وحدة الإحياءدراسات عامة

تفنن المبرد في علوم القرآن

قال أبو العباس محمد بن يزيد المعروف بالمبرد النحوي المتوفى سنة 385هـ، في آخر خاتمة كتابه المشهور “الكامل في اللغة والأدب”…

ونذكر آيات من القرآن ربما غلط في مجازها النحويون، قال الله عز وجل: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ (آل عمران: 175). فمجاز الآية: أن المفعول الأول محذوف ومعناه يخوفكم من أوليائه. وفي القرآن ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ (البقرة: 185). والشهر لا يغيب عنه أحد، ومجاز الآية: فمن كان منكم شاهدا في بلده في الشهر فليصمه، والتقدير: فمن شهد منكم أي فمن كان شاهدا في شهر رمضان فليصمه، نصب الظرف لا نصب المفعول به. وفي القرآن في مخاطبة فرعون: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً﴾ (يونس: 92). فليس معنى ننجيك نخلصك، ولكن نلقيك على نجوة من الأرض ببدنك، بدرعك، يدل على ذلك: لتكون لمن خلفك آية. وفي القرآن ﴿يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ﴾ (الممتحنة: 1).

قبل تحليل قول أبي العباس المبرد نشير إلى ما قاله المؤرخ عبد الرحمن ابن خلدون “سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول فن الأدب وأركانه أربعة دواوين وهي: كتاب الكامل للمبرد، وأدب الكاتب لابن قتيبة وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع منها”[1].

وقال ابن خلكان: “كان إماما في النحو واللغة، وله التواليف النافعة في الدب منها: كتاب الكامل وكتاب الروضة والمقتضب وغير ذلك… وكان المبرد وأبو العباس أحمد بن يحيى الملقب بثعلب صاحب كتاب الفصيح عالمين متعاصرين قد ختم بهما تاريخ الأدباء، وفيهما يقول بعض أهل عصرهما وهو أبو بكر بن أبي الأزهر:

أيا طالب العلم لا تجهلن           وعذ بالمبرد أو ثعلـب

تجد عند هذين علم الورى        فلا تك كالجمل الأجـرب

علوم الخلائق مقرونة            بهذين في الشرق والمغرب

وكان المبرد يحب الاجتماع في المناظرة بثعلب والاستكثار منه، وكان ثعلب يكره ذلك ويمتنع منه…[2] وقال ابن خلكان: “حكى أبو القاسم بن حمدان الموصلي وكان صديقهما، قال: قلت لأبي عبد الله الدينوري ختن ثعلب: لم يأبى ثعلب الاجتماع بالمبرد؟ فقال: لأن المبرد حسن العبارة حلو الإشارة فصيح اللسان ظاهر البيان، وثعلب مذهبه مذهب المعلمين فإذا اجتمعا في محفل حكم للمبرد على الظاهر إلى أن يعرف الباطن”[3].

وكان المبرد كثير الأمالي حسن النوادر[4]. لما مات نظم فيه وفي ثعلب أبو بكر الحسن ابن العلاف أبياتا سائرة، وكان ابن الجواليقي كثيرا ما ينشدها[5].

ذهب المبرد وانقضت أيامه         وليذهبن إثر المبرد ثعلب

بيت من الآداب أصبح نصفه       خربا وباقي بيتها فسيخرب

فابكوا لما سلب الزمان ووطنوا     للدهر أنفسكم على ما يسلب

وتزودوا من ثعلب فبكأس ما       شرب المبرد عن قريب يشرب

وأرى لكم أن تكتبوا أنفاسه         إن كانت الأنفاس مما يكتب 

وقال عمر رضا كحالة من تصانيفه الكثيرة: الاشتقاق، احتجاج القراء، إعراب القرآن، المقصور والممدود، ونسب عدنان وقحطان، ثم ذيل ذلك بمصادر ترجمته الكثيرة والمهمة[6].

ومن كتبه المهمة أيضا كتاب: الفاضل في اللغة والأدب[7] وكذلك كتاب البلاغة[8] وله رسالة في أعجاز أبيات تغني في التمثيل عن صدورها[9] .

وذكر حاجي خليفة أن كتاب الكامل شرحه محمد بن يوسف المازني السرقسطي المتوفى سنة 538هـ وروى عنه هذا الكتاب أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش النحوي المتوفى سنة 315 وأشار إلى مقدمته ومنهجه فيها[10].

وكان المغاربة والأندلسيون بخاصة يحتفلون به احتفالا ومن ذلك على سبيل التمثيل لا الحصر: ما أورده ابن خير الاشبيلي في فهرسة ما رواه عن شيوخه وذلك في عنوان: “ومن كتب الآداب واللغات والشروحات وما يتصل بذلك من نوعه”[11] وما أورده ابن رشد السبتي في كتابه ملء العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة[12] وكذلك القاسم التجيبي السبتي كان الكامل من مروياته[13] وكذلك أبو جعفر أحمد البلوي[14].

ومن تلك العناية ما أورده أحمد بن القاضي المكناسي في جذوة الاقتباس في ترجمة أحمد بن عبد الجليل التدميري الذي سكن بجاية وقتا وألف بها لمحمد ابن علي بن حمدون وزير بني الناصر الصنهاجيين كتابا سماه “نظم القرطين، وضم أشعار السقطين” جمع فيه أشعار الكامل للمبرد والنوادر لأبي علي البغدادي…[15] ومن ذلك مرويات علي بن إبراهيم بن سعد الخير الأنصاري الذي من مصنفاته: اختصار العقد وجمع طرر أبي الوليد الوقشي وأبي محمد ابن السيد علي الكامل إلى زيادات من قبله عليهما وسماه بالقرط[16] وكان الكامل من مرويات محمد بن عبد الله الأنصاري الأوسي القرطبي المراكشي.

 وورد في ترجمة محمد بن علاقة القرطبي البواب: رحل إلى المشرق وأخذ عن أبي إسحاق الزجاج.. ومما سمع على الأخفش كامل المبرد وصار أصله منه إلى الحكم المستنصر بالله، قال الحكم: ولم يصح كتاب الكامل عندنا برواية إلا من قبل ابن علاقة[17]. المتوفى سنة 325هـ.ومن الطريف أن فاطمة بنت أبي القاسم عبد الرحمن الشراط القرطبية تلت على أبيها كامل المبرد وأمالي القالي وغير ذلك..[18].

وبناء على هذا يمكن القول إن كتب اللغة والأدب والأمالي والمجالس وكتب البلاغة والبيان والنقد حافلة بآراء أبي العباس المبرد ومن خلال ذلك يستطيع الباحثون أن يجمعوا آراءه في التفسير والنحو وغير ذلك[19].

ولا شك أن آراءه المبثوثة في مجالس العلماء لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي[20] وأمالي القالي[21] وأمالي السهيلي[22] وأمالي الزجاجي [23] وغيرها تبين لنا أهمية تفرده في الأحكام وعبقريته في التخريج والاستنباط.

وإذا أردنا أن نعرف دلالة ذلك نأتي بشهادة الشريف الرضي الشاعر صاحب الديوان العجيب وصاحب الكتب الفريدة كالمجازات النبوية[24]وتلخيص البيان[25] وحقائق التأويل في متشابه التنزيل[26] وغيرها من التحف والنوادر… قال الشريف في كتابه حقائق التأويل في متشابه التنزيل: “ولعمري إن الجاحظ لا يشق غبار محمد بن يزيد في علوم القرآن، والتفنن فيه واستنباط غوامض معانيه! وحكي لي عن أبي بكر بن مجاهد أنه كان يقول: “ما رأيت أحسن جوابا من المبرد في معاني القرآن لا سيما فيما ليس فيه قول لمتقدم”. ومن غريب كلامه في تأويل القرآن تفسيره أول آية في سورة النساء: ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ (النساء: 3). وهي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ (النساء: 1). قال: معناه على هيئة واحدة. قال: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ…﴾ (التوبة: 128). أي مثلكم، وقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ…﴾ (البقرة:54) أي أمثالكم كأنه تعالى قال: ليقتل بعضكم بعضا. قال ومعنى ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا[27]؛ أي جعل زوجها من جنسها ليسكن إليها، ولا يستوحش منها، وتسكن إليه ولا تستوحش منه. وعامة المفسرين على خلاف قوله في ذلك لأنهم يقولون: إن معنى قوله تعالى: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾؛ يعني به آدم عليه السلام، ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ يريد أنه سبحانه انتزع ضلعا من أضلاع آدم (ع) فخلق منه حواء وقول أبي العباس أحسن مقيسا وأثبت على الطريقة قدما[28].

وقال الشريف الرضي أيضا “فأما الكلام على معنى ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ فإن محمد بن يزيد المبرد قيل له هل في عدل ذلك عن اثنين وثلاثة وأربعة زيادة معنى لم تكن فيما عدل عنه، فأجاب بما ذكرناه من أن معناه مع التكثير، أي اثنين اثنين وثلاث ثلاث وأربع أربع. قال وإنما صار معناه على ذلك لأنه خطاب للجميع، فكأنه تعالى قال: لينكح كل واحد منكم اثنين إن شاء أو ثلاثا إن شاء أو أربعا وهذا كقوله تعالى: ﴿فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ (النور: 4). أي اجلدوا كل واحد منهم بهذه العدة. وفسر المبرد قوله تعالى: ﴿أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ بأن قال المراد بذلك أن الاثنين يقابلان الاثنين والثلاثة تقابل الثلاثة، والأربعة تقابل الأربعة ومثل ذلك قول الشاعر:

إلا إنما أهلي بواد أنيسة            ذئاب تبغي الناس مثنى وموحدا

قال فهذا لا يكون أبدا لاثنين فحسب ولا لواحد فحسب، إنما هو اثنان اثنان وواحد واحد. ثم حكى المبرد أن الجاحظ سئل عن قوله تعالى أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، فقيل له: كيف تكون الأجنحة ثلاثة، فقال: واحد في الوسط، فضحك منه وعلم أنه لا علم له بهذا الجنس.

ونريد هنا أن ننبه على مسألتين فحسب ولا نناقشهما، أما الأولى فقول الشريف الرضي (اثنتين اثنتين وثلاث ثلاث وأربع أربع) ونشم فيها رائحة التشيع في مذهبهم، وأما الثانية فمسألة التهوين من شأن الجاحظ الذي كان رأس المعتزلة. وهل صحيح أن لا يكون له علم بهذا الجنس؟ وهو الذي ألف البيان والحيوان؟

ومن الآيات التي أورد فيها للشريف الرضي تأويلا عجيبا: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾.

قال الشريف: قال بعضهم: معنى طمس الوجوه هو إزالة رسومها وتنكير معارفها، وهو معنى قوله: فنردها على أدبارها، أي نشبه الوجوه في محو الأسارير وإزالة التخاطيط بأقفائها، فقوله تعالى: ﴿فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ تفسير لطمس الوجوه، وهذا المعنى –والله أعلم– هو المراد بقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ﴾، فإن الوجوه إذا جعلت أقفاء كان إيتاء الإنسان كتابه من وراء ظهره على الحقيقة، ومن حيث يكون وجهه وفيه لسانه وطرفه لأنه إنما ينظر إلى كتابه بعينه ويقرأ مضمونه بلسانه، وذلك كله في وجهه. وهذا أحد العذابين الذي أوعد بهما الله تعالى، فيكون وقوع الطمس على الوجه المذكور في الآخرة، ويكون المقدم في الدنيا هو اللعن لهم وهذا هو العذاب الآخر وإلحاق الذم بهم كما قال تعالى: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ (النساء: 47).

وإلى هذا المعنى قصد أبو مسلم بن بحر في الكلام على هذا الآية، وكنت أظن أنه من اختراعاته حتى مضى بي لأبي العباس المبرد، وقد زاد فيه أن قال: وتغير شمائلهم فيعطون بها كتبهم فيكون ذلك هو المراد بقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ﴾، لأن الوجه إذا قلب صارت الشمال مكان اليمين واليمين مكان الشمال، فسمى الشمال باسمها الذي كان لها قبل قلب الوجه وإن كانت في تلك الحال بمنزلة اليمين للمرء[29].

وهكذا كثيرا ما نجد الشريف الرضي يركن في شرحه للمعاني والألفاظ إلى ما قاله المبرد، وحق له في ذلك، لأن أبا العباس كان يستقصي هذه المعاني استقصاء حتى تتضح جلية الأمر فيها ومن ذلك ما جاء في كتاب تلخيص البيان في مجازات القرآن[30] وذلك في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا﴾ قال الشريف الرضي: وهذه استعارة لأن المراد بالجرز ها هنا الأرض التي لا نبات فيها، وذلك مأخوذ من قولهم ناقة جروز إذا كانت كثيرة الأكل لا يكاد لحياها يسكنان من قضم الأعلاف ونشط الأعشاب ومن ذلك قولهم: سيف جراز إذا كان يبري المفاصل ويقط الضرائب، وقال محمد بن يزيد المبرد: السيف الجراز الذي لا يبقي من الضريبة شيئا. والأصل في هذه اللفظة أن تكون بمعنى الاستئصال. قال ومن أمثالهم: لا ترضى شائنة إلا بجرزة أي لا يرضين المبغضة فيمن أبغضته إلا بالاستئصال. وإنما سميت تلك الأرض جرزا إذا كانت كأنها تأكل نبتها فلا تدع منه نابعة ولا تترك طالعة، ونظير ذلك قولهم: أرض جداء وهي التي لا ماء فيها تشبيها بالناقة الجداء التي لا لبن فيها.

ومن الآيات التي استشهد فيها الشريف الرضي بقول المبرد قوله سبحانه: ﴿كَلَّا إِنَّهَا لَظَى. نَزَّاعَةً لِلشَّوَى. تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى﴾ (المعارج :15-17). قال الشريف[31] : وهذه استعارة والمراد بدعائها، من أدبر وتولى والله أعلم انه لما استحقها بإدباره عن الحق صارت كأنها تدعوه وتسوقه نحوها، وعلى ذلك قول ذي الرمة في صفة الثور:

غدا بوهنين مجتازا لمرتعه         بذي الفوارس تدعو أنفه الرِّبب[32] 

والربب جمع ربة: وهي نبت من نبات الصيف. يقول لما وجد ريح الربب نحوها فكأنها دعته إلى أكلها، وقد يجوز أن يكون أيضا المراد بذلك أنها لا يفوتها ذاهب ولا يعجزها هارب فكأنها تدعو الهارب منها فيجيبها مدا له بأسبابها وردا له إلى عذابها. قال بعض المفسرين: إنه يخرج عنق من النار فيتناول الكافر حتى يقحمه فيها فكأنها بذلك العمل داعية إلى دخولها. وقد يجوز أن يكون المراد أنها تدعو من أدبر عن الحق بمعنى أنها تخوفه بفظاظة الخبر عنها وتغليظ الوعيد بها فكأنها تستعطفه إلى الرشد وتستسرفه عن الغي وحكي عن المبرد انه قال: تدعو من أدبر وتولى أي تعذبه. وحكي عن الخليل أن أعرابيا قال لآخر دعاك الله أي عذبك الله، وقال ثعلب معنى دعاك الله أي أماتك الله. فعلى القول يدخل الكلام في باب الحقيقة ويخرج عن حيز الاستعارة.

ومن خلال هذه المذاكرة يتبين لنا أن الكتب التي ألفها القدامى في الألفاظ المختلفة في المعاني المؤتلفة [33] والألفاظ المترادفة المعنى[34] لم تأت بالمعنى الذي أورده المبرد، ويمكن أن تكون هذه الفائدة إضافة إلى تلك المعاني. وذلك في معنى العذاب بخاصة أما كلمة “دعي” فقد أوردها ابن مالك في كتابه الألفاظ المختلفة. ويتحصل لنا من هذا أن المبرد كان من أهل هذا الشأن. ومن أراد أن يرى تخريجاته الجيدة فلينظر كتب المالي والمجالس والمسائل[35] وغيرها كخزانة الأدب. وقد اعتمده أبو علي الفارسي في مواضع كثيرة من كتابه: المسائل العسكرية[36] وكتابه المسائل الحلبيات[37] الذي رجع فيه أبو علي الفارسي إلى كتاب المبرد: إعراب القرآن[38] فلينظر؛ وممن اعتمد آراءه أبو منصور الثعالبي وذلك في كتابه: ثمار القلوب في المضاف والمنسوب بخاصة. ومن ذلك في “مزامير داود”قال: قال المبرد: كأنها ألحانهم وأغانيهم[39] بينما قال محمد إسماعيل إبراهيم في معجم الألفاظ والإعلام القرآنية: أنزل الله تعالى عليه الزبور، وهو عبارة عن مجموعة من القصائد والأناشيد تتضمن تسبيح الله تعالى وتمجيده والثناء عليه.وكان داود عليه السلام يلحنها ويرددها بصوته الجميل أو بمزماره فتأخذ بمجامع القلوب وكانت الجبال والطيور تردد تسابيحه التي عرفت بالمزامير وقد علمه ربه كيف يصهر الحديد ويلينه… وصاحب الكتاب من المعاصرين أما ابن الزبير العاصمي الغرناطي فيذكر تسخيره سبحانه له الجبال وحشره له الطير منقادة إلى أمره وإلانته له الحديد وقلوب الآدميين أهون وأقرب[40]. وتظهر براعة المبرد في أنه يذكر أقوالا لم يقلها غيره ومن ذلك ما قاله ابن الأنباري[41] قال جحور السعدي:

أحجاج لولا الملك هنت وليس لي         بما جنت السلطان ملك يدان

قال ابن الأنباري: فمن ذكر السلطان ذهب إلى معنى الرجل.ومن انثه ذهب إلى معنى الحجة. قال بن يزيد البصري: من ذكر السلطان ذهب إلى معنى الواحد، ومن أنثه ذهب إلى معنى الجمع، وقال وهو جمع وواحده سليط، يقال سليط وسلطان كما يقال قفيز وقفزان وبعير وبعران وقميص وقمصان. ولم يقل هذا غيره وانظر مثل هذا الكلام بزيادة مفيدة عند ابن مكي الصقلي[42] قال: قال ابن النحاس في كتابه الكافي: السلطان أنثى وقد يذكر، ويقع للواحد والجميع. قال أبو العباس المبرد: هو جمع سليط…ومن هذا قيل للولي سلطان لأنه حجة الله، عز وجل، في الأرض، ويقال إنه مأخوذ من السليط وهو ما يستضاء به.

وذكر مكي الصقلي أيضا قال:[43] العضد تمثيل يراد به القوة كما أن الأرز الظهر ثم يستعمل للقوة. قال وحكي لنا عن ابن سليمان الأخفش عن محمد ابن يزيد المبرد أنه كان ينكر على من يقول: حروف الخفض تجعل بعضها في موضع بعض، وإنما ذلك عنده لضعف قائله في العربية، وهو مذهب البصريين[44].

ومما يتصل بهذا ما ذكره الشريف الرضي في مسألة زيادة الواو في قوله تعالى ولو افتدى به في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ (آل عمران: 91).

قال الشريف، وجه الكلام أن يقول: لو افتدى به بغير واو، فما معنى دخول الواو هنا والكلام غير مضطر إليها؟ فالجواب أن في ذلك أقوالا للعلماء فمنها وهو أضعفها أن تكون الواو ها هنا مقحمة كإقحامها في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ والمراد فتحت أبوابها.

قال الشريف: وأقول: إن لأبي العباس المبرد مذهبا في جملة الحروف المزيدة في القرآن، أنا أذهب إليه وأتبع نهجه فيه، وهو اعتقاد أنه ليس شيء من الحروف جاء في القرآن إلا لمعنى مفيد. ولا يجوز أن يكون لقًى مُطَّرحا ولا خاليا من الفائدة صفرا، وذلك أن الزيادات والنقائص في الكلام إنما يضطر إليها ويحمل عليها الشعر الذي هو مفيد بالأوزان والقوافي.

ومما استحسنه الشريف الرضي من توحيد المعاني قال: قال بعض العلماء[45] نظير قوله تعالى: ﴿هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ على التأويل في توحيد الأم وهي خبر لهن قول الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً﴾ (المؤمنون: 50). ولم يقل آيتين، لأن معناه وجعلناهما جميعا آية… قلت وقد قال أبو العباس المبرد في هذا المعنى قولا حسنا وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي يذكره كثيرا على وجه الاستحسان له، وهو انه قال: “إنما وحد سبحانه صفتهما فقال: جعلناهما آية – وهما اثنان: لأن المعنى الذي أعجز منهما شيء واحد وذلك أن مريم عليها السلام ولدت من غير ذكر، وولد عيسى عليه السلام من غير أب فلو كان هناك زوج لكان أباه وزوجها. فلما كان المعنى المعجز منهما شيئا واحدا حسن أن يقول سبحانه: جعلناهما آية وهما اثنان، وهذا حسن جدا وقد مضى من الكلام في هذه المسألة ما فيه مقنع بتوفيق الله تعالى.

بعد الإشارة إلى أهمية آراء المبرد في المسائل المشكلة والمبهمة التي كانت تعترض المفسرين واللغويين والنحويين والأدباء والبلاغيين نشير إلى أنه لو وصل إلينا كتابه في إعراب القرآن، وكذلك كتاب الجاحظ في هذا الميدان من بلاغة القرآن وبيانه وإعجازه لحظيت المكتبة الإسلامية بعلم غزير. ولكن السلف الصالح قد تركوا لنا كثيرا من آرائهما في بطون الأمهات من كتبهم، فلو جمعت وصنفت ورتبت ترتيبا على هيئة مخصوصة لاتضحت لنا معالم تفسير الجاحظ والمبرد أكثر. وللمبرد مزية. وهي أن بين أيدينا كتابه الكامل الحافل بالآيات القرآنية، وقد أوردها في أبواب مختلفة ومستشهدا بها في معان شتى، ويمكن أن نخلص من خلالها إلى مذهبه وطريقته في التفسير والإعراب والتأويل… ولا سيما في ذكره الشريف الرضي: “ما ليس فيه قول لمتقدم..!!.وقد أوضحنا شيئا من هذا القبيل.

وقد آن لنا أن ننظر في تلك الآيات التي أشار المبرد إلى أن النحويين يغلطون في مجازها. وبين أيدي الناس كتب كثيرة في نحو[46] القرآن وإعرابه ومجازه ومتشابهه[47] ونورد الآيات حسب ترتيب سورها في القرآن الكريم: البقرة: الآية 185 – آل عمران: الآية 175  – يونس: الآية 92- الممتحنة: الآية1 وسننبه على ما يظن أنه غلط من بعض النحويين في مجاز ذلك.

1. قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ (البقرة: 185). رأينا قول المبرد فيها قبل.

المعاني والإعراب

قال ابن قتيبة[48]: “والشهر منصوب لأنه ظرف ولم ينصب بإيقاع شهد عليه كأنه قال: فمن شهد منكم في الشهر ولم يكن مسافرا فليصم لأن الشهادة للشهر قد تكون للحاضر والمسافر.

وقال ابن جزي:[49].. أي كان حاضرا غير مسافر والشهر منصوب على الظرفية وقال مكي بن أبي طالب:[50] الشهر منصوب على الظرف ولا يكون مفعولا به لأن الشهادة بمعنى الحضور في المصر، والتقدير فمن حضر منكم المصر في الشهر فليصمه وقال الزمخشري[51]؛ أي حاضرا مقيما غير مسافر.. لأن المقيم والمسافر كلاهما مشاهدان للشهر.

وقال الفراء[52]:…الآية دليل على نسخ الإطعام. يقول: من كان سالما ليس بمريض أو مقيما ليس بمسافر فليصم ومن كان مريضا أو على سفر قضى ذلك.

وقال ابن حيان[53]: أي من كان حاضرا مقيما بصفة التكليف. وانتصب الشهر على الظرف، ومفعول شهد محذوف أي المصر والبلد، ومنكم في موضع الحال أي كائنا منكم. وقال أبو البقاء: منكم حال من الفاعل وهي متعلقة بشهد وقوله متناقض وقرئ بكسر لام فليصمه وسكونها، وقول ابن مالك إن فتحها لغة. وعزاها ابنه إلى سليم. وقال حكاه الفراء، قيده ابن عذرة بفتح حرف المضارع بعدها فإن ضمت أو كسرت نحو ليكرم وليتنزل فالكسر.

وقال ابن الأنباري[54]… لأن المسافر قد شهد الشهر ولا يجب عليه الصوم فيه فدل على أنه لا بد من إضمار المصر ولهذا قال فليصمه لأنه نصب المفعول به ولم يرده إلى الظرف الذي يجب إبرازه في موضع ضميره نحو اليوم صمت فيه.

تبيان الغلط

أ. قال ابن العربي[55] : قوله تعالى: فمن شهد…الآية محمول على العادة بمشاهدة الشهر. وهي رؤية الهلال – وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته.

وقد زل بعض المتقدمين فقال: يعول على الحساب بتقدير المنازل حتى يدل على ما يجتمع حسابه على أنه لو كان صحو لرئي. لقوله صلى الله عليه وسلم: فإن غم عليكم فاقدروا له. معناه عند المحققين: فأكملوا المقدار. ولذلك قال: فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما وفي رواية: فإن غم عليكم فأكملوا صوم ثلاثين ثم أفطروا. رواه البخاري ومسلم.

وقد زل أيضا بعض أصحابنا فحكي عن الشافعي أن قال: يعول على الحساب وهي عثرة لا لعا لها[56] هذا قول ابن العربي في المسألة الثالثة.

ثم قال في المسألة الرابعة: قوله تعالى: فمن شهد…الآية. فيه قولان: الأول: من شهد منكم الشهر وهو مقيم ثم سافر لزمه الصوم في بقيته قاله ابن عباس وعائشة. الثاني: من شهد منكم الشهر فليصم منه ما شهد وليفطر ما سافر. وقد سقط القول الأول بالإجماع من المسلمين كلهم على الثاني، وكيف يصح أن يقول ربنا سبحانه: فمن شهد منكم الشهر فليصم منه ما لم يشهد. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سافر في رمضان فصام حتى بلغ الكديد[57] فأفطر وأفطر المسلمون…

ب. وقال أبو زكريا يحيى الأنصاري[58]: … فإن قلت ما فائدة ذكر إعادة المريض والمسافر بعده؟ قلت رفع توهم نسخ التخيير بين الصوم والفدية بعموم قوله: فمن شهد منكم الشهر فليصمه.أو أن آيتها الأولى نزلت في تخييرها بين الصوم والفدية والثانية في تخييرها بين الصوم والإفطار والقضاء.

ج. وقال أبو البقاء العكبري في كلام طويل منه:[59]…ومفعول شهد محذوف أي شهد المصر، والشهر ظرف أو مفعول به على السعة… وإنما يقال شاهدت الهلال… والهاء في فليصمه ضمير الشهر وهي مفعول به على السعة وليست ظرفا. إذ لو كانت ظرفا لكانت معها “في”…

د. وقال الشيخ طنطاوي جوهري[60]:

فمن شهد… الآية.. أي هلال الشهر فليصمه. وخصصه بما بعده وهو قوله: ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر. ألا ترى أن المريض والمسافر قد شهد الشهر… فكلاهما شاهد وكلاهما مرخص له في السفر.

هـ. وقال العيني[61]:

…قلت أراد بهذا الرد على من قال إنه مفعول به. ومثَّل لما قاله بقوله: كقولك شهدت الجمعة، لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر.

و. وقال الجصاص في باب كيفية شهود الشهر[62]:

قال الله تعالى: (فمن شهد… الآية) وقال: (يسألونك عن الأهلة… الآية).وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال: حدثنا سليمان بن داود قال حدثنا حماد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الشهر تسع وعشرون ولا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه. فإن غم عليكم فاقدروا له” قال وكان ابن عمر إذا كان شعبان تسعا وعشرين نظر له فإن رئي فذلك، وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب أو قترة[63] أصبح مفطرا، وإن حال دون منظره سحاب أو قترة أصبح صائما. قال وكان ابن عمر يفطر مع الناس ولا يأخذ بهذا الحساب. قال أبو بكر: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم صوموا لرؤيته موافق لقوله تعالى: يسألونك عن الأهلة… الآية واتفق المسلمون على معنى الآية والخبر في اعتبار رؤية الهلال في إيجاب صوم رمضان… الخ. والكلام طويل…

ويظهر من خلال هذه التنبيهات أن هناك كثيرا من المفسرين الذي غلطوا وزلوا في تأويلهم لهذه الآية الأولى حسب رأي المبرد والله سبحانه وتعالى أعلم.

2. قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ (آل عمران: 175).

أ. أورد الشريف الرضي كثيرا من الآراء في هذه الآية وملخص ذلك: الجواب عن شبهة نخويف الشيطان أولياءه- جواز أن يكون المراد بالشيطان بعض الإنس- المخوفون هم أولياء الشيطان على الحقيقة – يراد بالشيطان الجنس.

قال الشريف: ومن سأل عن معنى قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ..﴾ الآية فقال: المعلوم أن الشيطان يخوف أعداءه لا أولياءه فما معنى هذا الكلام؟ فالجواب أن هذه الآية نزلت على سبب، كما جاءت به الرواية، وذلك أن النبي، صلى الله عليه وسلم، ندب الناس ثاني يوم أحد إلى إتباع المشركين، تقوية لقلوب أصحابه، وتجلدا على أعدائه، وكان بالمسلمين من جوائح الجراح ومواقع السلاح ما انتزع قواهم وأثر في تماسكهم حتى كان بعضهم يحمل بعضا عند خروجهم في هذا الوجه. ضعفا عن الاستمرار على المشي، والدوام على السعي، فلما ندب صلى الله عليه وسلم إلى الخروج قال المنافقون للمؤمنين على طريق التهييب لهم والمكر بهم: قد رأيتم ما لقيتم بالأمس من أعدائكم وأنتم في باحات دياركم ومدارج أقدامكم، حتى لم يفلت منكم إلا الشريد ولم ينج منكم إلا القليل، أفتصحرون لهم اليوم وقد قل عددكم وضعف جلدكم وأسرع القتل في رجالكم، فأوقع الشيطان قول المنافقين في قول بعض المؤمنين، فأنزل الله سبحانه: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ والمراد يخوفكم من أوليائه الذين هم المشركون أو يخوفكم بكثرة عدتهم وحدة شكوتهم.

وقد يجوز أن يكون المراد بالشيطان بعض الإنس..[64] الخ. وإذا تتبعنا مفهوم الشيطان وأوليائه في كتب التفسير وغريب القرآن وجدنا أن معانيها تكاد تكون متقاربة إلا أن الشريف الرضي أشبعها بحثا وتمحيصا كعادته في تدقيق المسائل والبحث عن غرائب معانيها في مختلف كتبه في المجاز كالمجازات النبوية ومجاز القرآن ومتشابهه.. ومن هذه الكتب تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة [65] وكتاب الغريب [66] ونزهة القلوب للسجستاني[67] والراغب الأصبهاني في المفردات[68] وقاموس القرآن للدمغاني[69] ونزهة الأعين النواظر للجوزي[70] وكشاف الزمخشري[71] وابن جزي في التسهيل[72]

والتبيان لابن الأنباري[73] والجامع لأحكام القرآن للقرطبي[74] والبحر المحيط لابن حيان[75] والمهر الماد[76] وغيرها كالعكبري والفراء.

تبيان الغلط

أورد ابن حيان في النهر الماد من البحر قال[77]:

قال ابن عطية.. وذلكم في الإعراب ابتداء. والشيطان مبتدأ آخر. ويخوف أولياءه خبر على الشيطان والجملة خبر الابتداء الأول. وهذا الإعراب خير في تناسق المعنى من أن يكون الشيطان خبر ذلكم لأنه يجيء في المعنى استعارة بعيدة.

قال ابن حيان: هذا الذي اختاره، إعراب لا يجوز إذا كان الضمير من أوليائه عائدا على الشيطان. لأن الجملة الواقعة خبر عن ذلكم ليس فيها رابطة يربطها بقول ذلكم. وليس نفس المبتدأ في المعنى نحو قولهم: هِجِّيرَى أبي بكر لا إله إلا الله. وإن كان عائدا على ذلكم، ويكون ذلكم خبرا عن الشيطان جاز وصار نظير: إنما هند زيد يضرب غلامها، والمعنى إذاك إنما ذلكم الركب أو أبو سفيان الشيطان يخوفكم أولياءه أي أولياء الركب أو أبي سفيان.

3. قوله تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً﴾ (يونس: 92).

– قال الراغب الأصبهاني: النجوة والنجاء المكان المرتفع المنفصل بارتفاعه عما حوله. وقيل سمي بذلك لكونه ناجيا من السيل، ونجيته تركته بنجوة وعلى هذا المعنى الآية فاليوم ننجيك…

– وقال الزمخشري[78]: ننجيك بالتشديد والتخفيف نبعدك مما وقع فيه قومك من قعر البحر… وقرئ ننجيك بالحاء أي نلقيك بناحية مما يلي البحر وذلك أنه طرح بعد الغرق بجانب البحر، قال كعب: رماه الماء إلى الساحل كأنه ثور.. وقرأ أبو حنيفة بأبدانك، وهو على وجهين: إما أن يكون مثل قولهم: هو بأجرامه يعني ببدنك كله وافيا بأجزائه أو يريد بدروعك.. وقرئ لمن خلقك بالقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر آلائه.

– وقال ابن كثير[79]: … ببدنك، قال مجاهد: بجسدك، وقال الحسن بجسم لا روح فيه، وقال عبد الله بن شداد سويا صحيحا أي لم يتمزق ليحققوه ويعرفوه.

– وقال أبو عمرو الداني[80]: ننحيك بالحاء المهملة وخلقك بالقاف قراءة ابن سنبوذ الشاذة.

– وقال القرطبي[81]: …ننجيك بندائك من النداء. قال أبو بكر الأنباري وليس بمخالف لهجاء مصحفنا إذ سبيله أن يكتب بباء وكاف بعد الدال لأن الألف تسقط من ندائك في ترتيب خط المصحف كما سقط الظالمات والسماوات (الظلمات – السموات) فإذا وقع بها الحذف استوى هجاء بدنك وندائك على أن هذه القراءة مرغوب عنها لشذوذها وخلافها ما عليه عامة المسلمين. والقراءة سنة يأخذها آخر عن أول…الخ.

تبيان الغلط (وفيها تنبيهات على الصواب أيضا)

أ. قال الدمعاني[82]: نجو: الخلاص من العقوبة، السلامة من الهلاك النجوة: التوحيد. النجوة من النجاة. قوله تعالى في سورة يونس (فاليوم …الآية، أي نلقيك إلى النجوة أي من ناحية اليم.

ب. قال ابن جزي[83]: ننجيك أي نبعدك مما جرى لقومك من الوصول إلى قعر البحر. وقيل نلقيك على نجوة من الأرض أي على موضع مرتفع.

ج. وقال مكي بن أبي طالب: ننجيك ببدنك قيل هي من النجاء أي نخلصك من البحر ميتا ليراك بنو إسرائيل..

د. وقال القرطبي[84]:… ببدنك: بجسدك لا روح فيه قال مجاهد: قال الأخفش وأما قول من قال: بدرعك فليس بشيء قال أبو بكر لأنهم لما ضرعوا إلى الله سألوه مشاهدة فرعون غريقا أبرزه لهم فرأوا جسدا لا روح فيه فلما رأته بنو إسرائيل قالوا نعم… فخرج الشك من قلوبهم.

4. قوله تعالى: ﴿يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ﴾ (الممتحنة:1) وفيها مسألة الوقف.

قال أبو عمرو الداني[85]:…قال نافع ويعقوب والقتبي: وإياكم: تام. وقال أبو حاتم هو وقف بيان. وقال ابن الأنباري هو حسن وكذلك هو عندي، وليس بتام ولا كاف لأن ما بعده متعلق به. والمعنى يخرجون الرسول ويخرجونكم لأن لا تؤمنوا؛ أي كراهة أن تؤمنوا.

وقال أبو يحيى زكرياء الأنصاري: وإياكم. وقف تام عند الجميع وقيل وقف بيان وقيل حسن، ولا أحب شيئا من ذلك لأن ما بعده متعلق به.

وبما أن هذه المسألة تتعلق بالوقف فإن معناها متعلق به أيضا وبذلك يظهر الصواب والخطأ.

بيان الغلط:

قال أبو يحيى الأنصاري: وإياكم. وقف تام… الكلام السابق.

وخلاصة القول: إننا لو حاولنا جمع أقوال المبرد في كتابه الكامل وفي كتب التراث، لاجتمع لدينا حصيلة مهمة من الأفكار والآراء الموجهة توجيها حسنا تنم عن عقل راجح وفطنة عجيبة، وسأحاول في بحث لاحق جمع بعض تفسير المبرد من خلال كتابه الكامل بخاصة.

(انظر العدد 3 من مجلة الإحياء)

الهوامش

  1. مقدمة ابن خلدون ص553 (علم الأدب) الفصل 36.
  2. وفيان الأعيان لابن خلكان 4/313 – 314.
  3. المرجع نفسه 314.
  4. المرجع نفسه.
  5. المرجع نفسه 319.
  6. معجم المؤلفين، تراجم مصنفي الكتب العربية لعمر رضا كحالة 12/114. دار أدباء التراث.
  7. حققه عبد العزيز الميمني الراجكوني. وتقديم محمد أبو الفضل إبراهيم ديسمبر 1955.
  8. تحقيق وتقديم الدكتور رمضان عبد الثواب ط، 2، 1405 – 1985 نشر مكتبة الثقافة.
  9. نوادر المخطوطات بتحقيق عبد السلام هرون ضمن مجلد ص 163.
  10. كشف الظنون لحاجي خليفة 2/1382.
  11. فهرسة ابن خير الاشبيلي 320.
  12. وهي رحلته المشهورة تحقيق الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة 2/56/66/103/243/244.
  13. برنامج التجيبي تحقيق عبد الحفيظ منصور ص 283.
  14. ثبت أبي جعفي أحمد بن علي البلوي الواد الوادي آشي ص 320.
  15. جذوة الاقتباس في ذكر من حل من الأعلام مدينة فاس. ق1 ص 138 ترجمة 83.
  16. الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي س 5 ق1 ص 188 ترجمة 372.
  17. الذيل والتكملة 6/288 – 433 – 463.
  18. المرجع نفسه س8 ق2 ص 490 ترجمة 269.
  19. انظر مثلا: كتاب ارتشاف الضرب من لسان العرب لأبي حيان الأندلسي فإن فيه حوالي 180 إحالة على المبرد وتعد إحالات ابن مالك الفارسي والفراء وابن عصفور وسيبويه والأخفش من أغنى الإحالات وأوسعها.
  20. انظر ص 84 – 86 – 94 – 98 – 167 – 265.
  21. انظر ص 30 – 31 – 33 – 45 – 69 – 73 – 92 – 96.
  22. انظر ص 53 – 98.
  23. انظر الإحالات في 37 موضعا.
  24. مطبوع
  25. مطبوع: عالم الكتب.
  26. مطبوع دار الأضواء بيروت.
  27. حقائق التأويل في متشابه التنزيل للشريف الرضي شرح محمد الرضا آل كاشف الغطا ص 307/309 دار الأضواء بيروت.
  28. المرجع نفسه 307 – 308.
  29. حقائق التأويل 353 – 354.
  30. وهو للشريف الرضي، عالم الكتب، مكتبة النهضة العربية ط1/ 1406/1986.
  31. تلخيص البيان 304.
  32. في الديوان: أمسى بوهنين مجتازا لمرتعه من ذي الفوارس تدعو أنفه الريب ط1 المكتب الإسلامي 1384–1964.
  33. ككتاب ابي مالك الطائي الجيباني المتوفى سنة 672 – تقديم وتحقيق محمد حسن عداد ص 166 باب المونت: مات، فات، فطس، رهق، تلف، هلك، فاد، قاد، فاظت نفسه، قضى نحبه، دعي فأجاب.
  34. كتاب أبي الحسن الرماني المتوفى سنة 384 بتحقيق فتح الله المصري ص 73 الموت والردى: الموت والحتق والمنون والسام والحمام والردى والحين والثكل والوفاة والهلك وشعوب والمنية.
  35. انظر كتاب المسائل المنثورة لأبي علي الفارسي ت 377هـ ص 107 – 222- 271 – 275 مط، مجمع اللغة دمشق وذلك في : ولات حين مناض – ومسألة النكرة – في المسمى: الرجل منطلق – مسألة حذف سراويل.
  36. تحقيق دراسة محمد الشاطر ط1، 1403.
  37. تقديم وتحقيق د. حسن هنداوي دار القلم دمشق. دار المنارة بيروت ط1، 1407 – 1987.
  38. انظر مثلا: ص 12..66 الخ…
  39. ثمار القلوب ص 57 عدد 69 ط، دار المعارف ذخائر العرب 57.
  40. ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل لأبي جعفر أحمد بن الزبير العاصمي الغرناطي 2/970 دار الغرب الإسلامي ط1، 1403 – 1983.
  41. الزاهر لأبي بكر الأنباري 2/29 دار الرشيد 1399 – 1979.
  42. تثقيف اللسان وتلقيح الجنان ص 216 تحقيق د. عبد العزيز مطر دار المعارف.
  43. المرجع نفسه 356 – 357.
  44. انظر الخصائص لأبي جني 2/306 والمغني 1/111.
  45. حقائق التأويل 6.
  46. كمعاني القرآن وإعرابه للفراء والأخفش وابن أبي طالب القيسي وابن خالوية والزجاج والنحاس والعكبري وابن حيان وابن الأنباري وكتب هؤلاء مطبوعة هذا بله ما يوجد من الأعراب في كتب كالجامع للقرطبي وغيره
  47. أما كتب المتشابه وما يلتبس في القرآن وكتب التأويل والإعجاز والمجاز فكثيرة منها لهؤلاء بالإجمال: تأويل المشكل لابن قتيبة ليحيى بن سلام ودرة التنزيل للإسكافي والبرهان للكرماني وفتح الرحمن لأبي زكرياء الأنصاري وكتب الإعجاز للرماني والخطابي والجرجاني والزملكانين والباقلاني والسيوطي في معترك الأقران. أما مجاز أبي عبيدة فيصنف مع كتب الغريب فحسب.
  48. غريب القرآن ص 73 عدد 184.
  49. التسهيل 1/71.
  50. مشكل إعراب القرآن 1/87.
  51. الكشاف.
  52. إعراب القرآن للفراء.
  53. البحر المحيط 1/178.
  54. البيان في غريب إعراب القرآن لأبي البركات ابن النباري 1/
  55. أحكام القرآن لابن العربي 1/72.
  56. أي لا انتعاش منها ولا إقالة.
  57. موضع بالحجاز بين عسفان وأمج الكديد والكديد (معجم البلدان لياقوت).
  58. فتح الرحمن.
  59. إملاء ما من به الرحمن ص81.
  60. الجوهر في تفسير القرآن الكريم المشتمل على عجائب بدائع المكونات وغرائب الايات الباهرات مجلد1 ص 176.
  61. عمدة القاري 18/105.
  62. أحكام القرآن 1/201 دار الفكر.
  63. القترة: الغبار.
  64. حقائق التأويل ص 271.
  65. انظر ص 222.
  66. انظر 116/175.
  67. مادة شيط.
  68. مادة شيط.
  69. مادة شيط.
  70. كذلك.
  71. انظر 1/481.
  72. انظر تفسير الآية.
  73. انظر 1/231.
  74. انظر 4/282 – 283.
  75. انظر 1/405.
  76. إملاء ما من به الرحمن 1/158.
  77. مفردات الراغب نجو.
  78. التفسير 3/526.
  79. التعريف في اختلاف الرواة عن نافع ص 80.
  80. الجامع 8/379 – 318.
  81. الأشباه والنظائر ن، ج، ز.
  82. التسهيل 98.
  83. الجامع 8/379.
  84. المكتفى في الوقت والابتداء ص 563.
  85. المقتصد لتلخيص ما في المرشد في الوقف والابتداء ص 84.
Science
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق