مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

من تضرعات القوم (9)

     إلهي لو علمتُ أن ذنوبي تضاهي ذنوب جملة عُصاتك لما سألتك الصفح عنها، ولكني أعلم أني فضَلتُ أهل المعاصي العظام، وأرْبَيت على أرباب الكبائر الجسام، وأسرفت في ظلم نفسي، وبالغت في متابعة أوهامي وحسي، فسؤالي يا إلهي أن تغفر لي ما فضَلتُ به عصاتك، فإنك إذا غفرت لي القليل في جَنب حلمك غفرت لي الكثير في سَعة رحمتك، يا حافظ أعمال العباد، وموقظ أوليائه إلى الرشاد، يا من لا يعزُب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، إلهي إن لم تَهَب لي في هذه الحياة الدنيا نورًا أمشي به في الناس، وهدًى أتخلص به من الوسواس الخناس، وأمْنًا أسكُن به بين أهل البقاء، وأفوز به من ملابِسات الشقاء، فلا نور لي ولا حياة.

     فأي مسافة في العلم قطَعتُ وأنا جاهل بك، وأي طمأنينة بالأعمال حصَّلت وأنا غائب عنك، وأي عقاب أشد من رؤية المرء نفسَهُ بين يديك مذنبا، وأي عذاب أشق من لقائك له مغضَبا.

     وأنا قائم بين العصاة، عالم بأنك لا تهمل صغيرة ولا كبيرة إلا أحصيتها، ولا سرا في القلوب إلا وأحطت به وعرفته، فامزج يا إلهي عدلك فيَّ بإحسانك إليَّ، فإنك أمرت بها خلقك، وأنت أولى بهما من المستضعفين.

     نعوذ بك من غضبك، ونلجأ إليك خوفا من سخطك، ونرجوك يا ربنا لما نعلم وما لا نعلم، ونخافك لما نعلم ولما لا نعلم، كفى العارفَ بهجةً لقائك في دار البقاء، وكفى الجاهل بك تغلغله في عالم الشقاء، يا إلهي حسبي الندم على ما فرطت في جنبك، وأهملت من حقوقك، إلا أني واثق بأن رحمتَك أسبق من غضبك، وحلمَك أو سع من ذنوب خلقك، فتولني يا إلهي بعنايتك، فإنك كريم والكريم لا يستقصي، وقادر والقادر لا يخاف، يا من يُظهر الجميل ويستر القبيح، ويعفوا عن السيئات ويضاعف الحسنات، حُلْ بيننا وبين طغيان الشيطان، وعدوان السلطان، ووسوسة الإنس والجان، يا رحيم يا رحمن، يا قديم يا منان، يا علي الشأن، يا ذا الجلال والإكرام.

     يا إلهي حلاوة السؤال مني ولذة الإجابة منك يوقعاني في البشرية، وَوِجداني ذوقَ الموهبة وفنائي في جَنْب علمك يُظهراني في النورانية، ومتى لم تُحطني في بشريتي حُجِبتُ عن نورانيتي، وأنا أستغفرك يا إلهي من إضافة آنيتي في خطابك، وإشارتي في سؤالي لك إلي، أنت الله الحي الموجود المتكلم القادر العزيز الحكيم، من عبدك بالمبدأ والمنشأ جهل أكثر ما علم، ومن عبدك بالظن والتخيل تاه، ومن عبد الاسم دونك ضل وأضل، ومن عبدك معنًى بلا اسم ولا صفة فقد عبد مفقودا، ومن عبدك معنًى واسما فقد أشرك، ومن عبدك بتميز ذاتك من أسمائك وصفاتك مُقرا بأحديتك ووحدتك وعَلِمَ فردانيتك في تجلياتك عالما بأزليتك وأبديتك، فقد عبد وفهم.

     يا إلهي وإله آبائي الأولين، وأبنائي الآخرين، لا تحرمني معرفةَ ذاتك في جميع تجلياتك، ولا تعدمني تحقيق اسمك في سائر ظهوراتك، فإنك تستخلص لنفسك من تشاء قربه إليك، وتصطفي من أوليائك من تحب إقباله عليك، فويل لمن تخلف عنك، ويا بعدا لمن أَيِس منك، لا راحة دون لقاك، ولا طمأنينة إلا بعد رضاك، تعاليت عما يقول المحجوبون علوا كبيرا، وتنزهت عما يصفك به المشبهون تنزيها كثيرا، فُتن المقصرون ما شهدوا من ظلال أوصافك في مرايا جمالك، وتاه المحققون ما أدهشهم من سنا برق نورك في ساطع جلالك، فحلمك يُوَسع لهم مضايق الغفلة عنك، وعفوك يُولِيهم مع تقصيرهم ما سألوه منك، فارحمنا يا إلهنا في غفلاتنا عن مواجب طاعتك، ويسر حسابنا فيما أهملنا من فرائض شريعتك، يا حليم يا كريم، يا من هو بكل شيء عليم.

Science

ذ. محمد المنصوري

باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق