مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

من جهود علماء الغرب الإسلامي في توجيه متشابه الكتاب توجيه قوله تعالى في آيتي سورة النساء

        بسم الله الرحمن الرحيم

“وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا..

وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا”

                الحمد لله رب العالمين، ندب الخلق إلى استثارة الفهوم لاستكناه أسرار التنزيل، وجعل ذلك من آكد ما طالبهم به من شرائع الدين، وأنهض هممهم للاشتغال به بما رتب عليه من  الأجر الكبير و علق عليه  من الثواب الجزيل، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، أكرم من قام بالكتاب المبين، وعلى آله وأزواجه أمهات المؤمنين، و سائر الصحب أجمعين، وكل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

           فإن الناظر في الكتاب بقصد الاستقاء من لجين نميره، و الارتواء من زلال معينه، ليجده حقا وصدقا شافيا لما في الصدور، مبددا للبد الظلم المعتمة على السالك العبور، آت بحلول ناجعة سواء لتليد المشكلات ومستجدها، فضمنه منزله حبل نجاة  المكلفين في دنياهم، وتكفل للمستمسكين به الغلبة  لكل من يناوئهم، وقهر كل من يعارضهم، ودحر كل ما من شأنه أن ينغص عليهم معايشهم، ويفسد عليهم صفو مزاجهم، أو يصرفهم عما هم مطالبون به من حق الله بارئهم..و من ذلكم الحلول التي جاء بها لرأب صدع المؤسسة الزوجية إن عصفت بها الرياح العاتية، و هدد استقرارها برود العواطف الممتنة للعلائق، فشعرت الزوجة أن ذلك الميل المعهود من زوجها قد خف، وأن دفء المشاعر المتبادل لم يعد كما كان من ذي قبل، وتيقنت أن استمرار هذه الحال بينهما قد يفضـي إلى انفصام ميثاق الزوجية،  الأمر الذي تتخوف منه وتأباه، فندبها الشرع –إن كانت لها رغبة في المحافظة على العصمة الزوجية- إلى عرض مساومة على الزوج؛ ترغبه في إبقائها تحت عصمته، إما تنازلا عن بعض حقها، أو إقطاعه شيئا من مالها، أو إعطاء نوبتها لضرتها..والأحوال التي تدفع المرأة لهذا التنازل ظروف خاصة لا تكاد تنحصـر.. فأباح للزوج أن ينتفع بما تعرضه عليه، دونما شره أو إجحاف،  فقال تعالى:  “وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِـرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا”[النساء:128] ، و المتأمل في الآية يلمح أنها وإن شرعت هذه المساومة إلا أنها حثت على  المسامحة و مراقبة الله والإحسان في تنزيل هذا التشريع، وأن لا يتخذ الرجل ذلك ذريعة للاستغناء باستغلال موقف الزوجة الضعيف فقال: “وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا” والتوجيه فيها للرجال، فهي وإن شرعت المساومة لاستبقاء المرأة تحت العصمة الزوجية، إلا  أنها حثتت على مكارم الأخلاق، وأرشدت إلى معالي الأمور..

               ثم جاء بعد هذه الآية مباشرة الإخبار عن قصور الرجال عن بلوغ مستتم العدل بين الزوجات، ولو حاول الرجل جهده، فقد يعدل الرجل في المسائل الماديات لكنه لا يستطيعه في الأمور المعنويات؛ لأن الميل القلبي حال خارج عن مقدور المكلف، وقد كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” “اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي، فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ”[1]و قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: ” كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لا يُفَضِّلُ بَعْضَنا عَلى بعضٍ في القَسْم”[2] فلما أخبر القرآن بهذه الحقيقة، نهى عن التمادي الظاهر في هذا الميل، والانجرار وراء العاطفة إلى حد المجاهرة  و ذلك في قوله تعالى “وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا” وجاء الأسلوب القرآني  مخبرا عن ذلك بلن التأبيدية على منحى المدرسة الزمخشرية، ثم ندبت الآية الأزواج بعد ذلك إلى الجنوح إلى الصلح، قال ابن كثير:”وإن أصلحتم في أموركم، وقسمتم بالعدل فيما تملكون، واتقيتم الله في جميع الأحوال، غفر الله لكم ما كان من ميل إلى بعض النساء دون بعض[3].

         وتذييل الآية الأولى بقوله: “وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا” والثانية بقوله: “وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا” يجعلهما من متشابه القرآن، يسأل فيهما عن مناسبة ختم الأولى بالندب إلى الإحسان، والثانية بالأمر بالإصلاح، وممن شحذ قريحته للوقوف على سر المغايرة أحمد بن الزبير الغرناطي قال رحمه الله:

          يقول رحمة الله عليه:

        “الآية الثانية عشرة” –أي: من سورة النساء-

قوله تعالى: ” وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا”[النساء:128]

 وفى آية أخرى بعد

” وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:129]

 فيهما سؤالان:

قوله في الأولى ” وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا “، وفى الثانية: ” وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا ” والختامان؛ “خبيراً ” فى الأولى، و”غفوراً ” فى الثانية.

والجواب والله أعلم:

              أن الآية الأولى فيما بين المرأة وزوجها، فإذا خافت منه وأرادت تآلفه وبقاءها وكينونَتها فى عصمته، فلا جناح عليهما أن تعطي شيئا من نفسها وتترك بعض حقها، كأن تؤثر ضرتها فى القسمة، أو تترك هي حظها كما فعلت سودة رضي الله عنها، أو تهب له من مالها، لا جناح عليهما في هذا، ولا على زوجها في قبول ذلك منها، وإن كان الطبع يأبى من إسقاط حق أو تنقصه؛ لما جبلت عليه النفوس، وإليه الإشارة بقوله تعالى: “وَأُحْضِـرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ” ثم قال تعالى: ” وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا ” فندب كلا منهما إلى الإحسان والتقوى، والزوج أخص بذلك وأولى، وأن يحتمل كل منهما من صاحبه ويصبر، فإن الله مطلع عليه، خبير بما يكنه ويخفيه.

ثم قال: “ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ” لأن القلوب لا تُملك، ولا بيد الإنسان فسادُها ولا صلاحها، فإن عَدَل في القسمة والمحادَثة والإنفاقِ والنظرِ وبشاشة الوجه وجميل الملاقاة، -وفرضنا اجتهاده في هذا كله حتى تحصل المساواة- لم يقدر أن يميل بقلبه إلى كلهن على حال سواء: ” فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ “، بل على الإنسان أن يجتهد، وفى الحديث عنه عليه السلام: “اللهم هذه قسمتي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك”، ” فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ” لا ممسَكة ولا مطلقة.

ثم قال تعالى: “ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا ” والمراد ما استطعتم وكان في إمكانكم، فإن الله يغفر لكم ما سوى ذلك.

          والآية الأولى مقصودها يستدعى ما ختمت به من أنه تعالى خبير بأفعال عباده وأعمالهم الظاهرة والباطنة، ومساق هذه الأخرى يستدعي مغفرته تعالى، إذ قد عرَّفت الآية أن العدل لا يستطاع، فإن لم تكن المغفرة هلك المكلف، فورد أعقاب كل آية بما يناسب، وأما ورود ” وَإِنْ تُحْسِنُوا ” في الآية الأولى، و ورود “وإن تصلحوا ” هنا فمفهوم مما تمهد وأنسب شيء والله أعلم”[4].

[1] رواه أبو داوود كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء، رقم:2134، والحاكم في المستدرك، كتاب النكاح، 2761. وقال هو على شرط مسلم، وضعفه الألباني في الإرواء، 7/87.

[2] رواه أبو داوود، كتاب النكاح، باب القسم بين النساء، رقم: 1852، وتمامه: عن عروة قال: قالت عائشة: يا ابن أختي! كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُفَضِّلُ بعضنا على بعض في القسم مِنْ مُكْثِهِ عندنا، وكان قَلَّ يومٌ إلا وهو يطوف علينا جميعاً، فيدنو من كل امرأة من غير مَسِيسٍ، حتى يبلغ إلى التي هو يومُها، فيبيت عندها، ولقد قالت سودة بنت زمعة- حين أسَنَّتْ وفَرِقَتْ أن يفارقها رسول لله-: يا رسول الله! يومي لعائشة، فَقَبِلَ ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  منها.قالت: تقول: في ذلك أنزل الله تعالى وفي أشباهها- أراه قال-: (وإِنِ امرأةٌ خافت من بَعْلِها نُشُوزاً) .

[3] تفسير ابن كثير، 2/431.

[4] ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل، لأحمد بن الزبير الغرناطي، تـ 708هـ، 1/110.

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق