مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

مظاهر التماسك والانسجام من خلال كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للإمام البقاعي «المتشابه اللفظي في سورة آل عمران» «الحلقة السابعة عشرة»

جاء في الحلقة السابقة بيان مفهوم المتشابه اللفظي في البحث اللغوي والاصطلاحي حيث  تتبعناه في سورة آل عمران و ذكرنا  ثلاثة  مواضع منه؛ هي قوله تعالى: «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ»[الآية: 3] وقوله تعالى:« الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم»[الآية: 10] وقوله تعالى: «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ» [الآية: 11] وبَينَّا الفروق بينها وبين الآيات الأخرى المتشابهة في القرآن الكريم، وفي هذا المقال سنكمل إن شاء الله تعالى ما بدأناه.

الموضع الرابع من المتشابه اللفظي: «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ»

السورة

رقم الآية

بداية موضع الاستشهاد

نهاية موضع الاستشهاد

آل عمران

[آل عمران:15] «قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ» «وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد»

آل عمران

[الآية:198] «لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ» «وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَار»

الزمر

[الآية:20] «لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ » «وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَاد»

افتتحت الآية الأولى باستفهام «قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ»استئناف بياني، فإنه نشأ عن قوله تعالى: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ» [آل عمرَان: 14] المقتضي أن الكلامَ مسوقٌ مساقَ الغض من هذه الشهوات، وافتتح الاستئناف بكلمة «قل» للاهتمام بالمقول، والمُخاطَبُ  بقُل النبي صلى الله عليه وسلم، والاستفهام للعَرْض تشويقا للمخاطَبِين إلى تلقي ما سيقص عليهم، كقوله تعالى: «هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» [الصَّفّ: 10] [1]

وفي الآيتين الأخيرتين استدراك بــ «لكن» التي تفيد الانتقال من قصة إلى قصة أخرى مخالفة لها، فلما ذكر أن تقلب الكفار في الدنيا إنما هو متاع قليل مصيره إلى جهنم استدرك بــ «لكن» للإخبار عن المتقين بمقابل ما أخبر به عن المنافقين، فلهم مكان استقرار وهو الجنات، ثم الخلود فيها، فما أحسن موقع «لكن» في هذه الآية حيث قابل بها بين الفريقين وما أعطي كل منهما، وكذا في الآية الثانية حيث تحدث عن الكفار الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ثم قال«لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ياعِبَادِ فَاتَّقُون» [الزُّمَر:16] ثم تحدث ما للفريق الآخر، فقال: « لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ » مستدركا ذلك ب «لكن» وفي الآيات الثلاث مقابلة؛ وهو أن يؤتى بمعنيين متوافقين أو معان متوافقة ثم بما يقابلهما أو يقابلها على الترتيب [2] ففي الآية الأولى تحدث عما أعطي من متاعها من شهوات النساء والبنين والمال والدواب والحر، ثم ذكر أن للمتقين في الآخرة ما هو أفضل من ذلك، فقوبل شهوات النساء بأزواج مطهرة، وقابل الحرث  بــجنات تجري من تحتها الأنهار، وزاد بأن لهم رضوان من الله، ولم يذكر مقابلة البنين والأموال وغيرها لأنه ليس في الآخرة شيء من ذلك، وجملة «للذين اتقوا عند ربهم جنات» مستأنفة وهي المنبأ به و «جنات» مبتدأ محذوف الخبر؛ أي لهم، أو خبر لمبتدأ محذوف[3] قال ابن عاشور: «وقد ألغي ما يقابل شهوات الدنيا في ذكر نعيم الآخرة، لأن لذة البنين ولذة المال هنالك مفقودة للاستغناء عنها، وكذلك لذة الخيل والأنعام، إذ لا دواب في الجنة، فبقي ما يقابل النساء والحرث وهو الجنات والأزواج لأن بهما تمام النعيم والتأنس، وزيد عليهما رضوان الله الذي حرمه من جعل حظه لذات الدنيا وأعرض عن الآخرة، وعطف «رضوان من الله» على ما أعد للذين اتقوا عند الله، لأن رضوانه أعظم من ذلك النعيم المادي، وأنه تقريب روحاني قال تعالى: «وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» [التَّوْبَة: 72] » [4] ونحوه في الآيتين الأخريين، ففي«لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَار»قابل«جهنم» بــ «الجنات» ومتاع الحياة الدنيا بــ «ديمومة الخلود في الجنة»وفي قوله تعالى:«لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ » قابلها بقوله تعالى: «لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ياعِبَادِ فَاتَّقُون»[الزُّمَر:16] ووردت الآية الأولى بلفظ« لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ» الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وجملة «اتقوا» لا محل لها، لأنها صلة الموصول «وعند ربهم» ظرف متعلق بمحذوف حال من «جنات» لأنه كان في الأصل صفة لها، فلما تقدم عليها أعرب حالا«وجنات» مبتدأ مؤخر، [5] والآية الثانية والثالثة بلفظ«لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا» «لكن» مخففة مهملة لمجرد الاستدراك، و«الذين» مبتدأ، وجملة«اتقوا ربهم» صلة الموصول، «ولهم» جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، و«جنات» مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية خبر«الذين»، وجملة «لكن» مستأنفة[6]

الموضع الخامس من المتشابه اللفظي: «الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم»

السورة

رقم الآية بداية موضع الاستشهاد

نهاية موضع الاستشهاد

البقرة

[الآية:80] «وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ » «أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون»

آل عمران

[الآية:24] «ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ» «وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُون »

تتحدث الآيتان عن موضوع واحد وهو زعم اليهود بأنهم لن يدخلوا النار إلا أياما قلائلَ، ثم رد الله على زعمهم وكذبهم، وهذا هو التلقين الإلهي للحُجة الدامغة «أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ» فأين هو هذا العهد؟ «أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون» وهذا هو الواقع؛ فالاستفهام هنا للتقرير، ولكنه في صورة الاستفهام يحمل كذلك معنى الإنكار والتوبيخ. [7]

ومن اللطائف البلاغية في هاتين الآيتين؛ العطف في الأولى وخلو الثانية منها؛ قيل الواو لعطف الجملة على جملة «وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ» [البقرة: من الآية75] فتكون حالا مثلها، أي كيف تطمعون أن يؤمنوا لكم وهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه، ويقولون لن تمسنا النار، الواو عطف على قوله «يَكْتُبُونَ» [الْبَقَرَة: 79] إلخ أي فعلوا ذلك وقالوا «لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ» ووجه المناسبة أن قولهم «لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ» دل على اعتقاد مقرر في نفوسهم يشيعونه بين الناس بألسنتهم، قد أنبأ بغرور عظيم من شأنه أن يقدموا على تلك الجريمة وغيرها، إذ هم قد أَمِنُوا المؤاخذةَ إلا أياما معدودة تعادل أيام عبادة العجل، أو أياما عن كل ألف سنة من العالم يوم، وإن ذلك عذاب مكتوب على جميعهم، فهم لا يَتَوَقَّوْنَ الإقدام على المعاصي لأجل ذلك، فبالعطف على أخبارهم حصلت فائدة الإخبار عن عقيدة من ضلالاتهم، ولموقع هذا العطف حصلت فائدة الاستئناف البياني إذ يعجب السامع من جرأتهم على هذا الإجرام. [8]

كما أن الآيتين اختلفت في وصفها«الأيام» بالقلة؛ الأولى جاءت بالإفراد«معدودة» والثانية بالجمع «معدودات» قال ابن عاشور:« والوصف بمعدودة مؤذن بالقلة لأن المراد بالمعدود الذي يعده الناس إذا رأوه أو تحدثوا عنه، وقد شاع في العرف والعوائد أن الناس لا يعمدون إلى عد الأشياء الكثيرة دفعا للملل أو لأجل الشغل سواء عرفوا الحساب أم لم يعرفوه، لأن المراد العد بالعين واللسان، لا العد بجمع الحسابات إذ ليس مقصودا هنا، وتأنيث«معدودة» وهو صفة «أياما» مراعى فيه تأويل الجمع بالجماعة وهي طريقة عربية مشهورة ولذلك كثر في صفة الجمع، إذا أنثوها أن يأتوا بها بصيغة الإفراد، إلا إذا أرادوا تأويل الجمع بالجماعات وسيَأتي ذلك فِي قوله تعالى:« أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ»، [الْبَقَرَة: 184] » [9] ففي سورة البقرة جاء قوله تعالى: ««وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً » وفي سورة آل عمران جاء قوله تعالى: « لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ» معدودة جمع كثرة، ومعدودات جمع قلة؛  وقيل أو قائلي ذلك من اليهود فرقتان: إحداهما قالت: إنما نعذب بالنار سبعة أيام، وهي عدد أيام الدنيا، وقالت فرقة إنما نعذب أربعين يوما وهي أيام عبادتهم العجل، فآية البقرة يحتمل قصد الفرقة الثانية، وآية آل عمران يحتمل قصد الفرقة الأولى [10] وذكر ابن الزبير الغرناطي في كتابه«ملاك التأويل» أن آية البقرة فيها إيجاز، فناسب الإفراد الإيجاز، وآية آل عمران فيها إسهاب وتفصيل فناسب الجمع الإطناب يقول:«…  مع ما وقع في آية البقرة من الإيجاز، وفى الأخرى من الإطالة، ألا ترى قوله تعالى في آية آل عمران: «ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات» وفى البقرة:«وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة» وإخباره تعالى باغترارهم، ولم يقع في سورة البقرة تعرض لشيء من ذلك بل أوجز القول ولم يذكر سببه، فناسب الإفراد الإيجاز، وناسب الجمع الإسهاب ولو جمعه في سورة البقرة وأفرده في سورة آل عمران أو أفرد فيهما أو جمع فيهما لما ناسب، فورد كل على ما يناسب ويجب»[11]

ومما تميزت به الآية الأولى الاستفهام الإنكاري « قل اتخذتم عند الله عهدا» ثم الإيجاز في قوله«فلن يخلف الله» متعلق بمحذوف تقديره: «إن اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده»و « أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ» «أم» معادلة لهمزة الاستفهام» إما أن تكون معادلة بمعنى:  أي الأمرين كائن على سبيل التقرير للعلم بوقوع أحدهما، أو منقطعة بمعنى: بل أتقولون، على التقرير والتقريع..لأن العلم واقع بكون أحدهما. [12]

الموضع السادس من المتشابه اللفظي:« كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ »

السورة

رقم الآية بداية موضع الاستشهاد

نهاية موضع الاستشهاد

آل عمران

[الآية:28] «لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً» «وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِير»

آل عمران

[الآية: 30] « يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا » «وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَاد »

اتحدت الآيتان في نهايتهما في التحذير والتخويف من الله بنفسه، قال الطبري:« يعني تعالى ذكره بذلك، ويخوّفكم الله من نفسه أن تَرْكبوا معاصيه، أو توالوا أعداءه، فإن لله مرجعكم وَمصيركم بعد مماتكم، ويوم حشركم لموقف الحساب، يعنى بذلك: متى صرتم إليه وقد خالفتم ما أمركم به، وأتيتم ما نهاكم عنهُ من اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، نالكم من عقاب ربكم ما لا قِبَل لكم به، يقول: فاتقوه واحذرُوه أن ينالكم ذلك منه، فإنه شديد العقاب» [13]

لكنه اختلف ما عقب بكل من الآيتان، فقيل في الأولى: « وَإِلَى اللّهِ الْمَصِير» والثانية« وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَاد» وفي هذا  بيَّن ابن الزبير  الغرناطي سر اختلاف ذلك بقوله:« للسائل أن يسأل عن وجه تعقيب الأولى بقوله:« وَإِلَى اللّهِ الْمَصِير»» وتعقيب الثانية بقوله: وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَاد » والجواب عن ذلك أنه لما تقدم قبل الأولى قوله تعالى: «لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ» [آل عمران:28]فنهاهم سبحانه عن ذلك ثم أردف بالتحذير بقوله: «وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ» ثم استثنى سبحانه من ذلك حال التقاة فقال: «إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً»ثم قال«وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ »- أي عذابه – وإلى الله المصير – أي ومرجعكم إليه فلا يفوته هارب، فهذا كلام ملتحم جليل النظم والتنضيد، ثم أتبع هذا بإعلامه أنه سبحانه لا يخفى عليه شيء مما أكنوه أو أظهروه، فقال«قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير»[آل عمران:29] وقد أشارت هذه الآية العظيمة إلى علمه سبحانه بالجزئيات وقدرته عليها، ثم أخبر بأنه لا يغادر من أفعال عباده صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها فقال: «{ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا»[آل عمران:30]» ثم قال معيدا ومحذرا: «ويحذركم الله نفسه» وأعقب بقوله:«والله رؤوف بالعباد »، لما تقدم من التذكير والوعظ والبيان والتحذير المبني على واضح الأمر والتبيان، وذلك إنعام منه سبحانه وإحسان يستجر خوف المؤمنين العابدين، فناسبه التعقيب بذكر رأفته بعباده رفقا بهم وإنعاما وتلطفا، فقال: «والله رؤوف بالعباد» ولم يتقدم قبل الأولى ما تقدم قبل هذه متصلا بها وإنما تقدمها النهي عن موالاة الكفار والتبري من مواليهم بالكلية فناسبه ما أعقب به وناسب هذه ما أعقبت به» [14]

الموضع السابع من المتشابه اللفظي: « كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ »

السورة

رقم الآية بداية موضع الاستشهاد

نهاية موضع الاستشهاد

آل عمران

[الآية:24] «قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ» « وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير»

البقرة

[الآية: 284] «للَّهِ ما في السَّمَاواتِ وما في الأَرْضِ وإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِر لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّب مَن يَشَاء» [البقرة:284] «وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير»

 في هاتين الآيتين الكريمتين يتابع السياق التحذير ولمس القلوب، وإشعارها أن عين الله عليها، وأن علم الله يتابعها «قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ  وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير» وهو إمعان في التحذير والتهديد، واتقاء التعرض للنقمة التي يساندها العلم والقدرة، فلا ملجأ منها ولا نصرة، [15] ومع ما بين الآيتين من تشابه في اللفظ إلا إن هناك فروقا بينهما؛ حيث تقدم الإخفاء على الإبداء في قوله تعالى: «قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير»[آل عمران:24]» بينما قدم الإبداء على الإخفاء في قوله تعالى: « لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير» [البقرة:284] والنكتة في ذلك ما ذكره أبو السعود في تفسيره حيث قال:«قُلْ إِنَّ تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله» حيث قُدم فيه الإخفاءُ على الإبداء على عكس ما وقع في قوله تعالى« وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله» إذ لم يتعلق بإشعار أن المحاسبة بما يُخفونه أولى منها بما يُبْدونه بل الأمرُ بالعكس، وأما ههنا فقد تعلق بإشعار كونِ تعلقِ علمِه تعالَى بما يُسرّونه أولى منه بما يعلنونه غرضٌ مُهِمٌّ مع كونهما على السوية» [16] وذكر  ابن الزبير الغرناطي وجها آخر في ذلك حيث أتبع تعالى بتأكيد التحذير فقال: «ويحذركم الله نفسه» ثم قال: «وإلى الله المصير» فلما نهاهم عن المرتكب الذي امتاز المنافقين كان آكد شيء وأهمه إعلامهم بأنه سبحانه يعلم ما يخفون كعلمه ما يبدون لبناء المنافقين كفرهم على ما جهلوه، ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب فهذا وجه تقديم الإخفاء في آية آل عمران، أما آية البقرة فلم يجر فيها ذكر النفاق ولا صفة أهله وإنما الخطاب فيها وفي آية الدين قبلها وفيما أعقبت به بعد للمؤمنين فيما يخصهم من الأحكام فورد فيها قوله تعالى: «وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله» مقدما فيها بادي أعمالهم بناء على سلامة بواطنهم وتنزههم عن صفة المنافقين،ومنه قوله تعالى: « مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُون»[المائدة:99]، فتقدم ذكر ما يبدو لأنه خطاب للمؤمنين [17] وعطف قوله: «وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ» بالواو دون الفاء للدلالة على أن الحكم الذي تضمنه مقصود بالذات، وأن ما قبله كالتمهيد له، ويجوز أن يكون قوله: «وَإِنْ تُبْدُوا» عطفاً على قوله: «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ» [البقرة:283] ويكون قوله: «لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ» اعتراضاً بينهما، وإبداء ما في النفس: إظهاره، وهو إعلانه بالقول، فيما سبيله القول، وبالعمل فيما يترتب عليه عمل؛ وإخفاؤه بخلاف ذلك، وعطف «أَو تُخْفُوهُ» للترقي في الحساب عليه، فقد جاء على مقتضى الظاهر في عطف الأقوى على الأضعف، وفي الغرض المسوغ له الكلام في سياق الإثبات، وما في النفي يعم الخير والشر. [18]

كما أن في قوله تعالى:«قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله» حيث قُدم فيه الإخفاءُ على الإبداء لما ذُكر من السر، على عكس ما وقع في قوله تعالى«وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله» فإن الأصلَ في تعلق المحاسبة به هو الأمورُ الباديةُ دون الخافية  فقيل في الأولى«يعلمه الله» وفي الثانية «يحاسبكم به الله» [19]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، نشر الدار التونسية للنشر-تونس 3/183.

[2] الإيضاح في علوم البلاغة، الخطيب القزويني، تح: بهيج غزاوي، دار إحياء العلوم، بيروت، ص: 322.

[3] التحرير والتنوير 3/184.

[4] نفسه/184.

[5] إعراب القرآن الكريم وبيانه، محي الدين الدرويش، 1/405.

[6] نفسه 1/605.

[7] في ظلال القرآن، سيد قطب،1/85.

[8] التحرير والتنوير 1/580.

[9] نفسه 1/579-580.

[10] كشف المعاني في المتشابه من المثاني، أبو عبد الله، محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الكناني الحموي الشافعي، بدر الدين، تحقيق: الدكتور عبد الجواد خلف، الناشر: دار الوفاء ـ المنصورة، الطبعة: الأولى، 1410 هـ / 1990 م، ص: 103.

[11] ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل، ابن الزبير الغرناطي، وضع حواشيه: عبد الغني محمد علي الفاسي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، 1/47.

[12] أنوار التنزيل وأسرار التأويل، البيضاوي، المحقق: محمد عبد الرحمن المرعشلي، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الأولى – 1418 هـ، 1/90.

[13] جامع البيان في تأويل القرآن، أبو جعفر الطبري، المحقق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1420 هـ – 2000 م، 6/317.

[14] ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل، 1/81.

[15] في ظلال القرآن، 3/386.

[16] تفسير أبي السعود، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، أبو السعود، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت 4/186.

[17] ملاك التأويل1/73

[18] التحرير والتنوير 3/130.

[19] إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، أبي السعود، الناشر: دار إحياء التراث العربي

– بيروت، 1/119.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق