مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

وقفات مع حديث: “من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين”.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحابته أجمعين.

وبعد؛

فإن العلم أفضل الأعمال، والتفقه في الدين أساس كل كمال، فعن طريقه  يعرف المسلم أحكام الشريعة الإسلامية، ويلتزم بطاعة  الله، ويجتنب معاصيه، وقد وردت نصوص كثيرة في الحث على التفقه في الدين  منها هذا  الحديث الذي اخترته لأستخرج منه بعض الفوائد. وقد اعتمدت في ذلك رواية الإمام البخاري رضي الله عنه، قال رسول صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله»[1].

يستفاد من هذا الحديث مجموعة من الفوائد وهي كالآتي:

*  الحث على طلب العلم والتفقه في الدين،  قال الإمام النووي: “فيه فضيلة العلم، والتفقه في الدين، والحث عليه، وسببه: أنه قائد إلى تقوى الله تعالى”[2].

* فضل العلماء على سائر الناس، قال ابن بطال: ” فيه فضل العلماء على سائر الناس”[3].

 * فضل الفقه  في الدين على باقي العلوم، قال ابن بطال: “وفيه فضل الفقه في الدين على سائر العلوم، وإنما ثبت فضله؛ لأنه يقود إلى خشية الله، والتزام طاعته، وتجنب معاصيه ، قال الله تعالى : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء)[4].

وقال ابن عمر رضي الله عنه ـ للذي قال له : فقيه ـ : إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة . ولمعرفة العلماء بما وعد الله به الطائعين، وأوعد العاصين، ولعظيم نعم الله على عباده اشتدت خشيتهم “[5]

* قوله صلى الله عليه وسلم: “خيرا” جاءت نكرة ليشمل قليل العلم وكثيره، والتنكير للتعظيم، قال الحافظ ابن حجر: “ونكر خيرا ليشمل القليل والكثير والتنكير للتعظيم؛ لأن المقام يقتضيه”[6]  

* أن التفقه في الدين علامة على حسن الخاتمة، قال عبد الرؤوف المناوي: “وفيه كالذي قبله شرف العلم، وفضل العلماء، وأن التفقه في الدين علامة حسن الخاتمة”[7]

*أن التفقه في الدين يقتضي إرادة الله تعالى الخير لعباده، قال الباجي: “إن الفقه في الدين يقتضي إرادة الله سبحانه وتعالى الخير لعبيده، وأن من أراد الله به الخير فقهه في دينه، والخير والله أعلم دخول الجنة، والسلامة من النار قال الله عز وجل: (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) [8][9]

*  أن المراد بالدين في الحديث الإسلام قال التوزري: “وفي هذا الحديث من الفقه أن الله سبحانه وتعالى قال: (إن الدين عند الله الاسلام) [10] ، وكون المراد بالدين هاهنا الاسلام بدليل حديث: “بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله الا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا”، فالفقه في الدين هو الفقه بهذه الخمس، وذلك هي عبادة محضة، وهي تكملة إسلام المؤمن، وما يتفرع منها حاوية شاملة لما تقررت فيه المذاهب أصولا وفروعا”[11]

*يفهم من هذا الحديث أن من لم يتفقه في الدين، ويتعلم أحكامه حرم من الخير الكثير، قال الحافظ ابن حجر:”ومفهوم الحديث أن من لم يتفقه في الدين أي: يتعلم قواعد الإسلام، وما يتصل بها من الفروع فقد حرم الخير، قد أخرج أبو يعلى حديث معاوية من وجه آخر ضعيف وزاد في آخره “ومن لم يتفقه في الدين لم يبال الله به”، والمعنى صحيح؛ لأن من لم يعرف أمور دينه لا يكون فقيها ولا طالب فقه، فيصح أن يوصف بأنه ما أريد به الخير، وفي ذلك بيان ظاهر لفضل العلماء على سائر الناس، ولفضل التفقه في الدين على سائر العلوم”[12].

*أن المعطي على الحقيقة هو الله عز وجل، وقد جُعل الإنسان سبباً في وصول هذه النعمة؛ ولكن حقيقة الإعطاء هي من الله عز وجل، وهذا وإن كان معطياً إلا أن الله تعالى هو الذي جعله معطياً، وهو الذي جعله سبباً في وصول ذلك الخير إلى الغير. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إنما أنا قاسم والله يعطي” فيه إشارة إلى هذه الأيدي الثلاث؛ لأن الله تعالى هو المعطي، والنبي صلى الله عليه وسلم هو القاسم، فيعطي كما أمره الله وأرشده، والمعطى هو السائل، أو الذي يعطى من غير سؤال[13].

* فيه تفويض الأمور إلى الله تعالى، وأن جميعها بمشيئته وقدرته، قال القاضي عياض: “فيه تفويض الأمور إلى الله تعالى، وكون جميعها بمشيئته وقدرته، والتسريح بأن الإنسان مصرف مسخر بحكمه، لا إله غيره، وأنه ـ عليه السلام ـ لم يستأثر بشيء  من الدنيا، وإنما تصرفه فيها لمصلحة عباده، وأمر ربه لا لنفسه ولا لحوله وقوته”[14].

* معنى قوله صلى الله عليه وسلم: “أنا قاسم” أقسم العلم بينكم، فألقي إلى كل واحد ما يليق به والله سبحانه وتعالى يوفق من يشاء منكم لفهمه والتفكر في معناه، والعمل بمقتضاه[15].

* معنى قوله صلى الله عليه وسلم: “والله يُعطي” أي: كلَّ واحد منكم من الفهم على قدر ما تعلقت به إرادته تعالى، فالتفاوت في أفهامكم منه سبحانه. وقد كان بعض الصحابة يسمع الحديث، فلا يفهم منه إلا الظاهر الجليّ، ويسمعه آخر منهم، أو من القرن الذي يليهم، أو ممن أتى بعدهم، فيستنبط منه مسائل كثيرة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وهذا على أن المراد القَسْم في تبليغ الوحي، ويحتمل أن يكون المراد القَسْم للمال”[16]

قال شهاب الدين التُّورِبِشْتِي:  “أشار النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله: “وإنما أنا قاسم” إلى ما يلقى إليهم من العلم والحكمة، وبقوله: “والله يعطي” إلى الفهم الذي يهتدي به إلى خفيات العلوم في كلمات الكتاب والسنة؛ وذلك أنه لما ذكر الفقه في الدين، وما فيه من الخير، أعلمهم أنه لم يفضل في قسمة ما أوحي إليه أحدا من أمته على آخر؛ بل سوى في البلاغ، وعدل في القسمة؛ وإنما التفاوت في الفهم، وهو واقع من طريق العطاء… “[17].

*  أن بعض هذه  الأمة يبقى على الحق، قائما على العلم والعمل به إلى قيام يوم القيامة،  قال السندي: “وقوله: (ولن تزال) الخ ظاهر الحديث يفيد: أن المراد قيامهم على العلم والعمل به لا الجهاد فقط. والله تعالى أعلم”[18].

وأختم بقول الحافظ ابن حجر:  “إن هذا الحديث مشتمل على ثلاثة أحكام أحدها: فضل التفقه في الدين، وثانيها: أن المعطي في الحقيقة هو الله، وثالثها أن بعض هذه الأمة يبقى على الحق أبدا”[19].

***********************

هوامش المقال:

[1]  أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، رقم: 71، (1 /25).

[2]  شرح النووي على مسلم (7 /128).

[3]  شرح صحيح البخاري (7 /128).

[4]   فاطر : 28

[5]   شرح البخاري (1 /154).

[6]   فتح الباري 1 /165.

[7]   التيسير بشرح الجامع الصغير (2 /868).

[8]   آل عمران : 85.

[9]   المنتقى (7 /279).

[10]   آل عمران : 19.

[11]   توضيح الأحكام شرح تحفة الحكام (1 /6).

 [12]   فتح الباري  (1 /65).

 [13]   شرح سنن أبي داود (9 /83).

 [14]   إكمال المعلم بفوائد مسلم (3 /571).

 [15]   تحفة الأبرار(1 /147).

 [16]   كوثر المعاني (3 /167).

 [17]   الميسر في شرح مصابيح السنة(1 /97)

 [18]   حاشية السندي على صحيح البخاري (1 /36).

 [19]   فتح الباري (1 /164).

*******************

المصادر والمراجع:

إكمال المعلم بفوائد مسلم لعياض بن موسى بن عياض بن عمرون اليحصبي السبتي، أبي الفضل، تحقيق: الدكتور يحْيَى إِسْمَاعِيل، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، مصر،ط1، 1419 هـ – 1998 م.

تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة،  لناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي، تحقيق: لجنة مختصة بإشراف نور الدين طالب، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، 1433 هـ ـ 2012م.

  توضيح الأحكام شرح تحفة الحكام، لعثمان بن المكي التوزري الزبيدي، المطبعة التونسية، ط1، 1339 هـ.

التيسير بشرح الجامع الصغير، لزين الدين عبد الرؤوف المناوي، دار النشر ـ مكتبة الإمام الشافعي – الرياض – 1408هـ – 1988م، ط3.

حاشية السندى على صحيح البخارى، لمحمد بن عبد الهادي السندي المدني، الحنفي ، أبي الحسن، دار الفكر.

شرح صحيح البخارى ـ لأبي الحسن علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال البكري القرطبي، تحقيق : أبي تميم ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد – 1423هـ – 2003م، ط2.

صحيح البخاري، لمحمد بن إسماعيل أبي عبدالله البخاري الجعفي، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)،ط1، 1422هـ.

فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأحمد بن علي بن حجر أبي الفضل العسقلاني الشافعي، دار المعرفة ـ بيروت ، 1379.

كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري، لمحمد الخَضِر بن سيد عبد الله بن أحمد الجكني الشنقيطي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1415 هـ – 1995 م.

المنتقى شرح موطأ مالك لأبي الوليد سليمان بن خلف بن سعيد بن أيوب الباجي،  تحقيق:  محمد عبد القادر أحمد عطا، دار الكتب العلمية.

المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، لأبي زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، ط2، 1392.

الميسر في شرح مصابيح السنة، لفضل الله بن حسن بن حسين بن يوسف أبي عبد الله، شهاب الدين التُّورِبِشْتِي، تحقيق: عبد الحميد هنداوي، مكتبة نزار مصطفى الباز، ط2،  1429 هـ – 2008 هـ.

*راجع المقال الباحث: محمد إليولو

Science

عبد الفتاح مغفور

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق