مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

نيران العرب (الحلقة الثانية)

الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه، وبعدُ:

فقد قدّمتُ في الحلقة الأولى أنّي سأُتبعها بتفصيلِ ما أُجمل في النظم الذي ألحقتُه بها، ذاكرًا لِمَا أَعرِض له من شأن نيران العرب ما وقع في مصنفات العلماء من ذلك على سبيل التعريف والإشارة.

وقد رأيت أن أبدأ بأبيات النظم، ثم أشرح ما وقع فيها من إشارات قصدت بها ما عَنَوْهُ بكلامهم عن هذه النيران، فإنهم -كما ذكرت- قد اختلفوا في تسمية بعض النيران، أو في عِدَّتِها وإلى كم تنتهي، وما يُضاف منها إلى العرب، وما يكون خاصا بالعجم، لذلك تجد في النظم إجمالا يقوم مقامه عند الحاجة هذا الشرحُ والتفصيل. على أني سأذكر ما عساه يكون مادةً صالحة للاطّلاع، لا إلى القِصَرِ يذهبُ ولا إلى الطول، بحيث يأتي مستوفيا للنيران التي انتهى إليها جمعي في خلال حلقات متقاربة إن شاء الله، وهي دونك:

قلت:

اَلْحَمْدُ للهِ وَصَلَّى اللهُ === عَلَى نَبِيِّنَا الَّذِي اجْتَبَاهُ

مُحَمَّدٍ خَيْرِ الْوَرَى ثُمَّ عَلَى=== أَصْحَابِهِ وَآلِهِ ذَوِي الْعُلَا

وَبَعْدُ، فَالنِّيرَانُ عِنْدَ الْعَرَبِ === مِنْ جُمْلَةِ الْآدَابِ عِنْدَ الطَّلَبِ

لِمَا لَهَا يُرْوَى مِنَ الْأَخْبَارِ === وَمَا بِهَا يُنْشَدُ مِنْ أَشْعَارِ

البيتان الأخيران تقدم في الحلقة الأولى ما يأتي عليهما بتفصيل، ففيهما ذكرُ عِلّة اختيار هذا الموضوع، وأنه متصل بعادات العرب وأحوالها في الجاهلية ابتداءً، وبعد مجيء الإسلام أيضا، لِما وجدتُ من أن بعض النيران ما زالت العربُ توقدها بعد الإسلام لعدم مساسها باعتقاد دينِيّ، فإنها لو كانت على ما وصفتُ لأُمر الناسُ باجتنابها، لا سيما أنهم كانوا حديثي عهدٍ بالإسلام حينئذ، فيكون الأمرُ باجتنابها آكَدَ في حقهم.

قلت:

مِنْهَا الَّتِي قَدْ سُمِّيَتْ نَارَ الْقِرَى === أَعْظَمُهَا عِنْدَهُمُ بِلَا مِرَا

هذه أعظم نار أوقدتها العرب، وهي من أعظم مفاخرهم، قال الجاحظ: «وهي من أعظم مفاخر العرب، وهي النار التي تُرفع للسَّفْرِ ولمن يلتمس القِرَى، فكلما كان موضعها أَرْفَعَ كان أفخرَ»(1).

قوله: للسَّفْر، هم المسافرون. يُريد أنها توقد في المواضع المرتفعة ليُهتدى إليها، فذلك أقرب إلى رؤيتها من أن تكون في موضع منخفض كما يفعل مَن لا يُريد الاستدلال على ناره.

وقريب منه ما ورد في حديث أم زرع عند قول المرأة التاسعة في نعت زوجها، وقد مدحته بذلك: «قريبُ البيت من النّاد»(2)، أي: بيته قريب من نادي القوم حيث يجتمعون، وذلك أدعى لغِشيانهم إياه وقِرَاهُمْ، فلا تكاد نارُ قِراه تُطفأ لكثرة ما يطرقه الضّيفان، والعرب تمدح بذلك كثيرا، وتذم الرجل يوقِدُ ناره في غير المواضع التي يغشاها الناس وتمرّ بها السابلةُ.

وقد أكثر الشعراء في ذكر نار القِرى ومدح صاحبها، ويعسُر الإحاطة بما ذكروه في شأنها، فمن ذلك قول الحُطيئة(3):

مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ === تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مُوقِدِ

وقول الآخر(4):

لَهُ نَارٌ تُشَبُّ بِكُلِّ وَادٍ === إِذَا النِّيرَانُ أُلْبِسَتِ الْقِنَاعَا

وَلَمْ يَكُ أَكْثَرَ الْفِتْيَانِ مَالًا === وَلَكِنْ كَانَ أَرْحَبَهُمْ ذِرَاعَا

ومما قيل فيها من أبيات المعاني أيضا(5):

وَشَعْثَاءَ غَبْرَاءِ الْفُرُوعِ مُنِيفَةٍ === بِهَا تُوصَفُ الْحَسْنَاءُ أَوْ هِيَ أَجْمَلُ

دَعَوْتُ بِهَا أَبْنَاءَ لَيْلٍ كَأَنَّهُمْ === وَقَدْ أَبْصَرُوهَا مُعْطِشُونَ قَدَ انْهَلُوا

قوله: شعثاء، أي: متفرقة. بها توصف الحسناء، أي: تُشبه بها، فإنهم يقولون في الجارية الحسناء: كأنها شعلة نار. والمُنيفة: المُشرفة المرتفعة. وأبناء ليل: يقصد بهم الضيفان الذين يطرقون ليلا يلتمسون القِرى. وليس هناك دعاء، إنما لكونها شعثاء، فكأنها حين يراها الساري  تدعوه بتضرّمها، فيقصدها لذلك.

ومن أحسن ما قيل فيها قولُ الأعشى(6):

لَعَمْرِي لَقَدْ لَاحَتْ عُيُونٌ كَثِيرَةٌ === إِلَى ضَوْءِ نَارٍ فِي يَفَاعٍ تُحَرَّقُ

تُشَبُّ لِمَقْرُورَيْنِ يَصْطَلِيَانِهَا === وَبَاتَ عَلَى النَّارِ النَّدَى وَالْمُحَلَّقُ

وفي البيان والتبين للجاحظ أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سمع رجلا يُنشد بيت الحُطيئة المتقدم، وهو قوله:

مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ === تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مُوقِدِ

فقال: ذاك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. قال الجاحظ: وقد كان الناس يستحسنون قول الأعشى:

تُشَبُّ لِمَقْرُورَيْنِ يَصْطَلِيَانِهَا === وَبَاتَ عَلَى النَّارِ النَّدَى وَالْمُحَلَّقُ

فلما قال حُطيئة البيت الذي كتبناه قبل هذا سقط بيت الأعشى(7).

قوله: يصطليانها، قد يُفهم منه أن هذه هي نارُ الاصطلاء التي ذكروها أيضا، وهي غيرُ نار القِرى، وذلك بعيد في المعنى، إذ البيت في مدح الأعشى للمحلق بما كان منه من قِراه. وأما نار الاصطلاء فسيأتي ذكرها قريبا إن شاء الله تعالى.

وبنار القِرى يُضرب المثلُ في الحُسن، فيقال: أحسنُ من نار القِرى(8)؛ لأنها أحسن ما يكون في عين الساري إذا طال سُراه ولم يتزوّد، وفي ذلك يقول الحريري في مقاماته: «فأقبلَ فتًى أحسنُ من نار القِرى في عين ابن السُّرَى»(9).

هذا، وقد آثرتُ إفراد هذه الحلقة لنار القِرى لعظيم منزلتها عند العرب، ولإكثارهم فيها، ولم أقصد بذلك إلى الإحاطة بما ورد عنهم في شأنها، فإنه أكثر من أن يُحاط به في هذا المقام.

والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله على محمد النبي الكريم، وعلى الآل والصحب أجمعين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) انظر الحيوان: 5/134.

(2) انظر بغية الرائد للقاضي عِياض: (ص: 99)، وكذلك شروح البخاري كالفتح وغيره.

(3) ديوانه: (ص: 161).

(4) شرح الحماسة للمرزوقي: 1592، القطعة رقم: 690. وقد نُسبا إلى أبي زياد الأعرابي.

(5) انظر معاني الشعر للأشنانداني: (ص: 4).

(6) ديوانه: (ص: 223).

(7) البيان والتبين: 2/29.

(8) زهر الأكم: 2/149.

(9) مقامات الحريري: (ص: 383).

*****

المراجع والمصادر:

  • بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد، للقاضي عياض اليحصبي، تحقيق صلاح الدين بن أحمد الإدلبي ومحمد الحسن أجانف ومحمد عبد السلام الشرقاوي، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب.
  • البيان والتبين للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي.
  • الحيوان للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، دار الجيل.
  • ديوان الأعشى الكبير، تحقيق محمد حسين، مكتبة الآداب.
  • ديوان الحطيئة، تحقيق نعمان أمين طه، مكتبة مصطفى البابي الحلبي.
  • زهر الأكم في الأمثال والحكم، لأبي علي اليوسي، تحقيق محمد حجي ومحمد الأخضر، دار الثقافة.
  • شرح ديوان الحماسة للمرزوقي، تحقيق عبد السلام هارون، دار الجيل.
  • معاني الشعر للأشنانداني، تحقيق عز الدين التنوخي، مطبوعات مديرية إحياء التراث القديم.
  • مقامات الحريري، لأبي محمد القاسم الحريري، دار بيروت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق