وحدة الإحياءدراسات محكمة

الوقف في القرآن الكريم

إن القراءة المعتبرة في المغرب الأقصى منذ صدر المائة الأولى من الهجرة هي قراءة أبي رويم نافع، اختارها المغاربة قراءة لهم، لأنها سنة أهل المدينة كما قال مالك رضي الله عنه: فمن هو نافع؟

هو أبو ريم نافع بن عبد الرحمان بن أبي نعيم المدني أحد القراء السبعة، ثقة صالح، ولد رضي الله عنه سنة سبعين، أصله من أصبهان، وهو من الطبقة الثالثة بعد الصحابة، وكان حسن الخلق وسيم الوجه.

كان رضي الله عنه إمام المدينة في عصره، عالما بوجوه القراءات، متبعا لآثار الأئمة الماضين، وكان إذا تكلم يشم فيه رائحة المسك وإلى ذلك أشار الإمام الشاطبي (ت 590هـ) في الحرز بقوله: (فأما الكريم السر في الطيب نافع)[1].

تلقى القراءة عن جماعة من تابعي أهل المدينة منهم: أبو جعفر، وشيبة بن نصاح، ومسلم بن جندب، ويزيد بن رومان، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وعبد الرحمان بن هرمز الأعرج، وقرأ أبو جعفر على مولاه، وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي وعلى أبي هريرة، وقرأ هؤلاء الثلاثة على أبي بن كعب، وقرأ أبو هريرة وابن عباس أيضا على يزيد بن ثابت، وقرأ يزيد وأبي على رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

من خلال هذا السند المتصل بالرسول الأكرم، يتبين جليا أن قراءة نافع قراءة متواترة.

توفي رحمه الله تعالى بالمدينة سنة تسع أو سبع وستين ومائة[2].

وبعد،

فإن من يتجول في روض من رياض القرآن العظيم، يجد بحق أنه الكتاب الوحيد الذي حفظ من التحريف والتزوير مصداقا لرب العالمين، وهو أصدق القائلين: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9].

فإذا كانت الحكمة الربانية قد خصت الكتاب المبين بهذه العناية، فكيف لنا معشر المسلمين التخلي عنه، والخوض في أمور تافهة، لا تستند إلى أسس وقواعد متينة؟

لا غرو أن المتأمل للنص القرآني يجد أنه أفرز مجموعة من العلوم القرآنية، ولا أدل على ذلك من الوقف في القرآن الكريم، وهو جانب مهم في أداء تلاوة القرآن، وهو يوضح أيضا المواضع التي يجب أن يقف القارئ عليها بما يتفق مع وجوه التفسير، واستقامة المعنى.

فما المقصود يا ترى بهذا العلم الشريف الذي أضحى اليوم من العلوم الواجبة التعلم على كل فرد مسلم؟ انطلاقا من قول الرسول الأكرم عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: ” خيركم من تعلم القرآن وعلمه”[3].

أولا: معنى الوقف لغة واصطلاحا

الوقف مصدر لوقف كالوقف، والوقف الكف عن الفعل والقول[4]. وفي اصطلاح القراء: عبارة عن قطع الصوت على الكلمة زمنا يتنفس فيه عادة بنية استئناف القراءة إما بما يلي الحرف الموقوف عليه أو بما قبله[5].

وعرفه الإمام الزركشي بقوله: “وهو فن جليل، وبه يعرف كيف أداء القرآن، ويترتب على ذلك فوائد كثيرة، واستنباطات غزيرة، وبه نتبين معاني الآيات، ويؤمن الاحتراز عن الوقوع في المشكلات”[6].

من خلال هذا التعريف يتضح أن القراءة بالوقف على المواضع التي نص عليها القراء لإتمام المعاني، والابتداء بمواضع محددة لا تختل فيها المعاني.

وهذا الفن معرفته تحتاج إلى علوم كثيرة، به يعرف كيف أداء القراءة السليمة، ولا يتأتى لأحد معرفة معاني القرآن، ولا استنباط الأدلة الشرعية إلا بمعرفة الفواصل[7]، ولا يقوم بهذا الفن إلا نحوي عالم بالقراءات، عالم بالتفسير والفقه، عالم باللغة التي نزل بها القرآن.

والوقف يأتي على ثلاثة أنواع: وقف القراء، وقف الفقهاء، ووقف للنحويين[8] والذي يهمنا هنا، هو النوع الأول.

وردت مادة الوقف في القرآن الكريم في أربعة مواضع:

قوله تعالى: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾ [الصافات: 24].

وقوله عز وجل: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ﴾ [الأنعام: 27].

وكذلك قوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ﴾ [الأنعام: 30].

وأيضا قوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [سبأ: 31].

ثانيا: علاقة الوقف بعلم التجويد

منذ أربعة عشر قرنا من الزمان، والمسلمون يهتمون بالقرآن الكريم وبعلومه، نذكر على الخصوص “علم التجويد” الذي تناقلته الأجيال الإسلامية جيلا بعد جيل، باعتباره من أهم العلوم القرآنية التي واكبت علم القراءات القرآنية منذ البدايات الأولى لنزول القرآن الكريم على خاتم الأنبياء، ويكتسي هذا العلم أهمية كبرى لما له من علاقة وثيقة بالوقف، تتمثل في كيفية النطق أو التلفظ بألفاظ القرآن العظيم تبعا للصورة الأولى التي تلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم من معلمه الأول، جبريل عليه السلام عن رب العالمين.

فما معنى التجويد لغة واصطلاحا؟

التجويد في اللغة: هو مصدر جود تجويدا: إذا أتى بالقراءة مجودة الألفاظ بريئة من الجور في النطق بها، ومعناه: انتهاء الغاية في إتقانه، وبلوغ النهاية في تحسينه، ولهذا يقال: جود فلان في كذا: إذا فعل ذلك جيدا والاسم منه الجودة[9].

وفي اصطلاح القراء: تلاوة القرآن بإعطاء كل حرف حقه من مخرجه وصفته اللازمة له من همس، وجهر، وشدة ورخاوة ونحوها: وإعطاء كل حرف مستحقه مما يشاء من الصفات المذكورة، كترقيق المستفل، وتفخيم المستعلي، ونحوهما، ورد كل حرف إلى أصله من غير تكلف[10].

فالتجويد إذن هو حلية التلاوة وزينة القراءة، وإعطاء الحروف حقوقها وترتيبها مرتبها، ورد الحرف إلى مخرجه وأصله، وإلحاقه بنظيره وتصحيح لفظه وتلطيف النطق به على حال صيغته، وكمال هيئته، من غير إسراف ولا تعسف ولا إفراط ولا تكلف[11].

إن الهدف الأسمى من التجويد هو إتقان قراءة القرآن بالنطق بحروفه (الألفاظ) مكتملة الأحكام والصفات ومحققة المخارج، بمعنى حفظ اللسان من الخطأ في التلاوة، ولا يكتمل الإتقان إلا بالممارسة والتمرين وبرياضة اللسان على صحج النطق وإلى هذا أشار أبو عمرو الداني (ت 444 هـ) بقوله: “وليس بين التجويد وتركه إلا رياضة لمن تدبره بفكه”[12].

فلقد صدق وبصر، وأوجز في القول ما قصر، فليس التجويد بتمضيغ اللسان، ولا بتقعير الفم، ولا بتعويج الفك، ولا بترعيد الصوت، ولا بتمطيط الشد، ولا بتقطيع المد، ولا بتطنين الغنات، ولا بحصرمة الراآت، قراءة تنفر عنها الطباع، وتمجها القلوب والأسماع، بل القراءة السهلة العذبة الحلوة اللطيفة، التي لا مضغ فيها ولا لوك، ولا تعسف ولا تكلف، ولا تصنع ولا تنطع، ولا تخرج عن طباع العرب وكلام الفصحاء بوجه من وجوه القراءات والأداء[13].

وطريقة الأخذ من أفواه المشايخ العارفين بطريق أداء القرآن بعد معرفة ما يحتاج إليه القارئ من مخارج الحروف وصفاتها، والوقف والابتداء والرسم.

وذهب جمع غفير من العلماء إلى وجوب تعلم (علم التجويد) ومنهم الإمام المحقق ابن الجزري القائل في منظومته:

الأخذ بالتجويــــد حتــــم لازم         من لـــم يجـــود القرآن آثـــم[14]

وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها، وقام بآية يرددها حتى الصباح.

وذكر الإمام الزهري أن قراءة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كانت آية آية، هذا هو الأفضل: الوقوف على رؤوس الآيات وإن تعلقت بما بعدها، وإتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته أولى[15].

إذن إن القراءة العامة تقرر أن الوقف والابتداء من حيث النطق بهما من صميم علم التجويد الذي يجب مراعاته شرعا وأداء، وأن العرب لا تبتدئ بساكن ولا تقف على متحرك(*)، ومع ذلك فإنهم اخترقوا هذه القواعد، وأصبحوا يرتكبون بدعة الوقوف على متحرك والابتداء بساكن.

إن تعلم الوقف والابتداء نشأ مع نزول القرآن، حيث كان المصطفى عليه الصلاة والسلام يتفقد ويوصي به أصحابه رضوان الله عليهم، إذ كانوا يهتمون عند قراءة القرآن بمراعاة الوقف والابتداء، ويتناقلون مسائله مشافهة، ويتعلمونه كما يتعلمون القراءة امتثالا لقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: 4].

إن هذه الآية الكريمة تدل صراحة على وجوب تعلم الوقف وتعليمه، وسئل علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، عن هذه الآية فقال: (الترتيل هو تجويد الحروف ومعرفة الوقوف)[16].

والقارئ لكلام الله تعالى يجب عليه أن يتعلم الوقف للأهمية التي يكتسيها، والأصل فيه ما رواه ابن عمر، رضي الله عنه، أنه قال: (لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن وتنزل السورة على النبي صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلالها وحرامها وأمرها وزجرها وما ينبغي أن يوقف عنده منها). واشترط العلماء على المجيز أن لا يجيز أحدا، إلا بعد معرفته الوقف والابتداء.

ويقصد بالابتداء الشروع في الكلام بعد قطع أو وقف، ومعرفة الوقف والابتداء متأكد غاية التأكيد إذ لا يتبين معنى كلام الله ويتم على أكمل وجه إلا بذلك، فربما قارئ يقف قبل تمام المعنى فلا يفهم هو ما يقرأ ومن يسمعه كذلك ويفوت بسبب ذلك ما لأجله يقرأ كتاب الله تعالى، ولا يظهر من ذلك وجه الإعجاز بل ربما يفهم من ذلك غير المعنى المراد وهذا فساد عظيم، ولهذا اعتنى بعلمه وتعليمه والعمل به المتقدمون والمتأخرون[17].

إن في معرفة الوقف والابتداء تبيين معاني القرآن العظيم، وتعريف مقاصده، وإظهار فوائده، وبه يتهيأ الغوص على درره وفوائده، فإن كان هذا بدعة فنعمة البدعة هذه[18].

ويحتاج هذا العلم الجليل إلى علوم كثيرة، قال الإمام السيوطي نقلا عن ابن مجاهد: (لا يقوم بالتمام في الوقف إلا نحوي عالم بالقراءات عالم بالتفسير والقصص وتلخيص بعضها من بعض، عالم باللغة التي نزل بها القرآن وكذا علم الفقه.. فأما احتياجه إلى علم النحو وتقديراته، فلأن من جعل ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾ [الحج: 78] منصوبا على الإغراء وقف على ما قبله أما إذا عمل فيه ما قبله فلا.

وأما احتياجه إلى القراءات فإن الوقف قد يكون تاما على قراءة، غير تام على أخرى، وأما احتياجه إلى التفسير فإنه إذا وقف على ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ [المائدة: 26]، كان المعنى أنها محرمة عليهم هذه المدة وإذا وقف على (عليهم) كان المعنى أنها محرمة عليهم أبدا وأن التيه أربعين، فرجع إلى التفسير..

وأما احتياجه إلى المعنى فضرورة لأن معرفة مقاطع الكلام إنما تكون بعد معرفة معناه كقوله تعالى ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ﴾ [يونس: 65].

استئناف: وكقوله: ﴿فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِئَايَاتِنَا﴾ [القصص: 35] ويبتدئ “أنتما”.

قال الإمام السيوطي رحمه الله: (الأحسن الوقف على (إليكما) لأن إضافة الغلبة إلى الآيات من إضافة عدم الوصول إليهما، لأن المراد بالآيات العصا وصفاتها وقد غلبوا بها السحرة ولم يكنع عنهم فرعون، وكذا الوقف على قوله: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾ [يوسف: 24] ويبتدئ بـ(وهم بها) على أن المعنى لولا أن رأى برهان ربه له بها فقدم جواب لولا ويكون همه منتفيا فعلم بذلك أن معرفة المعنى أصل في ذلك كبير[19].

قال ابن الجزري: (صح، بل تواتر عندنا تعلمه والاعتناء يه من السلف الصالح كأبي جعفر يزيد القعقاع.. ونافع بن أبي نعيم وأبي عمرو بن العلاء ويعقوب الحضرمي وعاصم بن أبي النجود وغيرهم من الأئمة.. وكلامهم في ذلك معروف، ونصوصهم مشهورة في الكتب)[20].

ثالثا: أوجه الفروق بين الوقف والسكت والقطع

من خلال هذا العنوان يتبين بأن هناك ثلاث كلمات:

الوقف، السكت، والقطع، وهي ألفاظ مترادفة عند الأقدمين وفرق بينها المتأخرون فجعلوا الوقف عبارة عن قطع الصوت عن الكلمة زمنا يتنفس فيه عادة بنية استئناف القراءة بعد هذا الوقف، أي هو قطع للكلمة عما بعدها بالتنفس.

أما السكت: فهو عبارة عن قطع الصوت زمنا ما دون زمن الوقف عادة من غير تنفس، فإن طال صار وقفا يوجب البسملة.

وأما القطع: فهو عبارة عن قطع القراءة رأسا، ولا يكون على رؤوس الآي.

جاء في منار الهدى بأن: (الوقف والقطع والسكت بمعنى واحد، وقيل القطع عبارة عن قطع العبارة رأسا، والسكت عبارة عن قطع الصوت زمنا ما دون زمن الوقف عادة من غير تنفس)[21].

رابعا: أقسام الوقف

نظم الشيخ المقرئ محمد عبد السلام الفاسي أقسام الوقف قائلا في أرجوزته

وقسموا الوقف إلى كاف حسن            وذي التمام مع ذي القبح أعلمن

خذوا التمام ما اكتفى عما يزد             من بعده لفظا ومعنى استفد

وما تعلق به معنى فقط                   فإنه الكافي لا شطط

أما القبيح فما تعلقا                       معنى وإعرابا به فحققا

فإن دعت ضرورة إليه             فسيتم الوقف إذن عليه

نعوذ بالله من الطغيان            والزيغ والتحريف للقرآن[22]

اختلف العلماء الأجلاء في مسألة تقسيم الوقف، فمنهم من أطنب وأكثر فجعلها ثمانية أقسام، تام وشبيه به، وناقص وشبيه به، وحسن وشبيه به، وقبيح وشبيه به.

ومنهم من قسمه إلى أربعة أقسام، تام مختار، وكاف جائز، وصالح مفهوم، وقبيح متروك.

وأنكر آخرون هذا التقسيم وقالوا: الوقف على ثلاثة أقسام: قسمان أحدهما مختار وهو التام، والآخر جائز وهو الكافي الذي ليس بتام، والقسم الثالث القبيح الذي ليس بتام ولا كاف.

ويرى الداني أن تقسيم الوقف إلى أربعة أقسام هو أعدل، لأن القارئ قد ينقطع نفسه دون التام والكافي فلا يتهيآن له، وذلك عند طول القصة وتعلق الكلام بعضه ببعض، فيقطع حينئذ على الحسن المفهوم تيسيرا وسعة، إذ لا حرج في ذلك ولا ضيق فيه في سنة ولا عربية[23].

ويؤكد العلامة الصفاقسي هذا التقسيم بقوله: (ويعضهم توسط وحرر وأمعن النظر وتدبر فجعلها أربعة أقسام: تاما وكافيا وحسنا وقبيحا، وربما يتفقون على العدد ويختلفون في التسمية فبعضهم يسمي التام كاملا، وبعضهم يسميه حسنا، وبعضهم كافيا، وبعضهم مطلقا، وبعضهم مختارا، وبعضهم يسمي الكافي حسنا، والحسن كافيا، وبعضهم يسمي الكافي بالجائز والصالح بالمفهوم، وليس هذا خلافا في الحقيقة بل لكل مصطلح مشى عليه وتقسيم منسوب إليه والمختار عندي تبعا للداني[24].

ويذهب الإمام ابن الجزري أبعد من التقسيم المذكور إذ يقول: (وأكثر ما ذكر الناس في أقسامه غير منضبط ولا منحصر، وأقرب ما قلته في ضبطه أن الوقف ينقسم إلى اختياري واضطراري، لأن الكلام إما أن يتم أو لا، فإن تم كان اختياريا، وكونه تاما لا يخلو إما أن لا يكون له تعلق بما بعده البتة؛ أي لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى فهو الوقف الذي اصطلح عليه الأئمة بالتام لتمامه المطلق يوقف عليه ويبدأ بما بعده.

وإن كان له تعلق فلا يخلو هذا التعلق إما أن يكون من جهة المعنى فقط، وهو الوقف المصطلح عليه بالكافي للاكتفاء به عما بعده، واستغناء ما بعده عنه، وهو التام في جواز الوقف عليه والابتداء بما بعده، وإن كان التعلق من جهة اللفظ فهو الوقف المصطلح عليه بالحسن لأنه في نفسه حسن مفيد يجوز الوقف)[25].

والحق أن الوقف ينقسم إلى أربعة أقسام: الوقف التام، الوقف الكافي، الوقف الحسن، والوقف القبيح.

فما المقصود من الوقفات المذكورة؟

أ. الوقف التام: هو الوقف الذي يحسن القطع عليه والابتداء بما بعده، لأنه لا يتعلق شيء مما بعده به، وذلك عند تمام القصص وانقضائهن، وأكثر ما يكون موجودا في الفواصل، ورؤوس الآي[26] كقوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[البقرة: 5] والابتداء بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: 6]، وكذلك: ﴿وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: 46]، ثم يبتدئ بقوله: ﴿يَا بَنِي إِسْرَاءِيلَ﴾ [البقرة: 47].

وقد يوجد قبل انقضاء الفاصلة كقوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي﴾ [الفرقان: 29]، هذا آخر قول الظالم الذي هو أبي بن خلف، وتمام الفاصلة من قول الله تعالى: ﴿وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا﴾ [الفرقان: 29] هو رأس الآي.

وقد يوجد التام بعد انقضاء الفاصلة بكلمة نحو: ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ…﴾ [الصافات: 138-137]. آخر الآية “مصبحين” و”الليل”، وهو تام اتفاقا، والفاصلة مصبحين قبله.

ب. الوقف الكافي: وهو الذي انفصل مما بعده في اللفظ، وله به تعلق في المعنى بوجه، فيحسن الوقف عليه والابتداء بما بعده.

قال الصفاقسي: (هو ما وقفت فيه على كلام لا تعلق له بما بعده من جهة اللفظ بأن يتصل الفاعل بفعله والمبتدأ بخبره والنعت بمنعوته والمفعول بفاعله والمستثنى بالمستثنى منه والتمييز بمميزه وغير ذلك من أبواب النحو وله تعلق به من جهة المعنى كنمام قصة أو وعد أو وعيد أو حكم أو احتجاج أو إنكار أو الإخبار عن حال قوم، وهو كالتام في جواز الوقف عليه والابتداء بما بعده[27]. قال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ [النساء: 23] والابتداء بما بعد ذلك في الآية كلها، هنا الوقف، ثم يبتدئ بما بعد ذلك، وهكذا باقي المعطوفات، وكل رأس آية بعدها “لام كي” و”إلا” بمعنى “لكن” و”إن” المكسورة المشددة، والاستفهام، و”بل” و”ألا” المخففة و”السين” و”سوف” على التهدد و”نعم”، و”بئس” و”كيلا”، وغالبهن كاف، ما لم يتقدمهن قول أو قسم، وقيل “أن” المفتوحة المخففة خمسة لا غير. قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا﴾ [البقرة: 184] ﴿وَأَنْ تَعْفُوا﴾ [البقرة: 237] ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا﴾ [البقرة: 280] ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا﴾ [النساء: 25] (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ﴾ [النور: 6]..

والكافي يتفاضل في الكفاية كتفاضل التام، فمن المقاطع التي يعضها اكتفى من بعض قوله تعالى: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾ [البقرة: 93].

القطع على بكفرهم كاف، ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُومِنِينَ ﴾ [البقرة: 93] أكفى منه.

وقوله تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [البقرة: 9] كاف، ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ [البقرة: 9] أكفى منه. وقوله تعالى: ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [البقرة: 9] أكفى منهما وأكثر ما يكون التفاضل في رؤوس الآي كقوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ [البقرة: 12] كاف، ﴿وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 12] أكفى منه[28].

ج. الوقف الحسن: وهو الذي يحسن الوقف عليه، ولا يحسن الابتداء بما بعده لتعلقه به من جهة اللفظ والمعنى جميعا.

قال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 1] و﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: 2] والوقف على ذلك وشبهه حسن، لأن المراد مفهوم والابتداء بقوله: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ و﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: 3]، لا يحسن، لأن ذلك مجرور، والابتداء بالمجرور قبيح لأنه تابع لما قبله[29].

ومما يؤكد هذه القراءة الحسنة ما كان يقرأ به النبي، صلى الله عليه وسلم، يقطع قراءته آية آية يقول: بسم الله الرحمان الرحيم، يقف ثم يقول: الحمد لله رب العالمين، ثم يقف، ثم يقول: الرحمان الرحيم، ثم يقف، ثم يقول: ملك يوم الدين.. إلخ.

د. الوقف القبيح: هو الذي لا يعرف المراد منه، ولا يجوز تعمد الوقف عليه إذا غير المعنى أو نقصه، وذلك كالوقف على قوله: (بسم) وعلى (الحمد) وعلى (رب) وعلى (ملك).. فكل هذا لا يتم عليه كلام ولا يفهم منه معنى.

وهكذا كل ما يعرف المراد منه فيقبح في حق القارئ الوقوف عليه لأنه يفسد المعنى كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ﴾ [النساء: 11].

إن الوقف على أبويه يوهم أن النصف للبنت والأبوين وليس كذلك، بل البنت لها النصف والأبوان لكل منهما واحد منهما السدس على التفصيل المأخوذ من الآية، فالوقف على النصف وهو أكفى.

ومثله الوقف على قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى﴾ [الأنعام: 66]، إذ الوقف عليه يقتضي أن يكون الموتى يستجيبون مع الذين يسمعون، وليس كذلك بل المعنى أن الموتى لا يستجيبون وإنما أخبر الله تعالى عنهم أنهم يبعثون مستأنفا بهم.

ومثله في القبح على قوله: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [الماعون: 4-5]. قال الأشموني: (والوقف على المصلين قبيح، فإنه يوهم غير ما أراده الله تعالى، وهو الوعيد الشديد بالويل للفريقين الطائع والعاصي، والحال أنه لطائفة موصوفة مذكورين بعده)[30].

خاتمة

إن لهذا العلم فائدة عظيمة، ذلك أنه يبين مراد الله عز وجل، والتدبر في آياته الجليلة، والتفكر في غوامضه، والتبحر في مقاصده.. ولا يتأتى ذلك إلا بالمعرفة التامة، والأخذ من أفواه المشايخ العارفين بطريق أداء القرآن..

والعلماء يتفاوتون في معرفة ذلك، كل حسب توجهه الفكري والعقدي..

ولقد كان للسلف الصالح رضوان الله عليهم الدراية الكافية في هذا المجال، واستفادوا استفادة كبيرة، فحصل لهم الامتثال لأوامر الله عز وجل، والانتهاء عن نواهيه، والرغبة في وعده، والرهبة من وعيده، والطمع في ترغيبه، والارتجاء بتخويفه، والتصديق بخبره، والحذر من إهماله، ومعرفة الحلال والحرام.. تلك إذن هي فائدة جسيمة ونعمة مباركة لا يهملها إلا منكر أو محروم..

ولهذا شرع هذا العلم الجليل.

(انظر العدد 14 من مجلة الإحياء)

الهوامش

1. حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع للشاطبي: 5.

2. المعارف: لابن قتيبة ص 528- ميزان الاعتدال: للذهبي 2: 242.

غاية النهاية لابن الجزري 1: 330 إلى 333 – ومفتاح السعادة لطاش.

كبرى زادة: 2: 25-26.

3. رواه ابن ماجة ج 4: 5028- مسند الإمام أحمد: 2: 437 – سنن الدارمي 2: 437 – سنن ابن ماجة: 212-1: 211 – سنن أبي داود: 1: 58-59 وسنن الترميذي: 5: 2907 و 2908.

4. النجوم الطوالع لابن بري ص156.

5. النشر في القراءات العشر لابن الجزري: 1: 240.

6. البرهان في علوم القرآن للزركشي: 1: 342.

7. نعني بالفواصل: تلك الحروف المتشاكلة في المقاطع يقع بها إفهام المعاني.

8. أشير هنا إلى مسألة أساسية بالقراء والنحاة يأخذون بالقياس معتمدين أشهر اللغات وأكثرها شيوعا واستعمالا وأحلفها بالشواهد، بينما نرى القراء يتمسكون ـ وحق لهم ذلك ـ بالرواية متصلة السند إلى النبي صلى الله عليه وسلم، دون أدنى التفات إلى شيوع لغتها أو ندرتها وشذوذها.

9. التمهيد في علم التجويد: لابن الجزري، ص47.

10. الرعاية لتجويد القراءة للقيسي، ص12.

11. النشر: 1: 212.

12. التمهيد، ص47.

13. النشر: 1: 213.

14.متن الجزرية، ابن الجزري، ضمن مجموع المتون.

15.تنبيه الغافلين، الصفاقسي، ص4.

*. كيكتب وكتب والكتاب وأين وليت، وقفت عليه بحذف حركته، أي بالسكون.

16. التمهيد، ص48.

17. تنبيه الغافلين، ص120.

18. منار الهدى في بيان الوقف والابتلاء للأشموني، ص6.

19. الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 1: 241-242.

20. النشر: 1: 251.

21. منار الهدى للأشموني، ص8.

22. كتاب الأحادي مخطوط خزانة عامة(الرباط) رقم 3443 حرف(د).

23. المكتفي في الوقف والابتداء: للإمام الداني، ص139.

24. تنبيه الغافلين، ص123.

25. النشر 1: 225 و226.

26. الوقف على رؤوس سنة عادة دائما، لا يمكن أن يكون الوقف على رؤوس الآي صحيح سليم مقبول مفهوم جائز دائما أبدا، فعندما يقول الحق سبحانه: “وربك يخلق” إذا أردت أن أطبق السنة، أعني أقف حتى إلى رأس الآية أقول في هذه الآية: “وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة” ما إذا أصبح الكلام، أصبح يختار ما نختاره نحن، ونحن خطأناها، لا يمكن أن نقول نقرأ، وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، يختار الذين يختارون، بل يجب أن نقف وسط الآية، فحينئذ تصبح ما تلك “ما” التي كانت موصولة نافية “يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة”.

انظر مجلة الدروس الحسنية لعام 1414 ه مقال للأستاذ الراجي الهاشمي تحت عنوان: “القراءات المتواترة والوقف القرآني”، ص116.

27. تنبيه الغافلين، ص127.

28. التمهيد، ص172، والنشر: 1: 227.

29. المكتفى، ص145- البرهان: 1: 352- النشر: 1: 228-229.

30. منار الهدى، ص435.

Science
الوسوم

د.علي البودخاني

أستاذ بكلية الشريعة

فاس-سايس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق