مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

من بركات المصطفى صلى الله عليه وسلم

بسم الله الرحمن الرحيم
ولد المصطفى فالكائنات ضياء وفم الزمـــــان تبســـم وثناء
نعم هو ذاك، بل هو أجل وأعظم مما جادت به قريحة أحمد شوقي وغيره من الشعراء، نبي ازدان الكون بمولده، وأنقذ البشـرية ببعثته، وردها إلى رشدها بنبل أخلاقه وسمي خلاله، وسما بها إلى ذروة المجد العلي، فعادت رايتها خفاقة سامقة بين الأمم، فمولده بركة، وبعثته بركة، ورسالته بركة، ودعوته بركة، فهو المبارك الطيب الطاهر قلبا وقالبا و نسبا ، فاسمه وأسماء قرابته أسماء توحي بالبركة والطهر والصفاء، فاسمه محمد؛ وهو مشتق من الحمد، وهو أحمد الحامدين، واسم أبيه عبد الله؛ إشارة إلى الخضوع وإخلاص التوحيد لله، واسم أمه أمينة؛ من الأمن والسلام، واسم مرضعته حليمة؛ من الحلم والأناة، واسم مدرجه إبان الرضاع بنو سعد؛ من السعد والخير والنماء، واسم حاضنته الأولى ثويبة؛ من الأجر والثواب، واسم الثانية بركة؛ من الزيادة والنماء، وكلها وُسُم ودلائلُ على إحاطة الله إياه بجميل العناية وكريم الرعاية، مع ما فيها من الفأل الحسن، وقد كان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل ويستبشر به.
ومذ شاء الله خروجه للدنيا والخيرات والبركات تشع من حواليه، فكل من خالطه أوعامله أو عاشره نالته من بركاته، وكل من انضوى تحت لوائه ودان بدينه ودعوته إلا وغمره مدرار البركات، وغسل أدرانه شلال الأنوار البهيات، فهو الرحمة المهداة، والنعمة المزجاة، قال تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ” [الأنبياء:107]وإليكم نموذجا هو غيض من فيض، يجلي جانبا من بركاته التي احتفت به وبمن حوله منذ ولادته، فكان من أوائل من أدركتها بركاته مرضعته حليمة السعدية، وكانت حليمة امرأة بائسة فقيرة، عضها الدهر بنابه، أتت قادمة من بني سعد هي وصويحباتها يبتغين الرضع من مكة، تحملها أتان ضعيفة هزيلة، لا تكاد تقوى على المسير، فتجاوزتها رفيقاتها أملا في الظفر بمولود يكون سببا في تحسين ظروف عيشهن، فتخيرن من رضع علية القوم، ولم يبق إلا رضيع يتيم من آل عبد المطلب تلكأت وترددت في اصطحابه، ثم احتملته إشفاقا وتخوفا من تنقيص صويحباتها، ولنستمع إليها وهي تسرد ما كان من أمرها، روى ابن إسحاق وغيره من أصحاب المغازي والسير، “عن حليمة ابنة الحارث – أم رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرضعته – أنها قالت: قدمت مكة في نسوة من بني سعد بن بكر، نلتمس بها الرضعاء، وفي سنة شهباء، فقدمت على أتان لي قمراء كانت أذمت بالركب، ومعي صبي لنا، وشارفنا لنا، والله ما ننام ليلنا ذلك أجمع مع صبينا ذاك، ما نجد في ثديي ما يغنيه، ولا في شارفنا ما يغذيه، فقدمنا مكة، فوالله ما علمت منا امرأة إلا وقد عرض عليها – رسول الله صلى الله عليه وسلم – فإذا قيل إنه يتيم تركناه، وقلنا: ماذا عسى أن تصنع إلينا أمه، إنما نرجو المعروف من أبي الوليد، فأما أمه فما عسى أن تصنع إلينا؟ فوالله ما بقي من صواحبي امرأة إلا أخذت رضيعاً غيري، فلما لم أجد غيره، قلت لزوجي الحارث بن عبد العزى: والله إني أكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معي رضيع، لأنطلقن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، قال: لا عليك، فذهبت، فأخذته، فوالله ما أخذته إلا أني لم أجد غيره. فما هو إلا أن أخذته، فجئت به رحلي، فأقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي، وشرب أخوه حتى روي، وقام صاحبي إلى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل، فحلب ما شرب وشربت حتى روينا، فبتنا بخير ليلة، فقال صاحبي: يا حليمة، والله إني لأراك قد أخذت نسمة مباركة، ألم تري إلى ما بتنا به الليلة من الخير حين أخذناه؟! فلم يزل الله يزيدنا خيراً، حتى خرجنا راجعين إلى بلادنا، فو الله لقطعت أتاني بالركب حتى ما يتعلق بها حمار، حتى أن صواحبي ليلقين: ويلك، يا بنت أبي ذؤيب، أهذه أتانك التي خرجت عليها معنا؟ فأقول: نعم، والله إنها لهي، فيقلن: والله إن لها لشأناً، حتى قدمنا أرض بني سعد، وما أعلم أرضاً من أرض الله عز وجل أجدب منها، فإن كانت غنمي لتسـرح ثم تروح شباعاً لبناً، فنحلب ما شئنا، وما حولنا أحد تبض له شاة بقطرة لبن، وإن أغنامهم لتروح جياعاً، حتى أنهم ليقولون لرعيانهم: ويحكم انظروا حيث تسرح غنم بنت أبي ذؤيب، فاسرحوا معهم، فيسرحون مع غنمي حيث نسرح، فيريحون أغنامهم جياعاً وما فيها قطرة لبن، وتروح غنمي شباعاً، لبناً نحلب ما شئنا، فلم يزل الله عز وجل يرينا البركة، ونتعرفها حتى بلغ سنتيه، وكان يشب شباباً لا يشبه الغلمان…”
فهذه أربع من بركات رسول الله صلى الله عليه وسلم على مرضعته:
• إدرار لبن ثديها
• عود النشاط والقوة لمركوبها
• وفرة الرعي لسائمتها
• تحسن ظروف عيشها
لقد بلغت بالهاشمي حليــــــمةُ مقاما علا في ذروة العز والمجــد
وزادت مواشيها وأخصب ربعها وقد عم هذا السعد كل بني سعد
وإنما حصرت الكلام عن نعوت جماله وأوصاف كماله -صلوات ربي عليه- في البركة، لأنها غاية أعيت البشـرية اليوم، فكل يشكو انعدام البركة، سواء في الأوقات أو الأموال وسائر التصرفات، وإنما هي على مرمى حجر من كل إنسان، فإذا كانت البركة نالت حليمة باصطحابه ولماَّ يبتعث، أفلا تنال من أحبه بعد مبعثه وارتضى دينه؟.

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق