مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

رسالة الشيخ ابن أبي زيد القيرواني إيرادات وأجوبة (14)

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده

وبعد فهذه أوراق في محاولة الذب عن هذا العلق النفيس «متن الرسالة» من خلال أجوبة عن إيرادات عليه تغض من قيمته الفقهية، وتزري بمكانته الاجتهادية؛ استنادا إلى تمهيد أسست على متين بنيانه إيرادات قادحة، سنوردها بعده واحدة واحدة محاولين تثويرها والإجابة عنها:

وقد أنيخت مطايا النظر في رحاب الإيراد الخامس، وبالضبط في الإبانة عن مكنون اختيارات الشيخ في رسالته، وقد مضت مدارسة خفيفة لاختيار التخيير، وانتخاب الإطلاق، واجتباء الإهمال، وفي هذا المعقد نقف عند ترجيح الشيخ الرأي خارج المذهب: وهي مسألة عزيزة جدا في الرسالة، ولم أجد لها إلا قوله: «وكره مالك المعانقة وأجازها ابن عيينة» فإن كانت إشارة لترجيح جواز المعانقة فذاك ما نبغي، وإن كانت مجرد تلميح إلى قصة مالك وابن عيينة فالشيخ على عهده في عدم الخروج على المذهب في رسالته.

وحاصل المسألة أن مالكا كره المعانقة سدا لذريعة المنكر كما قال الشيخ زروق، وأول حديث جعفر بكونه خاصا به؛ لأنه رأى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك إلا معه، وفي سياق هجرة واشتياق، قال ابن رشد: «ومالك يكره للرجال المعانقة والقبلة فيما بين العينين، ويرى ما جاء عن النبي عليه السلام في ذلك خاصا له»([1]) وأما ابن عيينة فما ظهرت له خصوصية؛ لفقدان دليلها فعمم، ولعل ملحظ الشيخ كذلك فنبه على قوله؛ تأييدا له، أو ذكره للقصة المشهورة بينه وبين مالك، فقد «روي عن علي بن يونس المدني قال: كنت جالسا عند مالك فإذا سفيان بن عيينة بالباب يستأذن، فقال مالك: رجل صاحب سنة، أدخلوه، فدخل فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. قال مالك: وعليكم السلام يا أبا محمد ورحمة الله وبركاته فصافحه مالك وقال: يا أبا محمد لولا أنها بدعة لعانقناك، فقال سفيان بن عيينة: عانق خير منك ومنا النبي عليه السلام، قال مالك: جعفر؟ قال: نعم، قال: ذلك حديث خاص يا أبا محمد ليس بعام. قال سفيان: ما يعم جعفر يعمنا إذا كنا صالحين، وما يخصه يخصنا، أفتأذن لي أن أحدث في مجلسك؟ قال: نعم يا أبا محمد. قال: حدثني عبد الله بن طاوس عن أبيه عن عبد الله بن عباس قال: «لما قدم جعفر بن أبي طالب من الحبشة اعتنقه النبي صلى الله عليه وسلم وقبل بين عينيه، وقال: ﴿جعفر أشبه الناس بي خلقا وخلقا﴾([2])

خاتمة

وبعد، فها قد أنيخت الركائب بما ناءت به في رحلتها الماتعة حول الشيخ ورسالته من غزير الفوائد وجم القواعد؛ إذ بدا من خلالها أن الشيخ ذو مكنة علمية أثيلة، وملكة راسخة أصيلة، وصناعة فقهية مكينة، تجلت فيما رأيناه من خلال مدارسة ملاحظ التخيير عنده، وأوجه الإطلاق لديه، وأسباب الإهمال لبعض المسائل في رسالته، وعلل ترجيح ما في الموطإ، أو المدونة أو خارجهما معا، وكذا نزوعه إلى ما ليس في المذهب كجواز المعانقة عند ابن عيينة، وتحت كل ذلك قواعد فقهية، ومآخذ أصولية، وأدلة شرعية، شجمته ما شجمته، قد أمطنا لثامها عنها في محلها، في صياغة فقهية ميسرة، وكليات منقحة، ومسائل مهذبة لا يرد عليها البتة ما رددنا من الإيرادات التي تبتغي القدح في الرسالة وقيمتها، والشيخ وأهليته، ودون ذلك خرط القتاد.

فهذا جهد قد بذل، تقصد مدارسة عما كنا بسبيله من مباحثه، فإن يكن من إصابة في الرأي، وسداد في القيل، فبفضل من الله وتمام توفيقه، وإلا فالنقص مشتمل على جملة البشر، ولربما أبصر العمي رشده، وأخطأ البصير قصده، وليس كل طالب بمنجح؛ إذ العلم لا يدرك ـ على التمام ـ غوره، ولا يسبر قعره، ولا تبلغ غايته، ولا يستقصى أصنافه، ولا يضبط آخره، وحسبي بعد النظر والاعتبار سمي إحساس بأني أتعلم، والحمد لله رب العالمين.

 

([1]) البيان والتحصيل:17/88

([2]) البيان والتحصيل:17/88

Science

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق