مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعيندراسات عامة

تفاريع فقهية مبنية على أنظار وروايات الصحابة رضي الله عنهم (5) حُكْمُ البَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ

تقديم

 لقد أوجب الله تعالى على عباده أوامر يسعدون في امتثالها، ويفوزون في الدنيا والأخرى بالتزامها، وأقام لهم عبادات وشعائر تكون لهم سبيلا لحفظ أنفسهم عن الميل إلى غير سبيل الرشد الذي ارتضاه لهم، وجعل الصلاة عمدة تلك العبادات، وركن تلك الطاعات، فأكد سبحانه على مرتبتها وأهميتها في كتابه العزيز، وشرَّع رسوله صلى الله عليه وسلم تفاصيل أحكامها في سنته النبوية العطرة، فلم يختلف المسلمون في أصل مشروعيتها، ولا في عدد ركعاتها ولا في أفعالها وهيئتها العامَّة، فكانت بذلك شعيرة إسلامية يلتقي عليها أهل الملة قاطبة، وشعاراً ظاهرًا يميَّز به أهل الإسلام، حتى صار المسلمون يسمَّون بـ (أهل القبلة)، كناية على أنهم جميعا يتجهون إلى جهة واحدة في كل صلواتهم.

واقتضت الحكمة الإلهية أن يقع الاختلاف في بعض أحكام الصلاة التفصيلية –كما في غيرها من الشرائع- لأسباب تعدُّ من بِنْيَة الشريعة أوجبَت ذلك وحتَّمته، ومن أمثلة تلك الاختلافات، مسألة قراءة البسملة {بسم الله الرحمن الرحيم} في بداية الصلاة، على اعتبار أنها آية من الفاتحة، أو آية من مطالع كل السور سوى التوبة، والاختلاف في مسألة البسملة في الصلاة مبني على النظر في جهتين اثنتين؛ الأولى منهما: الاختلاف في إثبات كون البسملة آية من فاتحة الكتاب أم ليس آية منها. والثانية: اختلاف الروايات عن الصحابة الكرام في النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة قراءةَ البسملة في الصلاة بينَ مثبتٍ ونافٍ([1])، ومن ثمَّ فإن عرض الروايات والأنظار في هذه المسألة سيشمل هذين الجانبين معًا.

المذهب الأول: قراءة البسملة غير مشروعة في صلاة الفريضة وهي في النافلة على التخيير؛ وهو مذهب المالكية

ذهب السادة المالكية إلى القول بكراهة البسملة في صلاة الفريضة، وجوازِ قراءتها في النافلة دون كراهة، ومذهبهم مبنيٌّ على قولهم: إن {بسم الله الرحمن الرحيم} ليست آية من القرآن الكريم إلا في سورة النمل، ومبني أيضا على رواياتٍ ثبتت لديهم نصَّت على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض الصحابة لم يكونوا يقرؤونها في صلاتهم بعد تكبيرة الإحرام.

ومن أشهر أدلتهم على ذلك؛ ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِداجٌ –ثلاثا-، غيرُ تَمَامٍ». فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام. فقال: اقرأ بها في نفسك. فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى: ‌قَسَمْتُ ‌الصلاة بيني وبين عبدي نِصفين، ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين}، قال الله تعالى: حمِدَني عبدي. وإذا قال: {الرحمن الرحيم}، قال الله تعالى: أثْنَى عليَّ عبدي. وإذا قال: {مالك يوم الدين}، قال: مجَّدني عبدي. وقال مرَّة: فوَّضَ إليَّ عبدي. فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين}، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم (—) صراط الذين أنعمت عليهم (—) غير المغضوب عليهم ولا الضالين}، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل»([2]).

وفي هذا الحديث دليلان على أن البسملة ليست آية الفاتحة:

  • «أحدهما: أنه قال: يقول العبد: {الحمد لله رب العالمين}. ولو كانت منها لكان يقول فإذا قال: {بسم الله الرحمن الرحيم}.
  • والآخر: إخباره بأنها نصفان، وهذا لا يمكن إلا أن تكون أولها {الحمد لله رب العالمين} وإلا كان أكثرَ مِن نصفها»([3]).

وبذلك فإن الحديث «قد تضمن ما يبتدئ به المصلي. فلو كان {بسم الله…} آية منها؛ لبدأ بها»([4]).

يقول ابن عبد البر: «وأما قوله في هذا الحديث قال تعالى (قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرؤوا: يقول العبد {الحمد لله رب العالمين}». فبدأ بـ {الحمد لله رب العالمين} ولم يقل: {بسم الله الرحمن الرحيم}. فهذا أوضح شيء وأبينه أن {بسم الله الرحمن الرحيم} ليست آية من فاتحة الكتاب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ بـ {الحمد لله رب العالمين}؛ فجعلها آية، ثم {الرحمن الرحيم} آية، ثم {مالك يوم الدين} آية. فهذه ثلاث آيات لم يختلف فيها المسلمون، وجاء في هذا الحديث أنَّها له تبارك اسمه، ثم الآيةُ الرابعة جعلها بينه وبين عبده، ثم ثلاث آيات لعبده تتمةُ سبعِ آيات، فهذا يدل على أن {أنعمت عليهم} آية، ثم الآية السابعة إلى آخر السورة، وهكذا تكون نصفين بين العبد وبين ربه؛ لأنه قال في قوله {اهدنا الصراط المستقيم} إلى آخر السورة: فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل»([5]). «وقد أجمعت الأمة أن فاتحة الكتاب سبع آيات»([6]).

ولم يخلُ تأويلُ غير المالكية لهذا الحديث لإخراجه عن ظاهره مِن تكلُّفٍ، لقصد بيان أن المراد من التَّنْصِيفِ فيه ليسَ عدد الآيات([7]).

واستدلوا أيضا بما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِـ {الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} لَا يَذْكُرُونَ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا فِي آخِرِهَا»([8]).

والحديث بظاهره دالٌّ على أنهم لم يكونوا يقرؤونها، إلا أنه تُؤُوِّل ممن خالف المالكية بأنهم كانوا لا يجهرون بها([9])؛ لأن قول أنس بن مالكٍ رضي الله عنه يحتمل أنه لم يسمعها، لا أنهم لم يكونوا يقرؤونها، ولهذا قال الإمام المازري: «وهذا إن تأولوه على أنه كان يخفيها، فإن ظاهرَه خلافُ ذلك؛ لأنه نفى الذِّكْرَ على الإطلاق»([10]).

ثم إن الحديث قد وقع فيه من الاضطراب ما جعله محلَّ تأويلات مختلفة، ومحاولاتٍ للجمع وأخرى للترجيح، فتمسَّك كل مذهبٍ بروايةٍ منه تؤيد ما ذهب إليه، وفي ذلك يقول ابن عبد البر: «وهو –أي حديث أنس- في الموطأ موقوف ليس فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روى هذا الحديثَ عن أنس: قتادة وثابت البُناني وغيرهما، كلهم أسندَه وذَكَر فيه النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم اختُلِف عليهم في لفظه اختلافا كثيرا مضطربا متدافعا؛ منهم من يقول فيه: كانوا لا يقرؤون {بسم الله الرحمن الرحيم}، ومنهم من يقول: كانوا لا يجهرون بـ {بسم الله الرحمن الرحيم}، وقد قال بعضهم فيه: كانوا يجهرون بـ {بسم الله الرحمن الرحيم}، وقال بعضهم: كانوا يقرؤون: {بسم الله الرحمن الرحيم} ومنهم من قال: كانوا لا يتركون {بسم الله الرحمن الرحيم}، ومنهم من قال: كانوا يفتتحون القراءة بـ {الحمد لله رب العالمين}.

وهذا اضطرابٌ لا تقوم معه حجة لأحد من الفقهاء. وقد رُوِي عن أنس أنه سُئل عن هذا الحديث، فقال: كَبِرْنَا ونَسِينَا»([11])، والحديثُ إذا تطرق إليه الاحتمال بهذا القدر، سقط الاحتجاج به، فلا يقوِّي أحدَ المذاهب ولا يضعِّف الآخر.

واستدل المالكية أيضا بما رواه ابن عبد الله بن مغفل، أنه قال: سمعني أبي وأنا في الصلاة أقول: {بسم الله الرحمن الرحيم}، فقال لي:«أَيْ بُنَيَّ، مُحْدَثٌ، إِيَّاكَ وَالْحَدَثَ، قَالَ: وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَبْغَضَ إِلَيْهِ الْحَدَثُ فِي الْإِسْلَامِ -يَعْنِي مِنْهُ-، قَالَ: وَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ وَمَعَ عُمَرَ وَمَعَ عُثْمَانَ فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقُولُهَا، فَلَا تَقُلْهَا، إِذَا أَنْتَ صَلَّيْتَ فَقُلِ: {الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ([12]). وهو صريحٌ غايةً في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعدِه لم يكونوا يقرؤون {بسم الله الرحمن الرحيم} في الصلاة، إلا أن الحديث قد ضُعِّف، فقد نقل الزيلعي عن الإمام النووي أنه قال: «‌وقد‌ضعَّف ‌الحفاظ‌ هذا‌ الحديث، ‌وأنكروا‌ على‌ الترمذي تحسينه، كابن خزيمة، وابن عبد البر، والخطيب، وقالوا: إن مداره على ابن عبد الله بن مغفل، وهو مجهول»([13]).

واستدلوا أيضا بحديث أُبَيِّ بن كعب، فقد روى مالكٌ عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، أن أبا سعيد مولى عامر بن كريز، أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى أبيَّ بن كعب وهو يصلي، فلما فرغ من صلاته لحِقه، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على يده وهو يريد أن يخرج من باب المسجد، فقال: «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى تَعْلَمَ سُورَةً، مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا»، فقال أُبيّ: فجعلت أُبْطِئُ في المشي رجاء ذلك، ثم قلت: يا رسول الله، السورةَ التي وعدتني. قال: «كَيْفَ تَقْرَأُ إِذَا افْتَتَحْتَ الصَّلَاةَ؟» قال: فقرأت عليه {الحمد لله رب العالمين} حتى أتيت على آخرها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هِيَ هَذِهِ السُّورَةُ، وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُ»([14]).

والدليل في الحديث «أنه لم يذكر التسمية، ولم ينكر ذلك عليه، فدل على أنها ليست منها»([15])، يقول المازري: «فلم يقرأ {بسم الله الرحمن الرحيم} حين قرأ الفاتحة. فلو كانت البسملة منها لأنكر عليه تركها حين قرأ جملة {الحمد لله…} دونها»([16]).

ومما استدلوا به أيضا على أن البسملة ليست آية من القرآن في بدايات السور، أنه قد وقع فيها الاختلاف، فلم تبلغ مرتبة التواتر الذي يُعدُّ شرطا من شروط ثبوت القرآن؛ «لأنه لا طريق إلى إثبات القرآن إلا بنقل متواتر يوجب العلم ويقطع العذر، أو بإجماع الأمة، ولا يثبت بنقل أحاد ولا بقياس ولا ما يؤدي إلى غلبة الظن، وليس هاهنا إجماعٌ ولا نقلٌ تقوم الحجة به، فلم يجز إثباتها من الفاتحة»([17])، فلما غايرت طريقةُ إثبات البسملة طريقةَ إثبات باقي القرآن، كان ذلك دليلا على أنها ليست قرآناً، أي إنهم «لما لم يَنْقُلوا كون البسملة قرآنا كما نَقَلُوا غيرها، ولا ظَهَرَ ذلك فيهم كما ظهر في غيرها من الآي، وجب القطع على أنها ليست من القرآن»([18])، ويدُلُّ لهذا «قولُه تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}([19])، والاختلاف موجود في {بسم الله الرحمن الرحيم}، فعلمنا أنها ليست من كتاب الله؛ لأنه تعالى قد نفى الاختلاف عن كتابه بما تلونا، وبقوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}([20])»([21]).

كما استدلوا أيضا بدليل قويٍّ، وهو عمل أهل المدينة، حيث إنه جرى العمل فيها على الصلاة بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وباقي مساجد المدينة على ترك البسملة في الصلاة، وعمل أهل المدينة إنما هو نقل مستفيض للسنة العملية التي كان عليها رسول الله، وجرى عليها الخلفاء وكبار الصحابة بعده، من غير إنكار ولا خلاف، «فإن الصلاة ‌تقام ‌بينهم من عهده عليه السلام إلى زمن مالك مع الجمع العظيم الذي يستحيل تواطؤهم على الكذب، فنَقْلُهُم لذلك بالفعل كنقلهم له بالقول، فيحصل العلم فلا يعارضه شيء من أخبار الآحاد»([22]).

المذهب الثاني: وجوب قراءة البسملة؛ وهو مذهب الشافعية

ذهب السادة الشافعية إلى أن البسملة آية من الفاتحة، واختلف قول الإمام الشافعي في عدِّها آية في باقي السور عدا سورة التوبة، والذي عليه جهور أصحابه أنها آية قطعا من الفاتحة، وآيةٌ حكمًا من باقي السور، ومعنى كونها آيةً حكما أي: «في وجوب قراءتها، وتَعَلُّقِ صحة الصلاة بها»([23]).

وأقوى أدلتهم على ذلك، كونُ البسملة قد أُثبتت في مصاحف عثمان رضي الله عنه، وهي مصاحف أجمع عليها الصحابة رضوان الله عليهم، فقد «أجمعوا على أن ما بين الدفتين قرآن، وكانت {بسم الله الرحمن الرحيم} مكتوبة في أول كل سورة بخط المصحف، فدل إجماعهم على أنها من كل سورة»([24]).

وذلك «بخلاف الأعشار وتراجم السور، فإن العادة كتابتُها بحُمْرَةٍ ونحوِها، فلو لم تكن قرآنا لَمَا استجازوا إثباتها بخط المصحف من غير تمييز؛ لأن ذلك يُحمَل على اعتقاد أنها قرآن، فيكونون مغرِّرين بالمسلمين، حاملين لهم على اعتقاد ما ليس بقرآنٍ قرآنًا، فهذا مما لا يجوز اعتقاده في الصحابة رضي الله عنهم»([25]).

وقد أجاب المالكية بأجوبة عديدةٍ عن سبب إثبات البسملة في مصاحف عثمان رضي الله عنه، وكلها أجوبةٌ وجيهةٌ قويَّةٌ، كما ردَّ الشافعية عن تلك الأجوبة، ثم لم تخل ردودهم من مناقشاتٍ ترِد عليهم، وعَرْضُ ذلك مما يطول به المقام، ولكنَّ فائدةَ معرفةِ وجود تلك الردود، أن يرتسِم في ذهن المسلم أن المسألة خلافية قويَّة، وأن كل مذهبٍ يستند إلى أدلة وحجج معتبرة، ومن ثمَّ فلا إنكار في مثل هذه المسائل على المخالف.

كما استدل الشافعية بروايات أخرى، منها ما روي عن نعيم المجمر قال: «صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَرَأَ بـ {ِبِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، ثُمَّ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ حَتَّى بَلَغَ {وَلا الضَّالِّينَفَقَالَ: آمِينَ، وَقَالَ النَّاسُ: آمِينَ، وَيَقُولُ كُلَّمَا سَجَدَ: اللهُ أَكْبَرُ، فَإِذَا قَامَ مِنَ الْجُلُوسِ، قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ، وَيَقُولُ إِذَا سَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»([26]).

ومحلُّ الحجية في الحديث هي قوله: «إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»؛ فذلك صريح من أبي هريرة رضي الله عنه في كون صلاته أفعالا وأقوالا موافقة لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قويٌّ، إلا أنه يَرِدُ عليه أن إطلاق الشَّبه بين الصلاتين لا يستلزم التطابق التامَّ في كل الأوجه كما يدلُّ على ذلك مدلول (الشَّبَهِ) في اللغة، وقد ثبت من طرق أخرى أنه صلى الله عليه وسلم لم يقرأ بـ {بسم الله الرحمن الرحيم}.

واستدلوا أيضا بما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا قرأ وهو يؤم الناس ‌افتتح الصلاة بـ {بسم الله‌ الرحمن الرحيم}». قال أبو هريرة: «هي آية من كتاب الله، اقرءوا إن شئتم فاتحة الكتاب فإنها الآية السَّابعة»([27]).

وهذا مع الذي قبلَه يؤكِّد أن ذلك مذهبُ أبي هريرة رضي الله عنه، ولولا معارضَةُ أدلَّة قوية له –كما سبق في مذهب المالكية- لكان حجة لا منازع فيها، وينضاف إلى هذا حديثٌ آخرُ يعزز مذهبَ أبي هريرة في المسألة، وهو ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «{الحمد لله رب العالمين} سبع آيات بـ {بسم الله الرحمن الرحيم} وهي السبع المثاني وهي أم القرآن وفاتحة الكتاب»([28]). والراجح في هذا الحديث أنه موقوف على أبي هريرة لا مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال الدارقطني: «ورواه ‌أسامة ‌بن ‌زيد، ‌وأبو ‌بكر ‌الحنفي، ‌عن ‌نوح ‌بن ‌أبي ‌بلال، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة موقوفا، وهو أشبهها بالصواب»([29]).

واستدلوا أيضا بما رواه عبد الله بن أبي مليكة، عن أم سلمة أنها ذكرت -أو كلمةً غيرها-: «قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم {بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين}، يقطِّع قراءته آية آية»([30]).

المذهب الثالث:سنية قراءة البسملة في الصلاة؛ وهو مذهب الحنفية والحنابلة

لقد ذهب السادة الحنفية([31]) والسادة الحنابلة([32]) إلى القول بسنية قراءة البسملة في الصلاة وليس الوجوب، وهم في ذلك يستندون إلى أدلة الفريقَيْن السابقَيْن مِن حيث العموم، مع محاولة للتوفيق بينها على وجه يُعمِل من النصوص في الباب أكثر مما يُهمِل، فاستندوا إلى أدلة المالكية في القول بأن البسملة ليست آية من الفاتحة ولا في مطالع باقي السور عدا التوبة التي لا بسملة في مطلعها اتفاقا، واستندوا إلى أدلة الشافعية في اعتبار البسملة وقراءتها في الصلاة؛ وذلك حكماً لا قرآنيةً، فتوسطوا وقالوا بالسنية مراعاة للأدلة المقابِلة، ولذلك قالوا بسنيتها لا بوجوبها، وقالوا بسنية الإسرار بها لا الجهر، فتُحمَل على ذلك الأحاديث التي وردت بعدم ثبوت البسملة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته وكذا بعض الصحابة على أنهم لم يجهروا بها لا على أنهم تركوها أصلا.

وقول الحنفية والحنابلة هذا وإن كان جمعًا بين الأدلة، إلا أنه -ضرورةً- لا يُمَكِّن من إعمال كل الروايات الواردة في الباب، لورود بعض الأحاديث التي تنص على ترك البسملة، ولكنها مع ذلك تُعمِل من الأدلة أكثر مما تُهمِل كما سبق ذكره.

ولعل السيوطي رحمه الله قد نحى منحى آخر للجمع كان فيه مُعمِلاً لكل النصوص الواردة في الباب، ونَنقل ما ذكره في شرحه على موطإ الإمام مالك حيث قال: «قد كثرت الأحاديث الواردة في البسملة إثباتا ونفيا، وكِلا الأمرين صحيح: أنه صلى الله عليه وسلم قرأ بها وترك قراءتها، وجهر بها وأخفاها.

والذي يوضح صحة الأمرين ويزيل إشكال من شكك على الفريقين معا -أعني من أثبت كونها آية من أول الفاتحة وكلِّ سورة، ومن نفى ذلك قائلا إن القرآن لا يثبت بالظن ولا يُنفَى بالظن- ما أشار إليه طائفة من المتأخرين أن إثباتها ونفيَها كلاهما قطعي، ولا يُستَغرب ذلك، فإن القرآن نزل على سبعة أحرفٍ، ونزل مرَّات متكررة، فنزل في بعضها بزيادةٍ وبعضِها بحذفٍ، كقراءة (ملك) و (مالك)، و (تجري تحتها) و (من تحتها) في براءة، و (إن الله هو الغني الحميد) و (إن الله الغني) في سورة الحديد. فلا يشك أحد ولا يرتاب في أن القراءة بإثبات الألف و (من) و (هو) ونحو ذلك متواترة قطعية الإثبات، وأن القراءة بحذف ذلك أيضا متواترة قطعية الحذف، وأن ميزان الإثبات والحذف في ذلك سواءٌ، وكذلك نقول في البسملة: إنها نزلت في بعض الأحرف ولم تنزل في بعضها، فإثباتها قطعيٌّ وحذفُها قطعيٌّ، وكلٌّ متواترٌ، وكلٌّ في السَّبْعِ، فإن نصف القُرَّاء السبعة قرؤوا بإثباتها، وبعضهم قرؤوا بحذفها، وقراءة السبعة كلها متواترة، فمن قرأ بها فهي ثابتة في حرفه متواترة إليه، ثم منه إلينا. ومن قرأ بحذفِها فحذفُها في حرفه متواتر إليه ثم منه إلينا.

وألطفُ مِن ذلك أن نافعا له راويان، قرأ أحدُهُما عنه بها والآخر بحذفها، فدل على أن الأمرين تواترا عِنده بأنْ قرأ بالحرفين معا، كلٌّ بأسانيدَ متواترة، فبهذا التقرير اجتمعت الأحاديث المختلفة على كثرة كل جانب منها، وانجلى الإشكال وزاح التشكيك»([33]).

ختامًا

من المهم جدًّا الإشارة إلى مسألة دقيقة تتعلق بالاختلاف حول كون البسملة آية من القرآن الكريم في بدايات السور سوى سورة التوبة أم ليس كذلك. وهو أنه قد أجمعت الأمة على أن من أنكر شيئا ثابتًا من القرآن الكريم فقد كفر، ومن زاد شيئا في القرآن الكريم مما ليس منه أيضا فقد كفر. فهل يتنزَّل هذا الحكم في مَن اختَلف مِن الأئمة والمذاهب مِن بعدِهم في البسملة، فيكفُرُ كل فريق بلازم قول الفريق الآخر؟

وقد سبق عرض ما ذكره الإمام السيوطي في هذا الباب من كون كِلا مسلكي النفي والإثبات للبسملة ثابتٌ متواتر، وهذا المسلك لا يرِد عليه ما نحن بصدد بيانه، وإنما يرد على من لم يسلك هذا المسلك في اعتبار كلٍّ من إثبات البسملة ونفيها متواتر، وهو ظاهر أقوال المتقدمين من أئمة المذاهب، مع ذلك فقد حرص الفقهاء على البيان والتحذير من الخطإ في تكفير المخالف في هذه المسألة، ولنعرض نموذجين مختارين من أقوال المذاهب المختلِفة في قرآنية البسملة في الفاتحة، لكنها اتفقت على عدم تكفير المخالف:

قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله: «ولا يُكَفِّرُنَا [يعني القائل بكراهة قراءة البسملة في الصلاة، وهم المالكية] في البسملة إجماعا، كمثبتها، خلافا لمن وهِم فيهما؛ لِما تقرر أن الأصح أن ثبوتها ظني لا يقيني، ولا تكفير بظني ثبوتا ولا نفيا، بل ولا بيقيني لم يصحَبه تواتر وإن أُجمِع عليه، كإنكار أن لبنت الابن السدس مع بنت الصُّلب»([34]).

قال الإمام المازري رحمه الله: «فإثبات الشيء قرآنا قطعا ويقينا حتى يكفر من خالفه إنما يحصل بالنقل المتواتر الموجب للعلم الضروري الذي لا يمكن فيه اختلاف ولا امتراء. ككون بسم الله الرحمن الرحيم من القرآن في أثناء سورة النمل. وأما إثبات تعلق الأحكام بما اقتضاه مضمون ما نقل منه آحادا كقراءة من قرأ في كفارة اليمين فصيام ثلاثة أيام متتابعات ففيه اضطراب بين أهل الأصول، هل يجب التتابع ويكون هذا كخبر واحد ورد بإيجابه أو لا يجب؛ وهذا يستقصى في كتب الأصول»([35]).

————–

إن مناهج العلماء في تدبير الخلاف وتنظيمه وتقعيده، جعلت منه ثروة علمية عظيمة، تقدّم للإنسان الإمكانات التي تدخل تحت مظلة الشَّرع في أبهى صورة وأنفع مضمون، فيستفيد منها وفق المقتضيات واللوازم والقواعد التي تتيح النهل من معين الأحكام، وبقدر الجهل بقواعد تدبير الخلاف وآدابه، بقدر ما ينتج في الواقع من فتن وشقاق وتمزق في جسد الأمة، وما هذه النماذج البسيطة إلى نافذة على أرضٍ واسعة خصبة، تُنبِت النفع من كل جوانبها وفي كل حين.

والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، والحمد لله رب العالمين.

 ([1]) – بداية المجتهد لابن رشد (1/132).

 ([2]) – أخرجه مسلم في «صحيحه» (كتاب الصلاة ، باب وجوب قراءة الفاتحة فِي كل ركعة).

 ([3]) – الإشراف لعبد الوهاب البغدادي (1/ 234).

 ([4]) – شرح التلقين للمازري (1/ 569).

 ([5]) – الاستذكار لابن عبد البر (1/ 452).

 ([6]) – الاستذكار لابن عبد البر (1/ 453).

 ([7]) – انظر: المجموع للنووي (3/338) وما بعدها.

 ([8]) –أخرجه البخاري في «صحيحه» (كتاب الأذان، باب ما يقول بعد التكبير). ومسلم في «صحيحه» (كتاب الصلاة، باب حجة من قَالَ لا يجهر بالبسملة).

 ([9]) – المغني لابن قدامة (2/150).

 ([10]) – شرح التلقين للمازري (1/ 569).

 ([11]) – التمهيد لابن عبد البر (2/ 247-248 ت بشار).

 ([12]) –أخرجه النسائي في «المجتبى» (كتاب الافتتاح، باب ترك الجهر ب بسم الله الرحمن الرحيم). والترمذي في «جامعه» (أبواب الصلاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في ترك الجهر بـ بسم الله الرحمن الرحيم). وابن ماجه في «سننه» (أبواب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب افتتاح القراءة).

 ([13]) – نصب الراية للزيلعي (1/ 332).

 ([14]) –أخرجه مالك في «الموطأ» (كتاب الصلاة، ما جاء في أم القرآن). «هذا مرسل صحيح الإسناد» المطالب العالية لابن حجر (14/ 433).

 ([15]) – الإشراف لعبد الوهاب البغدادي (1/ 235).

 ([16]) – شرح التلقين للمازري (1/ 570).

 ([17]) – الإشراف لعبد الوهاب البغدادي (1/ 233).

 ([18]) – شرح التلقين للمازري (1/568).

 ([19]) – النساء 82.

 ([20]) – الحجر 9.

 ([21]) – الاستذكار لابن عبد البر (1/ 453-454).

 ([22]) – الذخيرة للقرافي (2/ 179).

 ([23]) – حلية العلماء للشاشي (2/ 103).

 ([24]) – الحاوي الكبير للماوردي (2/ 106).

 ([25]) – المجموع للنووي (3/ 336).

 ([26]) –أخرجه النسائي في «المجتبى» (كتاب الافتتاح، باب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم).

 ([27]) –أخرجه الدارقطني في «السنن» (كتاب الصلاة، ‌‌باب وجوب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة والجهر بها واختلاف الروايات في ذلك).

 ([28]) – أخرجه أبو داود في «سننه» (كتاب الصلاة، باب فاتحة الكتاب). والترمذي في «جامعه» (أبواب فضائل القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في فضل فاتحة الكتاب).

 ([29]) – العلل للدارقطني (8/ 148).

 ([30]) – أخرجه أبو داود في «سننه» (كتاب الحروف والقراءات). والترمذي في «جامعه» (أبواب القراءات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب في فاتحة الكتاب).

 ([31]) –المبسوط للسرخسي (1/15). بدائع الصنائع للكاساني (1/203). الهداية في شرح البداية للمرغيناني (1/50).

 ([32]) – المغني لابن قدامة (2/148). المبدع في شرح المقنع لابن مفلح (1/383). الإنصاف للمرداوي (3/430).

 ([33]) – تنوير الحوالك للسيوطي (1/ 79).

 ([34]) – تحفة المحتاج في شرح المنهاج للهيتمي (2/ 36).

 ([35]) – شرح التلقين للمازري (1/ 567).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق