مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

وقفات مع حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له ـ أو لآخر ـ: “أصمت من سرر شعبان؟” قال: لا، قال: “فإذا أفطرت، فصم يومين”.

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحابته أجمعين.

وبعد؛

فإن حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له ـ أو لآخر ـ: أصمت من سرر شعبان؟ قال: لا، قال: فإذا أفطرت، فصم يومين.

يتضمن هذا الحديث معاني ومقاصد شرعية عظيمة، ودرر وفوائد قيمة، وهو من الأحاديث المشكلة، ولهذا اخترت الوقوف على بعض مستفاداته ومقاصده من خلال شروح الحديث وفق ما يلي:

ـ أولا: تخريج الحديث:

رواه: البخاري في صحيحه؛ كتاب: الصوم، باب: الصوم من آخر الشهر، رقم الحديث: 1983، ومسلم في صحيحه، واللفظ له؛ كتاب: الصيام، باب: صوم سرر شعبان، رقم الحديث: 1161 [1] .

ـ  ثانيا: الوقوف على بعض المستفادات من الحديث.

هذا الحديث فيه من الفقه والمعاني ما يلي:

* بيان المقصد من سرر شهر  شعبان، قال أبو العباس القرطبي: “المعروف عند اللغويين وغيرهم: أن سرار الشهر: آخره. يقال: سَرَاره، وسَرَرُه، وسره وهو حين يستسرُّ الهلال”[2]، وقال القاضي عياض: “والأظهر في تفسير سرار الشهر: أنه آخره، بدليل قوله ـ عليه السلام ـ : ” فإذا أفطرت من رمضان فصم يوما أو يومين “، والشهر المشار إليه هو شعبان، كذا جاء مفسرا في الأم، وغيرها، وإن كان وقع في البخاري فيه: أنه رمضان، فهو وهم بين من راويه، فإن صوم رمضان كله مستحقٌ لا يختص بسرره دون غيره، وإن كان السرر أول شعبان أو وسطه، لم يفته قضاؤها في بقيته، ولم يحتج أن ينتظر تمام صيام رمضان، فالأظهر أنها آخر أيامه، على ما قال أبو عُبيد وأكثرهم، وإن كان يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك في انسلاخه أو بعد تمامه، لاسيما على رواية: ” أصمت من سرر شعبان شيئا؟” وقول مسلم في آخر حديث ابن مثنى، وابن بشارٍ، وفى هذا الحديث من رواية شعبة”[3]، وقال المظهري: “السرر والسرار بفتح السين وكسرها: ليلتان من آخر الشهر، يعني: إذا أفطرت اليومين الأخيرين من شعبان فاقض مكانهما يومين، قيل: كان عليه صوم يوم الأخيرين من شعبان، فأمره رسول الله ـ عليه السلام ـ بقضائها إذا فاتا، على هذا الوجه فسره أصحاب الحديث، سمي اليومان الأخيران من الشهر سررا وسرارا؛ لاستتار القمر في ليلتهما”[4].

* استحباب قضاء ما فات من التطوع بالصيام،  قال ابن رجب الحنبلي: “فيه دليل على استحباب قضاء ما فات من التطوع بالصيام، وأن يكون في أيام مشابهة للأيام التي فات فيها الصيام في الفضل”[5].

*  جواز لمن صام شعبان أو أكثره أن يصله برمضان، قال ابن رجب الحنبلي: “فيه دليل على أنه يجوز لمن صام شعبان أو أكثره أن يصله برمضان من غير فصل بينهما”[6] .

* التطوع بالصيام فيه مزية يختص بها عن غيره من الشهور قال القرطبي: “حمل على ملازمة عادة الخير حتى لا تقطع، وحض على ألا يمضي على المكلف مثل شعبان فلم يصم منه شيئا، فلما فاته صومه، أمره أن يصوم من شوال يومين ليحصل له أجر من الجنس الذي فوته على نفسه. قلت: ويظهر لي: أنه إنما أمره بصوم يومين للمزية التي يختص بها شعبان، فلا بعد في أن يقال: إن صوم يوم منه كصوم يومين في غيره. ويشهد لهذا: أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يصوم منه أكثر مما كان يصوم من غيره، اغتناما لمزية فضيلته”[7].

* حمل بعض العلماء الحديث على أن المخاطب نذر صوما أو اعتاد صيام سرر الشهور فأمر بالقضاء بعد عيد الفطر ، قال العلامة البيضاوي:  “وحمل الحديث على أنه ـ عليه السلام ـ علم أن المخاطب نذر صومه، أو اعتاد صيام سرر الشهور، فأمر بالقضاء بعد عيد الفطر، وخص النهي فيما روى أبو هريرة: أنه ـ عليه السلام ـ قال:” لا تقدموا شهر رمضان بصيام يوم أو يومين ” بمن يبتديء به من غير إيجاب ولا اعتياد، توفيقا بينهما”[8]، وقال محمد الإثيوبي: “عندي الأحسن أن الصوم بعد نصف شعبان منهيّ عنه؛ لحديث العلاء بن عبد الرحمن المذكور، وهو صحيح، ويشتدّ النهي في التقدّم بيوم، أو يومين، وأما حديث عمران ـ رضي الله عنه ـ ، فلا يدخل في النهي؛ لأنه قاله لرجل اعتاد الصوم، فلما سمع النهي عن التقدّم ترك عادته فأمره النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن يصوم مكان صومه الذي تركه، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب”[9].

* سؤال النبي صلى الله عليه وسلم فيه زجر وإنكار،  قال الخطابي: “كان بعض أهل العلم يقول في هذا: إن سؤاله زجر وإنكار؛ لأنه قد نهى أن يستقبل الشهر بصوم يوم أو يومين. قال: ويشبه أن يكون هذا الرجل قد أوجبه على نفسه بنذرة،  فلذلك قال له في سياق الحديث: “إذا أفطرت ـ يعني من رمضان ـ فصم يومين” فاستحب له الوفاء بهم”[10].

وأختم هذا المقال بكلام ابن رجب الحنبلي في صيام آخر شعبان: ” فصيام آخر شعبان له ثلاثة أحوال:

 أحدها : أن يصوم بنية الرمضانية احتياطا لرمضان، فهذا منهي عنه وقد فعله بعض الصحابة وكأنهم لم يبلغهم النهي عنه، وفرق ابن عمر بين يوم الغيم والصحو في يوم الثلاثين من شعبان و تبعه الإمام أحمد.

 والثاني: أن يصام بنية الندب أو قضاء عن رمضان أو عن كفارة ونحو ذلك فجوزه الجمهور، ونهى عنه من أمر بالفصل بين شعبان ورمضان بفطر يوم مطلقا وهم طائفة من السلف وحكي كراهته أيضا عن أبي حنيفة و الشافعي و فيه نظر.

 و الثالث: أن يصام بنية التطوع المطلق فكرهه من أمر بالفصل بين شعبان ورمضان بالفطر منهم الحسن وإن وافق صوما كان يصومه ورخص فيه مالك و من وافقه، وفرق الشافعي، والأوزاعي، وأحمد، وغيرهم بين أن يوافق عادة أو لا، وكذلك يفرق بين صيامه بأكثر من يومين و وصله برمضان، فلا يكره أيضا إلا عند من كره الابتداء بالتطوع بالصيام بعد نصف شعبان، فإنه ينهى عنه إلا أن يبتدىء الصيام قبل النصف، ثم يصله برمضان.

 وبالجملة فحديث أبي هريرة هو المعمول به في هذا الباب عند كثير من العلماء و أنه يكره التقدم قبل رمضان بالتطوع بالصيام بيوم أو يومين لمن ليس له به عادة، و لا سبق منه صيام قبل ذلك في شعبان متصلا بآخره”[11] .

********************

هوامش المقال:

[1]  صحيح البخاري (3 /41)، صحيح مسلم (2 /820).

[2]  المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم(3/ 234).

[3]  إكمال المعلم(4/ 137).

[4]  المفاتيح في شرح المصابيح (3 /37).

[5]  لطائف المعارف(ص: 272ـ 273).

[6]  لطائف المعارف(ص: 273).

[7]  المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم(3/ 235).

[8]  تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة(1 /505).

[9]   البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج(20 /422).

[10]   كتاب معالم السنن(2 /96)، نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار(8/ 464).

[11]  لطائف المعارف(ص: 273).

****************

جريدة المصادر والمراجع:

إكمال المعلم  بفوائد مسلم لعياض بن موسى بن عياض بن عمرون اليحصبي السبتي، أبي الفضل تحقيق: يحيى إسماعيل  دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، مصر،ط1، 1419 هـ ـ 1998م.

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج لمحمد بن علي بن آدم بن موسى الإثيوبي دار ابن الجوزي، ط1، 1426هـ ـ1436م.  

تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة لناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي: تحقيق اللجنة المختصة بإشراف نور الدين طالب، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، 1433 هـ ـ 2012م.

الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه،لمحمد بن إسماعيل أبي عبد الله البخاري الجعفي،تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، بيروت-لبنان، دار المنهاج، جدة-السعودية، ط1، 1422، مصورة عن الطبعة الكبرى الأميرية، بولاق- مصر، 1311.

لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، لزين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، تحقيق: ياسين محمد السواس، دار ابن كثير دمشق بيروت، ط5، 1420هـ ـ 1999م.

المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لمسلم بن الحجاج أبي الحسن القشيري النيسابوري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.

معالم السنن لأبي سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي الخطابي المطبعة العلمية ـ حلب، ط1، 1351 هـ ـ 1932 م

المفاتيح في شرح المصابيح، للحسين بن محمود بن الحسن، مظهر الدين المُظْهِري تحقيق: لجنة مختصة من المحققين بإشراف: نور الدين طالب، دار النوادر، وهو من إصدارات إدارة الثقافة الإسلامية – وزارة الأوقاف الكويتية،ط1، 1433 هـ ـ 2012 م.

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم،  لأبي العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي تحقيق: محيي الدين ديب ميستو ـ أحمد محمد السيد ـ يوسف علي بديوي ـ محمود إبراهيم بزال، دار ابن كثير، دمشق ـ بيروت، ودار الكلم الطيب، دمشق ـ بيروت،ط1، 1417 هـ ـ 1996 م

نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار، لأبي محمد محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين الغيتابي الحنفي بدر الدين العيني، تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ـ قطر، ط1، 1429 هـ ـ 2008م.

*راجع المقال الباحث: يوسف أزهار

Science

عبد الفتاح مغفور

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق