مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكتراث

تقريب نظم ابن عاشرشذرات من شرح العلامة الشيخ أبي عبد الله محمد بن قاسم جسوس على توحيد ابن عاشر:(1)

و”الفقه” لغةً: الفهم، واصطلاحا: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبُ من أدلتها التفصيلية، كذا في جمع الجوامع، وقال الشارح عند قوله: “مقدمة من الأصول”: “الفقه شرعا: معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد كالعلم بأن النية في الوضوء واجبة، ونحو ذلك من مسائل الخلاف، بخلاف ما ليس طريقه الاجتهاد كالعلم بأن الصلوات الخمس فريضة، وأن الزنى محرم، وكالعلم بالله وصفاته، ونحو ذلك من المسائل القطعية، فلا يسمى معرفة ذلك فقها؛ لأن معرفة ذلك يشترك فيها الخاص والعام، فالفقه بهذا التعريف لا يتناول إلا علم المجتهد.”[27] انتهى.

والأدلة التفصيلية نحو: ﴿أقيموا الصلاة﴾[28]، ﴿ولا تقربوا الزنى﴾[29]، ونحو ذلك، وخرج بالأحكام: العلمُ بالذوات والصفات كتصور الإنسان والبياض، وبالشرعية: العقلية كالواحد نصف الاثنين، والحسية كالنار مُحرقة، وبالعملية: العلمية الاعتقادية كالعلم بأن الله واحد وبأنه يُرى في الآخرة، وبالمُكتَسَب: علم الله وجبريل والنبي صلى الله عليه وسلم.

والإجمالية: أي غير المُعَيَّنَة كمطلق الأمر والنهي، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم، والإجماع، والقياس، والاستصحاب، المبحوث عن أولها[30] فإنه للوجوب حقيقة، والثاني[31] فإنه للحرمة كذلك، والبواقي فإنها حجج وغير ذلك مما ذكر في فن الأصول. قال الشارح: “والمراد بفقه مالك ما قاله مالك رضي الله عنه أو قاله أحد من أصحابه أو مَن بعدهم ممن يُوثق به مما كان جاريا على قواعده وضوابطه.”[32] انتهى. وليس المراد ما قاله مالك فقط. ففقه مصدرٌ بمعنى اسم المفعول؛ لأن المراد به المسائل الفرعية المتعلقة بكيفية عمل قلبي كالنية، أو بدني كالوضوء والغسل والصلاة ونحو ذلك من المسائل التي طريقها الاجتهاد.

واختار الناظم رحمه الله فقه مالك دون غيره من الأئمة المجتهدين وإن كان جميعهم على هدى من الله تعالى؛ لأن الناظم من أهل المغرب، ومالك متبوع أهل المغرب الذين لا يزالون ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله؛ لِمَا ورد به الحديث، وذكر الشيخ زروق نفعنا الله به أنه حديث صحيح، وقد حرر الكلام على ذلك صاحب التشوف، فإنه قال: “من تأول حديث مسلم: (لا يزال أهل الغرب ظاهرين حتى تقوم الساعة)[33] على أن الغرب الدلو وأن المراد أهل الدلو وهم الغرب، فيَبطُل بما رويناه من طريق بقي بن مخلد بسنده قال: حدثنا يحيى بن عبد المجيد، حدثنا هشيم، أخبرنا داوود بن أبي هند، عن أبي عثمان النهدي، عن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة أو يأتي أمر الله)[34]. وخرجه الدارقطني في فوائده بسنده إلى سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق في المغرب حتى تقوم الساعة)[35]. وذكره أبو ذر عبد بن أحمد الهروي[36] بسنده، ولفظُه: (لا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة)[37]. وقال الإمام الزاهد أبو بكر محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي[38] نزيل الإسكندرية في رسالته التي بعثها إلى السلطان بمراكش، بعد أن ذكر الحديث الذي خرجه مسلم: “وما أدري هل أرادكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أراد بذلك جملةَ أهل المغرب؛ لِمَا هم عليه من التمسك بالسنة والجماعة، وطهارتهم من البدع والإحداث في الدين، والاقتفاء لآثار من مضى من السلف الصالح رضي الله عنهم.”[39] انتهى.

على أن سيدنا الشيخ زروق محتسب أهل الظاهر والباطن، وإمام الطريقتين، ومفتي الفرقتين، قد صحح رواية أهل المغرب، وكفى به قدوةً وعمدةً؛ ولأن مالكا رضي الله عنه عالمُ المدينة، وإمامُ دار الهجرة في خير القرون، وقد صح في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة)[40]. قال سفيان بن عيينة: نرى أن المراد بهذا الحديث مالك بن أنس. قال القاضي عبد الوهاب: ولم يشتهر بعالم المدينة من الأئمة الأربعة غيرُه، فهم لا ينازعونه في هذه المزية[41]. ومن جرى له ذلك قبل مالك لم يَدُم له ولم يشتهر به شهرتَه.

ولأن مالكا جمع بين شرفي الفقه والحديث، ولذلك ملأ البخاري ومسلم صحيحيهما بالرواية عنه، ولم يقع للشافعي وأبي حنيفة ذكرٌ في الصحيحين على وجه الرواية عنهما، ولم يَرْوِ البخاري عن الإمام أحمد إلا في موضعين[42]، قيل: لأنه أدرك أشياخه فاكتفى بهم؛ ولأن مالكا إمامُ الأئمة وشيخهم. فأما أبو حنيفة فقد حكى غير واحد أنه لقي مالكا وأخذ عنه وإن كان أبو حنيفة أكبر سنا منه، وقد ألف الدارقطني كتابا جمع فيه الأحاديث التي رواها أبو حنيفة عن مالك، ولا غرابة في أخد الأكابر عن الأصاغر، فقد أخذ عنه مَن هو أكبر سنا من أبي حنيفة وأقدم كابن شهاب الزهري وربيعة وغيرهما، وما توفي حتى احتاج إليه من أشياخه مَن كان يحتاج هو إليه، قال مالك: “ما أحد ممن نقلت عنه هذا العلم إلا اضطر إلي حتى سألني عن أمر دينه”[43]. وأما الشافعي رضي الله عنه فقد قال: “مالك أستاذي، وعنه أخدت العلم، وهو الحجة بيني وبين الله تعالى، وما أحد أمن علي من مالك، وإذا ذكر العلماء فمالك النجم الثاقب”[44]. وقال ابن الأثير: كفى مالكا شرفا أن الشافعي تلميذُه، وكفى الشافعي شرفا أن مالكا شيخه. وأما الإمام أحمد فقد أخذ عن الشافعي، فهو من تلامذة مالك بواسطة.

قال النووي: “وقد اجتمعت طوائف العلماء على إمامة مالك وجلالته وعظيم سيادته وتبجيله وتوقيره والإذعان له في الحفظ والتثبت وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم”. انتهى. وقال البخاري: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما. واعتماده رضي الله عنه على الكتاب والسنة وعمل أهل المدينة، وهُم أعلمُ الناس بالناسخ والمنسوخ؛ إذ كانت الأحكام تتجدد الى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

أخد رحمه الله عليه عن تسعمائة شيخ؛ ثلاث مائة من التابعين، وستمائة من تابعي التابعين ممن اختاره وارتضاه لدينه وفقهه وتيقظه وقيامه بحق الرواية، ولازم ابنَ هرمز خمس عشرة سنة من الغدو إلى الزوال في علم قال مالك: لم أبثه لأحد من الناس[45].

وقام بمذهبه بعد وفاته جماعةٌ من أصحابه، أشهرُهم عبد الرحمن بن القاسم العتقي المصري، وأخذ عن ابن القاسم جماعة منهم سحنون مُؤلِّف المُدَوَّنة، واسمُه عبد السلام بن سعيد التنوخي. ولمالك رضي الله عنه تآليف كثيرةٌ عَدَّ الحطاب منها ثمانيةً من أفضلها كتاب الموطأ الذي لم يُسبق إلى مثله، وليس بعد القرآن أصح منه[46].

ومما نقله العلماء من كلامه رضي الله عنه أنه قال: “العلم نفور لا يأنس إلا بقلب تقي خاشع”[47]. وقال: “ينبغي للعالم إذا كان ممن يُشَار إليه بالأصابع أن يَضَعَ التُّرَاب على رأسه، ويعاتِب نفسه إذا خلا بها، ولا يفرح بالرياسة، فإنه إذا اضطجع في قبره وتوسَّد التراب ساءه ذلك كله”[48]. وقال: “عليك بمجالسة من يزيد في علمك قولُه، ويدعوك إلى الآخرة فعلُه، وإياك ومجالسة من يُضلك قوله، ويدعوك إلى الدنيا فعله”. وقال: “لا يَصلُح الرجل حتى يترك ما لا يَعنِيه ويشتغل بما يَعنيه، فإذا فعل ذلك يوشك أن يفتح الله له قلبَه”. وقال: “ما زهد أحد فيها إلا أنطقه الله بالحكمة”. وقال: “من صدق في حديثه مُتِّع بعقله، ولم يُصبه ما يُصيب الناس من الهرم والخرف”.

وهو مالك بن أنس- وكان فقيها- ابن مالك -وكان من كبار التابعين- وهو أحد الأربعة الذين حملوا عثمان رضي الله عنه إلى قبره ليلا وغسلوه ودفنوه، ابن أبي عامر الصحابي واسمه أنس، شهد المغازي كلها إلا بدرا، الأصبحي نسبة إلى ذي أصبح؛ بطن من حمير وهو من العرب، حلفه في قريش في تيم رهط أبي بكر رضي الله عنه. كان جده حالف[49] طلحة بن عبيد الله أحد العشرة رضي الله عن جميعهم، وهو تيمي[50]، والصحيح أنه من تابع التابعين. واختلف في ولادته من ثلاثة وتسعين إلى سبعة وتسعين، والمعروف أنه توفي تسع وسبعين ومائة، وقاله ابن عبد البر وغيره، وأشار إليه الإمام العلامة سيدي أحمد المقري بقوله:

قدر رمز الشيخ ابن غازي الماهر         وفاة مالك بقول ظـــــــــــــاهر

وذاك قعط غير أن لا تورية               فيه ولا إشارة لتعمية

فقلت لما أن رأيت ذلـــــك                  تاريخه قولك فاز مالك[51]

ودفن بالبقيع وقبره معروف فيه. ورثاه عثمان ابن كنانة بقوله:

ألا إن فقد العلم في فقد مالك           فلا زال فينا صالح الحال مالك

فلولاه ما قامت حقوق كثيرة            ولولاه لاشتدت علينا المسالك[52]

وفضائله وأحواله رضي الله عنه كثيرة، وانظر بعض وصاياه وتعظيمه لروايته الحديث وفتواه وهو ابن ثلاثة عشر سنة التي كانت سببا في نظر العلماء إليه بعين التعظيم، وسبب ضربه وتخلفه عن المسجد في آخر أمره، وغير ذلك فيما لنا من التقييد على خطبة الرسالة وعقيدتها.

الصفحة السابقة 1 2 3 4الصفحة التالية

د. إدريس غازي

• خريج دار الحديث الحسنية ـ الرباط.
• دكتوراه في الدراسات الإسلامية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس، في موضوع: "أصل ما جرى به العمل ونماذجه من فقه الأموال عند علماء المغرب".
• دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية، الرباط، في موضوع: "المنهجية الأصولية والاستدلال الحجاجي في المذهب المالكي".
من أعماله:
ـ الشاطبي بين الوعي بضيق البرهان واستشراف آفاق الحجاج.
ـ في الحاجة إلى تجديد المعرفة الأصولية.

الدكتور عبد الله معصر

• رئيس مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوك بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق