وحدة المملكة المغربية علم وعمرانغير مصنف

أبو المُطرِّف بن عَميرة

 

 

 

د. جمال بامي

مدير وحدة العلم والعمران بالمغرب

 

      ولد أبو المُطرِّف أحمد بن عَميرة المخزومي في شهر رمضان سنة 582هـ بجزيرة شَقْر القريبة من شاطبة بالأندلس.. وعَميرة بفتح العين، هكذا ضُبط اسمه لدى أكثر من ترجموا له، قدماء ومحدثين، ومنهم الدكتور محمد بن شريفة في كتابه القيم “أبو المُطرِّف أحمد بن عَميرة المخزومي، حياته وآثاره” (مطبعة الرسالة، 1966). وقد أجمع مترجموه على تحليته بالنسب المخزومي ومنهم معاصره وبلديُّه ابن الأبّار حيث يقول في كتابه “معجم أصحاب القاضي أبي علي الصدفي”: “وكان بجزيرة شَقْر بنو عَميرة المخزوميون بيت شيخنا القاضي الكاتب أبي المُطرِّف  أبقاه الله”..

      تنقل صاحبنا أبو المُطرِّف ما بين شَقْر وبلنسية وشاطبة ودانية ومرسية وغيرها بحثاً عن العلم والصلاح، ثم رجع إلى بلنسية التي استقر بها.

      قال صاحب “الاغتباط بتراجم أعلام الرباط” محمد بوجندار الرباطي (تحقيق أحمد بن عبد الكريم نجيب، مركز نجيبويه للمخطوطات وخدمة التراث، 2008) عن أحمد بن عَميرة المخزومي: “قاضي الرباط وأحد القضاة الرباطيين الذين أغفلتُ ذكرهم في كتابي “تعطير البِساط”، ترجمه صاحب “الإحاطة”، وصاحب “الجذوة”، وكلاهما صرحا بقضائه على الرباط، للرشيد أبي محمد بن أبي الوليد، ولأخيه أبي الحسن المعتضد بعد وفاة الرشيد”..

      من شيوخ أبي المُطرِّف بن عَميرة الأندلسيين: الشيخ أبو الخطاب أحمد بن واجب القيسي (537-614هـ)، والشيخ أبو الربيع سليمان بن موسى الكلاعي، صاحب كتاب “الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء” (ت 565هـ)، الذي أخذ عنه أيضاً المؤرخ الأديب ابن الأبّار الذي كان معاصراً لأبي المُطرِّف، وأخذ أبو المُطرِّف عن العلاّمة  أبو عبد الله محمد بن أيوب السَرَقُسطي (530-608هـ)، والشيخ أبو علي الشلوبين، وأجازه من المشارقة أبو الفتوح الحصري.

      ونستفيد من كتاب المؤرخ الأديب محمد بو جندار الرباطي في كتابه “الاغتباط بتراجم أعلام الرباط” أن  أبا المُطرِّف بن عَميرة روى عن أبي الخطاب بن واجب (ت 614هـ)، ترجمته في “الديباج المذهب” لابن فرحون ص 124، و”الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام” للسملالي 1/374)، وأبي عمر بن عات (فُقد سنة 609 هـ في معركة العِقاب التي انهزم فيها الموحدون بالأندلس، ولو يوجد حيا ولا ميتا)، وأبي محمد بن حوط الله القاضي مدرس أبناء المنصور الموحدي بمراكش (ت 612هـ، ترجمته في الديباج المذهب لابن فرحون، والإعلام للسّملالي)..

      روى عن الإمام أبي المُطرِّف بن عَميرة ابنه أبو القاسم، وأبو بكر بن الخطاب، وأبو إسحاق البلقيني الجعيد، والحسن طاهر بن علي الشقوري، وأبو عبد الله البزي، وحدث عنه أبو جعفر بن الزبير كما في “الاغتباط بتراجم أعلام الرباط” لمحمد بوجندار..

      تولى أبو المُطرِّف بن عَميرة قضاء أريولة وشاطبة بشرق الأندلس، كما استكتبه أمير بلنسية زيان بن سعد بن مردنيش أيام إمارته على بلنسية وخلال انتزاعه لمدينة مرسية من عميد علمائها الفقيه أبي بكر عزيز بن عبد الملك بن خطاب في رمضان سنة 636هـ، وكان الأخير من أبرز أساتذة أبي المُطرِّف  حيث انتفع به كثيراً قبل توليه ما تولى من رئاسة بلده مرسية (محمد بن معمر: قراءة في مخطوط تاريخ ميورقة لابن عَميرة المخزومي. مجلة التراث العربي، ع 98، 2005 ص: 249). ولما سقطت مدينة بلنسية في يد الإسبان سنة 636هـ، غادر أبو المُطرِّف الأندلس متجهاً إلى المغرب، وورد على الخليفة الموحدي عبد الواحد الرشيد بن أبي العلاء إدريس المأمون (630-640هـ)، وصحبه حين قفوله من مدينة سلا إلى حضرة مراكش وكان ذلك في سنة 637هـ.

      وكان عبد الواحد الرشيد قد منح الأندلسيين عام (637 هـ) حق اللجوء إلى المغرب حسب ظهير شريف حرره قاضي الرباط آنذاك أبو المُطرِّف   بن عَميرة المخزومي، ولعل ذلك كان  بسبب انضمام الإشبيليين إلى المولى الرشيد عام (635هـ) عندما حاول الأمير ابن هود اقتحام مصب أبي رقراق. وقد تخللت هذه الفترة أحداث جرفت بالأندلس بعد سقوط قرطبة عام (633 هـ) وبداية مضايقة سواحل الريف من طرف المراكب الإسبانية.. أحمد بن خالد الناصري: الاستقصا، ج 2، ص: 4).

      تقلد أبو المُطرِّف بن عَميرة قضاء مدينة هيلانة بعمل مراكش، ثم نقل إلى قضاء رباط الفتح وسلا إلى أن توفي الرشيد وخلفه أخوه الخليفة الموحدي أبو الحسن السعيد (640-646هـ)، فأقره عليه مدة ثم نصّبه قضاء مدينة مكناسة (مكناس الحالية). ولما بايع أهل مكناسة الأمير أبا زكريا الحفصي-أمير تونس-، كان القاضي أبو المُطرِّف هو من كتب نص البيعة في 20 ربيع الأول سنة 643هـ، وحين قام إليهم الخليفة السعيد بحنق عظيم بادروا بطلب العفو واعتذروا عما بدر منهم وبايعوه من جديد وكتب نص البيعة ابن عبدون في ذي الحجة من السنة المذكورة. ثم لما قتل الخليفة الموحدي السعيد في صفر 646هـ، اغتنم أبو المُطرِّف تلك الفترة ورحل من مكناسة قاصدا سبتة، وفي طريقه إليها سلبت منه ثروته في فتنة بني مرين، وقد كتب إلى الشيخ أبي الحسين الرعيني يعلمه بهذه الحادثة.. (محمد بن معمر، مرجع سابق، ص 249).

      ركب أبو المُطرِّف بن عميرة البحر من سبتة متوجهاً إلى محروسة تونس بعد ظهور بني مرين على مسرح الأحداث، ووصل إلى مدينة بجاية بالجزائر في شهر جمادى سنة 646هـ، ودخل على صاحبها الأمير أبي يحيى بن أبي زكريا الحفصي، وأقام بها حوالي سنتين يُعلِّم ويدرِّس، وكان الطلبة أثناء ذلك يقرؤون عليه “تنقيحات السَهرَوَردي”، وهي من مغلقات أصول الفقه ولا يتعرض لإقرائها إلا من له ذهن ثاقب.. ومن بجاية انتقل إلى تونس وتقلد قضاء قابس الذي طالت مدته به، ثم استدعاه الأمير الحفصي المستنصر بالله محمد بن أبي زكريا (647-675هـ)، وصار من خواص الحاضرين بمجلسه والمقربين إليه، وبقي بتونس إلى أن توفي بها  -رحمه الله- عام 685هـ.

       ترك أبو المُطرِّف بن عميرة مجموعة من المؤلفات في ميادين الأدب والتاريخ والفقه والأصول، فمن كتبه التاريخية “تاريخ ميورقة”، واختصار كتاب “ثورة المريدين” لابن صاحب الصلاة صاحب كتاب “المن بالإمامة”.

      ذكر الأستاذ  محمد بن معمر في مقاله: “قراءة في مخطوط تاريخ ميورقة” لابن عَميرة المخزومي. مجلة التراث العربي، ع 98،2005) أن “كتاب تاريخ ميورقة” هو أحد كتابين ألفهما ابن عَميرة المخزومي في ميدان التاريخ فعدّ من أجل ذلك في سلك المؤرخين، أما الكتاب الثاني فهو “اقتضاب ثورة المريدين”، كما يسميه ابن عبد الملك في “الذيل” وابن الخطيب في “الإحاطة”، وهو اختصار لكتاب “تاريخ ثورة المريدين” الذي ألفه أبو مروان عبد الملك بن محمد بن أحمد الباجي المشهور بابن صاحب الصلاة (ت 577هـ). والكتاب في حكم المفقود إذ لم نجد بعد ابن عبد الملك وابن الخطيب من نقل عنه أو أشار إليه، في حين نجد المَقَّري في “النفح” يشير إلى الأصل المختصر وهو ثورة المريدين ويذكره باسم تاريخ في الدولة الّلمتونية وينقل عنه. وأما تاريخ ميّورقة فلسنا نعرف بالضبط متى ألفه ابن عَميرة، ولكن الراجح أن التأليف تمّ مابين سنة 627هـ تاريخ سقوط الجزيرة وسنة 658هـ تاريخ وفاته”.‏

      من مؤلفات أبي المُطرِّف الفقهية كتاب علّق فيه على الإمام فخر الدين الرازي في كتابه “المعالم في أصول الفقه”، وقد اطلع عليه العلامة الغبريني صاحب “عنوان الدراية” ووصفه قائلاً: “وقد رأيت له تعليقاً على كتاب المعالم في أصول الفقه لا بأس به، وهو جواب لسؤال سائل، وهو مكمل لعشرة أبواب حسبما سأل السائل”. أما إنتاجه الأدبي فمنه : كتاب رد به على أحد معاصريه من المشارقة وهو كمال الدين بن عبد الكريم الزملكاني في كتابه “التبيان في علم البيان المطلع على إعجاز القرآن” سماه “كتاب التنبيهات على ما في التبيان من التمويهات”. وأما رسائله الديوانية والإخوانية النثرية والنظمية التي خاطب بها ملوك وأدباء عصره، فقد دونها العلامة محمد بن هانئ السبتي (ت 733هـ)، ورتبها في كتاب سماه “بغية المستطرف وغنية المتطرف من كلام إمام الكتابة ابن عَميرة أبي المُطرِّف”.

      قال ابن عبد الملك في “الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة” عن صاحبنا أبي المُطرِّف: “عَلَمُ الكتابة المشهور، وواحدها الذي عجزت عنه ثانيه الدهور، ولاسيما في مخاطبة الإخوان، هنالك استولى على أَمد الإحسان، وله المطولات المنتخبة، والقصار المقتضبة، وكان يملح كلامه نظماً ونثراً بالإشارة إلى التاريخ ويودعه إلماعات بالمسائل العلمية منوعة المقصد… وكان حسن الخَلق والخلق، جميل السعي للناس في أغراضهم، حسن المشاركة لهم في حوائجهم، متسرعاً إلى بذل مجهوده فيما أمكن من قضائها بنفسه وجاهه”. ويضيف صاحب “الذيل والتكملة” أن صاحبنا أبا المُطرِّف “كان متشبعاً بالعلوم القديمة متعاطياً لها”.. ووُصِف أبو المُطرِّف في كتاب “عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية” للعلامة الغبريني بأنه “الشيخ الفقيه، المجيد المجتهد، العالم الجليل الفاضل، المتقن المتفنن، أعلم العلماء، وتاج الأدباء، له أدب هو فيه فريد دهره، وسابق أهل عصره، وفاق الناس بلاغة، وأربى على من قبله”.

      وقال عنه لسان الدين بن الخطيب في “الإحاطة في أخبار غرناطة”: “وعلى الجملة فذات أبي المُطرِّف  فيما ينزع إليه ليست من ذوات الأمثال فقد كان نسيجَ وحدِه إدراكا وتفننا، بصيرا بالعلوم، محدثا مكثرا، راوية ثبتا، متبحرا في التاريخ والأخبار، ريان مطّلع بالأصلين، قائما على العربية واللغة، وكلامه كثير الحلاوة والطلاوة، جم العيون غزير المعاني والمحاسن، شفاف اللفظ حر المعنى، ثاني بديع الزمان في شكوى الحرفة وسوء الحظ، ورونق الكلام ولطف المأخذ، وتبريز النثر على النظم والقصور في السلطانيات..”.

      وقد أورد ابن الخطيب في “الإحاطة في أخبار غرناطة ” رسالة للمُطرف بن عَميرة أجاب بها العباس بن أمية بعدما أعلمه باستيلاء الروم على بلنسية، فقال: “بالله أي نحو تنحو أو مسطور تثبت أو تمحو وقد حذف الأصل والزائد، وذهبت الصلة والعائد، وباب التعجب طال، وحال اليأس لا تخشى انتقال، وذهبت علامة الرفع وفقدت نون الجمع والمعتل أعدى الصحيح، والمثلث أردى الفصيح وامتنعت الجموع من الصرف، وأمنت زوائدها من الحذف، ومالت قواعد الملة، وصرنا جمع القلة، وظهرت علامة الخفض، وجاء بدل الكل من البعض”.. وهذا يدخل كما لا يخفى في باب التورية..   

      ومن شعر أبي المُطرِّف بن عميرة ما افتتح به رسالة بقوله:

يـا غائبا سلبتنــي الأنــسَ غيبتُـــه        فكيـف صبــري وقـــد كابدتُ بينهمـا  

دعـــواي أنك فــي قلبـي فعَارضَهــا         شوقي إليـك فكيف الجمـع بينهمـا

      ومن شعره في المقطوعات التي وري فيها بالعلوم قوله:

قد عكفنـــا علــى الكتــابـة حينـــا        ثم جــاءت خطـة القضــــاء تليـهـــا

مــع كـــل لـــــم يـبــق للجــهد إلا        منــــزلا نـــائيــــا وعيشــــا كريهــا

نسبـــة بُدِّلـــت ولــــم تــتــغيـــــر        مثــــل مــــا يزعم المهندس فيهــا

 

      وابن عَميرة هو أحد كتاب الرسائل الإخوانية المبرزين، فله رسائل كثيرة في موضوع الإخوانيات.. وهذا مقتطف من رسالة كتبها ابن عَميرة إلى صديقه أبي عبد الله بن الجنان، يصف فيها أهوال رحلته إلى ألمرية، وكيف ضل الطريق، وفقد المركوب وأحدَ مرافقيه المسمى سحيم، بسبب هبوب رياح قوية: “ولا تسأل عن يوم كابدته، ورفيق ناكدني وناكدته، والسفر فيه الحلو والكريه، والرفقاء منهم الحليم والسفيه، ضللنا ولا هادي، ونادينا وقد ند من يسمع المنادي، حتى خفناها قضية، وخشينا أن تكون قارظية، وبعد العشاء الطويل اهتدينا إلى السبيل، وسرنا وقد قوي الطوى، ووهنت القوى، ووجدنا من تغير الهواء وجد آل عذرة بالهوى… ومن شديد ما لقينا ريح عاتية، عادية عادية، هبت من الجهة البحرية، وعصفت على القرب من ألمرية، فأثارت رمالا، أرتنا أهوالا، وملأت منا عيونا وسبالا، فيا لساعة أضاعت المكتوبة، ودلهت الحجرين: العقل والركوبة، وهناك ضاع منا سحيم، وحال دونه عجاج وغيم، وملنا بعد الشقة المتناهية إلى بعض المباني الواهية، فبتنا ندافع بكنه البرد، ونستنشق من خسائس حشه النسرين فالورد، ونباهي بخرابه إيوان كسرى أو يزدجرد” (أثبت الدكتور محمد بنشريفة هذه الرسالة في كتابه أبو المُطرِّف أحمد بن عَميرة المخزومي، حياته وآثاره. الرباط: مطبعة الرسالة، 1966م).‏

      ولا يخفى عمق وقوة الكتابة عند أبي المُطرِّف بن عَميرة، وخاصة فيما يخص “التجنيس” الذي يقوم على مبدأ التماثل الحرفي والصوتي بين الكلمات كما في قوله: “ونادينا وقد ند من يسمع المنادي”، وفي قوله: “ووجدنا من تغير الهواء وجد آل عذرة بالهوى”..

      أما تضمين الإشارات، وهو ما يعرف بـ “التّناص” فكان القصد منه أن يعرض الكاتب بضاعته المعرفية وفق السياق المناسب، مما يدل على سعة المعرفة والإطلاع، وقد أجاد ابن عَميرة صناعة التضمين كما في قوله: “وخشينا أن تكون قارظية”، وقد أشار هنا بكلمة قارظية إلى المثل العربي  الشهير الذي يقول: “حتى يؤوب القارظ”، وهذا المثل يضرب في الذي يذهب دون رجعة. وأصله أن رجلا من قبيلة عنزة خرج يطلب القرظ: وهو ورق السلم يدبغ به، فلم يعد، فضرب به المثل (انظر كتاب “المعارف” لابن قتيبة الدينوري، و”لسان العرب” لابن منظور، والأصل فيها حتى “يؤوب القارظان”؛ لأن نفس المسألة وقعت لشخصين..). والتضمين من “صناعات المعنى” التي تتطلب من القارئ حسن الإطلاع حتى يتمكن من إدراك أبعاد المعاني الكامنة وراء التضمينات والإشارات.

      وأرى أن هذا الجانب من فكر العلامة أبي المُطرِّف بن عميرة جدير بالدرس والتحليل خصوصا فيما يتعلق بالمنهج في دراسة النصوص من أجل استخلاص المعاني والرموز والاقتراب من البنيات الثقافية التي تأطَّر ضمنها الإنتاج الأدبي، وهذا مبحث بالغ الأهمية في حقلي الدراسات اللغوية والأنثربولوجية…

والله الموفق للخير والمعين عليه..

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق