مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

نيران العرب (الحلقة الخامسة)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيّه الأمين، وعلى آله الطيبين وصحابته الغرّ الميامين، أما بعدُ:

فهذا استئناف ما وقفنا عنده من نيران العرب من أبيات النظم، وهو:نورأنوا

وَالْوَسْمِ والسَّلِيمِ وَالْفِدَاءِ === وَالْغَدْرِ وَالْغُولِ وَالِاصْطِلَاءِ

1- نار الوَسْمِ:

وهي النار التي يَسِمُون بها دوابَّهم، فيجعلون لها سِمَةً لتُعرف بها، فيقال: هذه إِبِلُ بَنِي فلان. والوسمُ: الكَيُّ، وآلةُ ذلك هي المِيسَمُ، بكسر الميم وفتح السين المهملة، وهي المِكواة.

ونار الوسم فيما يذكرون أنه كان يُقال للرجل: ما نارُك؟ فيقول: كذا. ولهم أسماء لهذه السمات مما كانت لكُلِّ رَجل أو لكل قبيلة، وقد وقعت متفرقة في كتب الأدب واللغة، وهي كثيرة يعسُر الإتيان عليها في هذا المقام، ولكني رجوتُ أن أُفرد لها قولا بعد الفراغ من نيران العرب إن شاء الله تعالى.

والذي ذكروه من خبرٍ في هذه النار أن بعضَ اللصوص قرّب إبلا كان قد أغارَ عليها وسلبها من قبائل شتّى إلى بعض الأسواق، فقال له بعض التجّار: ما نارك؟ وإنما سأله عن ذلك لأنهم كانوا يعرفون بِمِيسم كُلِّ قَوْمٍ كرمَ إِبِلِهم من لؤمها، فقال:

تَسْأَلُنِي الْبَاعَةُ أَيْنَ نَارُهَا === إِذْ زَعْزَعُوهَا فَسَمَتْ أَبْصَارُهَا

كُلُّ نِجَارِ إِبِلٍ نِجَارُهَا === وَكُلُّ دَارٍ لِأُنَاسٍ دَارُهَا

وَكُلُّ نَارِ الْعَالَمِينَ نَارُهَا(1)

وقوله: كلُّ نِجار إبِلٍ نِجارُها، يُضرب لمن فيه كلُّ لونٍ من الأخلاق(2).

2- نار السَّلِيم:

وهو الملدوغ، وإنما سُمِّيَ سَلِيمًا تفاؤلا بأنه سَيَسْلَمُ مما أصابه، ومثله كثير مما غيرته العربُ تفاؤلا، كتسميتهم الفلاةَ مفازة، والأعمى بصيرا، وغير ذلك.

ونار السليم توقد للملدوغ إذا سهر، وللمجروح إذا نزف، وللمضروب بالسياط، ولمن عضه الكلب، لئلا يناموا فيشتد بهم الأمر حتى يؤديهم إلى الهلكة (3). وأنشدوا للنابغة في ذلك(4):

يُسَهَّدُ مِنْ لَيْلِ التِّمَامِ سَلِيمُهَا === لِحَلْيِ النِّسَاءِ فِي يَدَيْهِ قَعَاقِعُ

قال ابن قتيبة: «كانوا يجعلون الحلي في يدي السليم والخلاخل يحركونها لئلا ينام فيدبّ السم فيه»(5).

3- نار الفِداء:

هذه النار يذكرونها في السبايا، وذلك أن القبيلة إذا سَبَتِ النساء سعى ذَوُوهُنّ في فِدائهن، فكرهوا أن يُعْرَضْنَ نهارا فيفتَضِحْن، فعَرَضُونهنّ في الظلمة وأوقدوا نارا لذلك، وقد أنشدوا فيها قول الأعشى(6):

وَهَذَا الَّذِي أَعْطَاهُ بِالْجَمْعِ رَبُّهُ === عَلَى فَاقَةٍ وَلِلْمُلُوكِ هِبَاتُهَا

نِسَاءُ بَنِي شَيْبَانَ يَوْمَ أُوَارَةٍ === عَلَى النَّارِ إِذْ تُجْلَى لَهُ فَتَيَاتُهَا(7)

4- نار الغَدْر:

كانت العرب إذا غدر الرجل بجاره أوقدوا له نارا بمِنًى أيام الحج وصاحوا: هذه غدرة فلان، وأنشدوا فيها(8):

فَإِنْ نَهْلِكْ فَلَمْ نَعْرِفْ عُقُوقًا === وَلَمْ تُوقَدْ لَنَا بِالْغَدْرِ نَارُ

ومما أُثِرَ عنهم في هذه النار ما كان من خبر أبي سفيان بن حرب عند مقتل أبي أُزيهر، وكان جارا له وتحت أبي سفيان بنتُه ، وقد كان أيضا زوّج إحدى بناته الوليدَ بْنَ المُغيرة فحبسها عنه لِما بلغه من غلظته على النساء، فمات الوليد بن المغيرة وهي كذلك وقد دفع له مهرها، فلما قدم الناس إلى سوق ذي المجاز نزل أبو أزيهر بأبي سفيان فاجتمع ولدُ الوليدِ بن المغيرة وقتلوه، وذلك بعد وقعة بدر، فتهايج الناس، وجمع يزيد بن أبي سفيان قومه للثأر له لأنه كان نازلا عند أبيه، فامتنع أبو سفيان عن الثأر لما فيه من انحلال عقد قريش وهم في قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت خفرةُ أبي سفيان نُهْزَةً انتهزها حسان بن ثابت -رضي الله عنه- حيث قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرّض أبا سفيان في دم أبي أُزيهر، فقال حسانُ في ذلك يهجو أبا سفيان ويُعيّره خفرته تلك(9):

غَدَا أَهْلُ حِضْنَيْ ذِي الْمَجَازِ بِسُحْرَةٍ === وَجَارُ ابْنِ حَرْبٍ بِالْمُحَصَّبِ مَا يَغْدُو

كَسَاكَ هِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ ثِيَابَهُ === فَأَبْلِ وَأَخْلِفْ مِثْلَهَا جُدُدًا بَعْدُ

قَضَى وَطَرًا مِنْهُ فَأَصْبَحَ غَادِيًا === وَأَصْبَحْتَ رِخْوًا مَا تَخُبُّ وَمَا تَعْدُو

فَلَوْ أَنَّ أَشْيَاخًا بِبَدْرٍ شُهُودُهُ === لَبَلَّ مُتُونَ الْخَيْلِ مُعْتَبَطٌ وَرْدُ

فَمَا مَنَعَ الْعَيْرُ الضَّرُوطُ ذِمَارَهُ === وَمَا مَنَعَتْ مَخْزَاةَ وَالِدِهَا هِنْدُ

    والبيت الذي تقدم إنشاده، وهو:

فَإِنْ نَهْلِكْ فَلَمْ نَعْرِفْ عُقُوقًا === وَلَمْ تُوقَدْ لَنَا بِالْغَدْرِ نَارُ

يُروى لصفية بنت عبد المطلب، عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأم الزبير بن العوام، تقوله في الذي جرى لأبي سفيان تحرّضه على الأخذ بثأر أبي أزيهر وتُعرّض له بالنار التي أوقِدت له بالغدر، قال المظفر العلوي في نضرة الإغريض: «فلما قتل أبو أزيهر وهو صهر أبي سفيان فلم يأخذ بثأره أوقدت النار على أبي قبيس بالموسم وقيل: هذه غدرة أبي سفيان»(10).

والبيت مع أبيات أُخَرَ في شرح الحماسة، وفيه كلام عن نار الغدر وكيف كانت تصنع العرب في ذلك(11).

5- نار الغُول:

في هذه النار وفي التي تأتي بعدُ، وهي نار السعالي، تفصيلٌ نورده عن أبي عثمان الجاحظ، فقد فرق بين الغول والسعلاة، وبعض أهل اللغة يجعلونهما نوعا واحدا، لذلك تجد في الكتب التي عرضت لنيران العرب ذكرًا لنار السعالي فقط، ولا يذكرون نار الغول، أو يذكرونهما معا فيقولون: نار الغيلان والسعالي.

والغول: جمعه غِيلان، والسعلاة: جمعها سَعالي. وقد قال الجاحظ في فرقِ ما بينهما: «فالغول: اسم لكلّ شيء من الجن يعرض للسُّفَّار ويتلوّن في ضروب الصّور والثّياب، ذكرا كان أو أنثى، إلّا أنّ أكثر كلامهم على أنّه أنثى. […] والسعلاة: اسم الواحدة من نساء الجن إذا لم تَتَغول لتفتن السُّفَّار»(12).

وأنشد في كون الغول ذكرا أو أنثى قولَ الشاعر:

وَغُولَا قَفْرَةٍ ذَكَرٌ وَأُنْثَى === كَأَنَّ عَلَيْهِمَا قِطَعَ الْبِجَادِ

وفي ميلهم إلى أن الغول إلى الأنثى أقربُ وأنها تتلون ألوانا، أنشد لكعب بن زهير:

فَمَا تَدُومُ عَلَى حَالٍ تَكُونُ بِهَا === كَمَا تَلَوَّنُ فِي أَثْوَابِهَا الْغُولُ

وأنشد أيضا في الفرق بين الغول والسعلاة:

أَزَلُّ وَسِعْلَاةٌ وَغُولٌ بِقَفْرَةٍ === إِذَا اللَّيْلُ وَارَى الْجِنَّ فِيهِ أَرَنَّتِ(13)

وقال العسكري: «وأما النار التي تُنسب إلى السعالي، فهو شيء يقع للمتغرّب والمتقفّر»(14). وأنشد بيتين لأبي مطران عبيد بن أيوب:

فَلِلَّهِ دَرُّ الْغُولِ أَيُّ رَفِيقَةٍ === لِصَاحِبِ قَفْرٍ خَائِفٍ مُتَقَفِّرِ

أَرَنَّتْ بِلَحْنٍ بَعْدَ لَحْنٍ وَأَوْقَدَتْ === حَوَالَيَّ نِيرَانًا تَبُوخُ وَتَزْهَرُ

وهما عند الجاحظ في هذا الموضع أيضا عند ذكره لنار السعالي، قال: «ونار أخرى التي يحكونها من نيران السعالي والجن، وهي غيرُ نار الغيلان». ثم أنشد البيتين المتقدمين(15).

ثم قال عند حديثه عن نار الغول: «ونار أخرى، وهي التي تذكر الأعراب أن الغول توقدها بالليل للعبث والتخييل وإضلال السابلة». ثم أنشد البيتين المتقدمين أيضا(16).

6- نار الاصطلاء:

وهذه هي النار التي يوقدونها للتدفئة إذا اشتد البرد، وإنما ذكرتُها لأنهم أوردوها في سياق حديثهم عن نيران العرب، فقد تكون نارُ القِرى مثلا هي نفسها نار الاصطلاء، وذلك أنهم إذا فرغوا من قِرى الضيف كان في النار بقية من اللهب أو من الجمر المتوقد، فقام ذلك مقام إيقاد نار أخرى للاصطلاء.

وهي عند الثعالبي يُضرب بها المثل في الحُسن والإمتاع(17).

هذا ما تيسر قوله في هذه النيران، والله أعلم، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبيه، وعلى وآله وصحبه جميعا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) انظر هذا الخبر مع الرجز على اختلافٍ في لفظ الرواية في الحيوان: 4/491، والأوائل: (ص: 42)، ونهاية الأرب: 1/104، وخزانة الأدب: 7/149.

(2) انظر جمهرة الأمثال للعسكري: 2/139، والمستقصى للزمخشري: 2/230.

(3) الأوائل: (ص: 41)، ونهاية الأرب: 1/104.

(4) انظر ديوانه: (ص: 33).

(5) المعاني الكبير لابن قتيبة: 2/664.

(6) الأوائل: (ص: 42).

(7) كذا أنشده صاحب الأوائل، وفي الديوان (ص: 87): سبايا بني شيبان.

(8) انظر نهاية الأرب: 1/111.

(9) أوردت القصة مختصرة، وهي بتمامها في كتب السيرة والأخبار، انظر المنمّق في أخبار قريش: (ص: 199)، وسيرة ابن هشام: 1/414. والأبيات من رواية الديوان (ص: 162)، وهي في المراجع الأخرى باختلافٍ في بعض الألفاظ.

(10) نضرة الإغريض في نصرة القريض: (ص: 316) وما بعدها.

(11) انظر شرح الحماسة للمرزوقي: (ص: 1788).

(12) الحيوان للجاحظ: 6/158، وما بعدها.

(13) انظر ما ورد من هذه الأبيات في الحيوان للجاحظ: 6/159-160.

(14) الأوائل للعسكري: (ص: 38).

(15) الحيوان للجاحظ: 4/481.

(16) الحيوان للجاحظ: 5/123.

(17) ثمار القلوب للثعالبي: (ص: 578).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع والمصادر:

  • الأوائل لأبي هلال العسكري، تحقيق محمد السيد الوكيل، دار البشير.
  • ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، لأبي منصور الثعالبي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف.
  • جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعبد المجيد قطامش، دار الفكر.
  • الحيوان للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، دار الجيل.
  • خزانة الأدب ولُبُّ لُبَابِ لسانِ العرب، لعبد القادر البغدادي، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي.
  • ديوان الأعشى، تحقيق محمد حسين، مكتبة الآداب.
  • ديوان النابغة الذبياني، تحقيق محمد أبو الفضل، دار المعارف.
  • سيرة ابن هشام، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي، طبعة مصطفى البابي الحلبي.
  • شرح حماسة أبي تمام للمرزوقي، تحقيق عبد السلام هارون، دار الجيل.
  • شرح ديوان حسان بن ثابت، عبد الرحمن البرقوقي، المطبعة الرحمانية.
  • المستقصى في أمثال العرب، لجار الله الزمخشري، دار الكتب العلمية.
  • المعاني الكبير في أبيات المعاني، لابن قتيبة الدينوري، تحقيق سالم كرنكو، دائرة المعارف العثمانية، تصوير دار الكتب العلمية.
  • المنمق في أخبار قريش، لمحمد بن حبيب البغدادي، تحقيق خورشيد أحمد فاروق، عالم الكتب.
  • نضرة الإغريض في نصرة القريض، للمظفر بن الفضل العلوي، تحقيق نهى عارف الحسن، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق.
  • نهاية الأرب في فنون الأدب، للنويري، تحقيق مفيد قميحة، دار الكتب العلمية.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. أحسن الله إليك يا سليمان، سلسلة طيبة مفيدَة ، ومعالَجَة مستحسنة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق