مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

عودة إلى التراث

لم تلبث بعض العقول العربية المثقفة، أن ترى في المتغيرات فرصة نحو الصحوة وسبيلا للنهضة، أبصرت من شرفاتٍ يوم يقظتها نوافذَ بعيدة تتسلل منها بعض الأشعة المضيئة، فتسارعت نحوها على غير عادتها، وكلها أمل أن تحمل لها رسائل النور مما لم تألفْه في رفوف مُدَّخرها المكنون؛ ذاك الذي قنطت من ترداده، وملَّت كلماته حتى همت بالقطيعة التامة معه، غير أنها لم تَشأ أن تُسيء الجزاء على جميل الإنعام وعظيم المغنم..تبينت قليلا ثم تمهلت حتى لا تُصدر ما تكون عاقبته المذمة فالحسرة فالغم.

إنها رسائل ذات إشراق!! و بديعُ مغزاها لا يقل عن نصاعة رؤاها. ولكم تشوفت لمُلهَم أفكار تحمل معاني الحياة الخيِّرة، وكمال النفس في الإنسانية، وهاهي ذي قد رَبَتْ في هذه الناحية وانبعث من عَرْفها شذى ممدود لامتناه، من مختلف الرؤى حول هذا العالم المتغير ومتعدد الفلسفات في تبصر دقائقه وأسراره، تحمل للبشرية ما ظنت تفقده، وتقدم لها دساتير يقظتها ومنبهاتٍ عن أخطائها وشرودها عن الحقيقة، كي تقودها نحو عالم فسيح متنور ملؤه الهدى، وسَناه الذكرى وعلَمُه السلام.

ما مصدر هذا الإشراق، وقد عمَّ الأرجاء، وسكن الأفئدة، وارتُضي بين العقول الراجحة؟ ولولاأنه من صلب ذاك الإقليم الأجنبي الكبير في أعين الضَّعَفَة الفكر، ماكان له هذا الشأن، بل ما رأو فيه نورا يبصرون به مراقدهم ومطاعمهم وأخبيتهم، إلا لأنه كذلك؛ أجنبيٌّ عن ثقافتهم غريب عن وطنهم وحضارتهم، تميزوا بالانتماء إليه؛ طمعا في تقوية أجنحتهم المتكسرة، وما تكسرت إلا بتذبذبها بين مختلف الهويات.

هكذا حال هؤلاء المساكين الذين لا يَخْبرون الرسائل ولا يَنْقدون بواطن الإشراق؛ لأن غايتهم تحقيق الرغبات الجامحة والسعي مع الضوضاء، والسَّعْد بسريع النفع مهما كانت طبيعته، وكيفما كان صنعه، وأيا كان مُنتِجه. وما تلك طبيعة العاقلين والعرفاء المثقفين والفقهاء الربانيين، الذين لا يبالون بالسطوع الظاهريحتى يَخْبُروا دقائق الأشياء ويخضعوها لمقاييس النقد والبنى المعرفية الصارمة التي لا تنحاز لبَنَاتها ولا لأمهاتها. بل إنهم مع ذلك يتحملون مرارة الكَد في سبيل نزع السطوع المزَيَّف المظنون لغير أهله، والمتزعم من طرف أعدائه، وذلك ما نطق به المنصفون من هؤلاء وهؤلاء:

عُد إلى رفوفك مكتبتك ياصاحبي وتصفح دفاترها، واقرأ من جديد ما ملِلت من ترداده، لكن لا بعقل قاصر، بل بنظر غير الذي رُبّيت عليه ونمط للتفكير فسيحة أنظاره، متوقدة بصائره، وهمة عالية تخوض غمار النصوص تفهم وتقارن، وتجدد وتناظر؛ فإن الذي أغواك على إصدارك حُكمَك الجائر على أنيسك منذ فطامك، هو قصورك في التفكير وضعف وعيك بمكنون جواهرك،فصرت في تُلُوٍّ لكل متعصب عليها لغاية في نفسه يروم قضاءها، أو جاهل لم يقرأ من فصولها إلا مقدمات أو تاريخا عن مضامينها، ولم يستوعب من علومها إلا سياقات عامة دون البنيات الداخلية التي تحوي دقائق وعجائب نُظُمها، على نحو ما قيل عن محمد بن إدريس الشافعي في نظرياته الأصولية؛ مُتَّهَما بتحيز أيديولوجي في تفكيك بنيات الخطاب الشرعي[1]، وعن أبي عبد الله البخاري في تأليف صحيح السنن؛ منسوبا إلى الوهم في جمعه[2]، بل أخطرُ منهما ما رُمِيت به تفاسير القرآن والحديث النبوي المشهود لها بالاعتبار؛ من مقالات تنسف كل ما قدمه روادهامن عظيم النفع وسَمِيِّ المعارف بدعاوى عابرة لم تصدر عن النقد العلمي المؤصل، بل ملؤها الأَدْلجة ومسلَّمات قابلة للتناظر.

حين تطمئن لهذه العودة سوف تغير من أحكامك؛ إذ ترى الرسائل التي أشرقت على طلعتك ماهي إلا نسخٌ من ذاكرتك التليدة، قُدمت للعالمين على نحو من الصياغة الجديدة تتناسب والخصوصيةَ الإقليمية التي وفد منها، ولَكَم جَار المنتفعون بها حين استضاؤوا بأنوارها، ثم تهجموا على منابعها المتفجرة، واستنفدوا حاجاتهم منها ثم نزعوا إلى رعونات العرقية التي لا تعرف معنىً للإنصاف، إلا حين يشد من عضد المركزية المزعومة للغرب؛ على أنها مصدر كل خير ومنبع كل فضيلة وسر كل نهضة. أو لا يعلمون أن “شمس العرب تسطع على الغرب”[3] وأن حضارة المسلمين وإرثهم الخالد لولاهما ما فتقت أزهار المعرفة في أرض أوربة وما حولها، وما كان ذاك النَّهم على المخطوطات العربية وتحقيقها وترجمة نصوصها. وإن العلم كل العلم مكنون في النصوص  التي تُحدث تغييرا في التاريخ وتسهم في التنوير، وتقدم رؤًى جديدة لواقع ثابت محدود، كي تجعل منه عالما متغيرا متطورا على ما تقتضيه عمارة الأرض بمفهومها القرآني الذي يضمن له السلام وقيم العدل والحرية. وهي سمات لا يحتاج الناظر في التراث العربي الإسلامي كبيرَ جهد لملاحظتها فيه، بل إنه يقدم نفسه جبلا شاهقا لا تدكه معاول الهدم الحاقدة، متوقدا بكل حاجات الإنسان في مختلف جوانب الحياة؛ ذلك أنه عصارة فكر تواطأت على تأسيس مبانيه أدمغة يشهد التاريخ بعظمتها وفرط ذكائها واتساع معرفتها، فضلا عن تنورها بالهدي النبوي الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيم حميد)[4].

فقد أبصر إذن ذلك المتَّهِم دوما لثقافته الأصيلة، المنحازُ بإعجاب لأولئك الذين يطعنون في نسبه، المهتمون بسلب نسله وتجريده من كل القيم الدينية والوطنية؛ خدمةً للمساعي العولمية التي لا تعير أي اهتمام حاجات الإنسان الروحية؛ تلك التي لا تنال ولا يستقر لها مقام إلا في بيئة تعرف للإنصاف قدره، وتحفظ للإنسان كرامته. بيد أن هذه الحقائق قُدِّر لها أن تنعت بسِيمَا التقليد وتصنف ضمن التاريخ البائد، وتمحى آثارها في عقول تشبعت برؤى حضارية أصيلة، كي تستبدل بها أخرى موهومةً حقائقها، مؤولة بما يراد لها من معاني التأويل، والحق أن لكل مفهوم حداثي مدلولا وسياقا ومرجعية متى ادعيت في جهة ما, لا يجوز بحال سلبها عن جهة أخرى مخالفة؛ فلكل سياقه ومنطلقه، يدرك ويوظف المفاهيم التي عليها مدار التغيير بما يتناسق ومرجعيته الثقافية[5]، وليست قوالب ناشئة على جمود لا تقبل المُقام إلا في مكان واحد، مثل مبادئ الحرية والعدالة والسلم ونحوها..فعلى من لم يع هذه الخصوصيات أن يستيقظ من وهم الغفلة، كي لا يُتلاعب به وهو ظان سيره على هدي مستقيم.

هكذا تقول بواطن تلكم الرسائل المشرقة التي تُلفت الناظرين المستعجِلين إلى الاغترار فالاستغراب (الميل نحو ثقافة الغرب) تُوهمهم في البداية أن مكمن السر من حيث هو جوهر النور وينبوع التقدم، آتٍ من حضارة ليست تلك التي إليها الانتماء العربي والإسلامي والتي منها نبع النور المعرفيوالثقافي، وما إن تذُر شمس الحقائق على طالبيها من هؤلاء حتى يدركوا أن الخلاص من الأزمة المعرفية والأدبية وغيرهما، إنما هو باستنطاق تراث الانتماء من جديد؛ طلبا لسلوك نهج الذي بنوا به تاريخا قل نظيره، على نحو لا ينبو عن متغيرات العصر، ولا يوقف عجلة المسير نحو المستقبل.

 والتراث العربي الإسلامي فيه من ثوابت المنطلقات ما يصلح لكل زمان مما هو من ثوابت العقل وأسس المعرفة، كما هو مؤسس على ثوابت الهدي الأخلاقي والديني الذي بعث به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العالمين (وما أرسلنك إلا رحمة للعالمين )[6]وتبقى المتغيرات مجالا للتنزيل بما يخدم حاجات الإنسان ويسعد البشرية ويؤلفها على قيم الرحمة والتآلف. وليس الخلاص بالتبعية للغير في عمى، والانصهار في عوالم لا تنعش أي أمل في روح الاستقلال والخصوصية، بل سعي -يلازمه الضعف السرمدي-في تقوية الآخر وخدمته، وهو صنيع عاقبته الندم ونتيجته الفراغ القاتل، ولكم تأسف المرتدون على أصولهم المعرضون عن أو طانهم، حين لم يُلْفوا عاصما يحصِّنهم سوى آبائهم وبني جلدتهم؛ فإن الأوطان قلما تتخلى عن ولدانها، وسعادتُها في تماسكهم تحت ظلال ثقافتها وأصالة حضارتها، ولا سيما إذا ازَّيَّنَت بنور منبعث من السماء يجلي عنها صدأ الأعراق القاتلة، والعنصرية القبلية، والعادات الجاهلية، ويحليها بمكارم الأخلاق ويهذب طبيعتها كي تقبل الآخر وتنصهر في مبادئ التواصل والتعارف، وروح الدين ومثله العليا، كي ترقى بالإنسانية نحو فضاء نوراني لا تشوبه مهلكات ولا تدنسه الموبقات..

هكذا تبدو العودة إلى التراث من آكد القرارات الفكرية التي ينبغي الذود عنها في سبيل النهضة وإحياء الثقافة المسددة بنور الوحي، ونشر المعرفة في كل تجلياتها، وإحياء ما اندرس من معالم النهج الوسط في الرؤى والقناعات، وبعث الإبداع المؤصَّل الذي يعود على العالمين بالنفع العميم؛ معرفيا وفنيا وثقافيا. ولا بد في كل ذلك من إيمان صادق وإخلاص عند الإفادة من نصوص هذا التراث؛ كي يقرأ بعيون مبصرة وقلوب واعية تقف على الظواهر والبواطن والكليات والجزئيات، وتجمع المفرق في نسق منتظم تتضح به المقاصد والنظريات والأحكام والحكم، ليدفع بهذا النهج الشامل كل القراءات التجزيئية للتراث إفادة منه أو تقويما له؛ فإن الأولى قد تسيئ في إصدار الأحكام الموروثة وتتعسف في تنزيلها على مستجدات الحياة، فينتج عن ذلك تنطع في الدين أو تقصير في ممارسته، والثانية تنتخب من نصوص التراث ما يفي بحاجاتها، وتؤول ما لم تر فيه مستندا لمذهب ناشئ عن تعصب، وبين هاتين القراءتين قراءات أسلمها من جعلت نصب عينيها: المنهج المستفاد من التراث نفسه، المتضمن للمبادئ العلمية والأخلاقية في القراءة والتقويم، والقيل في تبينها يفتقر لتحبير صفحات تطول، بيد أن هذه الإشارات يجمعها الوعي بأهمية التراث في الحياة المعاصرة، وأن السبيل الأمثل في النهوض يكمن في العودة المثلى إليه، بمنهج ينهض باستيعاب المتغيرات وفقه الثوابت، طلبا للإقلاع من جديد في مواصلة البناء وتشييد تاريخ جديد لهذه الأمة المعاصرة،  بما تبدعه لتلبية حاجاتها، على غرار ما بني به ماضيها العتيد.   والله الموفق والهادي لا إله إلا هو.


[1] – كتب الدكتور نصر حامد أبو زيد كتابا بعنوان: “الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية” ليرجع كل محاولات الشافعي الأصولية في تأصيل قواعد الفهم والاستنباط من النصوص وأثر الأدلية الكلية في الاجتهاد، إلى سياق أيديولوجي كان الشافعي في نظره يتحرك فيه ومن أجله, وحصل من ذلك أبو زيد وجوب “ألمراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر- لا من سلطة النصوص وحدها- بل من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا، علينا أن نقوم بهذا الآن، فورا قبل أن يجرفنا الطوفان” [الكتاب المذكور: 146]

[2] -كتابات كثيرة عن الطعن في صحيح البخاري والتشكيك في أحاديثه، من أواخرها كتاب: “صحيح البخاري: نهاية أسطورة” لمؤلف مغربي يدعى رشيد أيلال.

[3]– عنوان كتاب المستشرقة الألمانية سيغريد هونكه (1913-1999)

[4]– فصلت: 42

[5]– أفدت هذه الفكرة من كتابات للدكتور طه عبد الرحمن، ومن جملتها قوله: “فالرأي الذي نرتضيه هو أن الحداثة عبارة عن إمكانات متعددة، وليست كما رسخ في الأذهان إمكانا واحدا، وينهض دليلا على ذلك أن المشهد الحداثي الغربيليس بالتجانس المظنون، بل فيه من التنوع ما يجوز معه الكلام عن حداثات كثيرة لا حداثة واحدة…” [ روح الحداثة: 16]

[6]– الأنبياء: 107

د.الطيب شطاب

  • باحث متعاون بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. أحسنت سيدي، لكن كيف لا ينسلخ عن هويته، ويبتعد عن تراثه، من يجهلها، فأعداء الإسلام قديما وحديثا لا يدعون فرصة ليبعدوا بها عن الإسلام إلا نفدوها، حتى صار في زمننا من يتشبه بالغرب هو المتحضر، ومن يتمسك بتراثه هو المتخلف المتزمت، فصارت أعظم أمنيات شبابنا التشبه بالغرب في كلامهم، وفي نمط عيشهم.
    وإني أرى أن الحل الأمثل للعوة إلى التراث ، هو العودة بالناشئة إلى المسار الصحيح، وترسيخ العقيدة في نفوسهم، وتعريفهم بدينهم، وربط حاضرهم بماضيهم، حتى يعرفوا ثراهم ويعتزوا به، فهذا النهج هو الذي سلكه الناصحون، ولكم في ابن أبي زيد خير دليل، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق