فلزم انقسام الربط إلى أربعة أقسام؛ من ضرب اثنين وهما: وجود أحد الأمرين وعدمه، في اثنين وهما: وجود الأمر الآخر وعدمه.
فربط وجود بوجود؛ كربط وجود الشبع بوجود الأكل.
وعدم بعدم؛ كربط عدم الشبع بعدم الأكل.
ووجود بعدم؛ كربط وجود الجوع بعدم الأكل.
وعدم بوجود؛ كربط عدم الجوع بوجود الأكل.
ونبهنا بقوله: "مع صحة التخلف" إلخ على أن الربط الذي حصل في الحكم العادي إنما هو ربطُ اقترانٍ ودلالةٍ جعلية، لا ربطُ لزومٍ عقلي، ولا ربطُ تأثيرٍ من أحدهما في الآخر. انتهـى.
فالحكم على النار بأنها محرقة معناه كما قال في شرح الصغرى: "إن الإحراق يقترن بمس النار في كثير من الأجسام لمشاهدة تكرر ذلك على الحس، وليس معنى هذا الحكم أن النار هي التي أثرت في احتراق ما مسته أو في تسخينه؛ إذ هذا المعنى لا دلالة للعادة عليه أصلا، وإنما غاية ما دلت عليه العادة الاقتران فقط بين الأمرين، أما تعيين فاعل ذلك فليس للعادة فيه مدخل، ولا منها يُتلقى علمُ ذلك، وقِس على هذا سائرَ الأحكام العادية ككون الطعام مشبعا والماء مرويا والشمس مضيئة والسكين قاطعة ونحو ذلك مما لا ينحصر، وإنما يُتلقى العلم بفاعل هذه الآثار المقارنة لهذه الأشياء من دليلَي العقل والنقل. وقد أطبق العقل والشرع على انفراد المولى جل وعز باختراع جميع الكائنات عموما، وأنه لا تأثير لكل ما سواه تعالى في أثر ما جملة وتفصيلا. وقد غلط قوم في تلك الأحكام العادية فجعلوها عقلية، وأسندوا وجود كل أثر منها لِما جرت العادة أنه يوجد معه إما بطبعه أو بقوة أُودِعت فيه، فأصبحوا قد باؤوا ببدعة شنيعة في أصول العقائد وشرك عظيم." انتهـى.
وإنما قال: في كثير من الأجسام؛ لأن الإحراق قد لا يقترن بمس النار في بعض الأجسام، وقد كان لبعض الملوك وزير حاذق ولبيب، فوقعت بينهما وحشة من غير سبب، فكتب إليه الوزير:
أَلْقِنِي في لظًى فإن غيّرَتني فتحقق أن لستُ بالياقوت
عرف النسجَ كلُّ من حاك لكن ليس داوود فيه كالعنكبوت
فكتب إليه الملك جوابا:
نسج داوود لم يفد صاحب الغ ار وكان الفخار للعنكبوت
وبــــقاء [السمند] في لهب النــــــــــــــا رِ يزيل فـضـيلة الياقــــــــــوت.
ويُفهم من هذه القضية أن اللائق بالأدب أن لا يَرى الإنسان لنفسه مزيةً يستحق بها شيئا، وأن المَلِك غني عنه، وأنه هو المحتاج إلى الملك، وقد أوضح هذا أيضا الإمام ابن العربي فقال: من شهد في الجمادات أنها تفعل بنفسها فهي شهادة زور؛ إذ لم يدرك ذلك بحواسه ولا حصل له العلم به ابتداء في نفسه، والذي شاهد بحواسه وبعينه أن شيئا إذا جاور النار احترق، فإذا شهد بأن شيئا إذا اتصل بالنار احترق كان هذا الكلام صدقا والشهادة حقا، وإذا قال النار أحرقته كان كذبا بحتا؛ لأن النار ليست بفاعلة، وإنما هي جماد، والجماد لا يصح منه فعل، فإن قال خلق الله فيها قوة تحرق بها قيل له هذه شهادة بما لم تر ولا سمعت؛ لأن القوة لا تُرى ولا تُسمع، ولا أخبر الله بها ولا رسوله، قف يا وقاف، وقل إن الله يخلق ما يشاء ويفعل ما يريد.