مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

النَّسَقُ القرآنيُّ الكلّيّ وأنساقُنا الذّهنيّة الجزئيّةُ

سأثيرُ مشكلةً تتعلّقُ بالتّلقّي، تلقّي المَرء للخطابِ القُرآنيّ بأدواتٍ ضعيفةٍ ضحلةٍ أغلبُها خَواطرُ وأوهامٌ:
كَثيراً ما نَشكو العَجزَ عن مُتابَعَة المَعاني القُرآنيّة الدّقيقَة والرَّبط بينَها وتأليف المَعْنى العامّ، عندَ التلاوَة، وقد يَخرُج الواحدُ منّا من القراءَة كَما دَخَلَ فلا يَعقلُ مَعْنى ولا يقفُ على جَواهرَ ودررٍ، وأنّه إنْ عَزَمَ على اكتشافِ بعضِ تلك المَعاني فعلَيْه أن يَكتفيَ بتدبّر بعض الآياتِ فقط، والاستعانةِ بأمّهات التّفاسير…
والذي يَبدو في تَفسير أسبابِ هذه المُشكلةِ، أنّ أحَدَ الأسبابِ ذاتيٌّ مَحضٌ، ومفادُه أنّنا لا نَقْوى على مُوافَقَة الأنساق اللغويّة والبلاغيّة والمنطقيّة والرّوحيّة العَميقَة التي تُؤلِّفُ مُجتمعةً نَسَقَ الخطابِ القرآنيّ، ولا نَقَعُ عليْها ولا نُواكبُها سرعةً وعُمقاً وقوَّةً؛ فأنساقُنا الذّهنيّة بَطيئةُ الحَرَكَة مُهلهلَة النَّسْجِ مَعطوبةٌ بكثرة أحوال المادّة ومَطالبِ الجسمِ والرُّكون إلى العاداتِ القَديمَة في تَفسيرِ الأشياء، ولذلك تحتاجُ الأنساقُ الذّهنيّةُ منّا لاسْتصلاحِها إلى تَرويضٍ مُستمرّ وتَدريبٍ متواصلٍ على الغَوصِ على مثلِ هذه الهَيئاتِ الخفيّةِ واستكشافِ تلك الأنساقِ والنُّظُم الدّقيقَة المَحجوبَة، ولا شَكّ أنّ عَجزَنا راجعٌ إلى الانجذابِ إلى هيئاتنا العقليّة السّطحيّة البسيطة في الرؤيةِ والتّفكيرِ، فكلُّ ما حَوْلَنا يَحولُ دون غَوصِنا ويجذبُنا لنطْفُوَ عَلى سطح الأمور وسذاجة التّفكير، حتّى أهواؤُنا ومشاغلُنا ومُحيطنا المتغيّر كلُّ أولئكَ يزيدُ في الشّدّ والتّقييد.

سأثيرُ مشكلةً تتعلّقُ بالتّلقّي، تلقّي المَرء للخطابِ القُرآنيّ بأدواتٍ ضعيفةٍ ضحلةٍ أغلبُها خَواطرُ وأوهامٌ:

كَثيراً ما نَشكو العَجزَ عن مُتابَعَة المَعاني القُرآنيّة الدّقيقَة والرَّبط بينَها وتأليف المَعْنى العامّ، عندَ التلاوَة، وقد يَخرُج الواحدُ منّا من القراءَة كَما دَخَلَ فلا يَعقلُ مَعْنى ولا يقفُ على جَواهرَ ودررٍ، وأنّه إنْ عَزَمَ على اكتشافِ بعضِ تلك المَعاني فعلَيْه أن يَكتفيَ بتدبّر بعض الآياتِ فقط، والاستعانةِ بأمّهات التّفاسير…

والذي يَبدو في تَفسير أسبابِ هذه المُشكلةِ، أنّ أحَدَ الأسبابِ ذاتيٌّ مَحضٌ، ومفادُه أنّنا لا نَقْوى على مُوافَقَة الأنساق اللغويّة والبلاغيّة والمنطقيّة والرّوحيّة العَميقَة التي تُؤلِّفُ مُجتمعةً نَسَقَ الخطابِ القرآنيّ، ولا نَقَعُ عليْها ولا نُواكبُها سرعةً وعُمقاً وقوَّةً؛ فأنساقُنا الذّهنيّة بَطيئةُ الحَرَكَة مُهلهلَة النَّسْجِ مَعطوبةٌ بكثرة أحوال المادّة ومَطالبِ الجسمِ والرُّكون إلى العاداتِ القَديمَة في تَفسيرِ الأشياء، ولذلك تحتاجُ الأنساقُ الذّهنيّةُ منّا لاسْتصلاحِها إلى تَرويضٍ مُستمرّ وتَدريبٍ متواصلٍ على الغَوصِ على مثلِ هذه الهَيئاتِ الخفيّةِ واستكشافِ تلك الأنساقِ والنُّظُم الدّقيقَة المَحجوبَة، ولا شَكّ أنّ عَجزَنا راجعٌ إلى الانجذابِ إلى هيئاتنا العقليّة السّطحيّة البسيطة في الرؤيةِ والتّفكيرِ، فكلُّ ما حَوْلَنا يَحولُ دون غَوصِنا ويجذبُنا لنطْفُوَ عَلى سطح الأمور وسذاجة التّفكير، حتّى أهواؤُنا ومشاغلُنا ومُحيطنا المتغيّر كلُّ أولئكَ يزيدُ في الشّدّ والتّقييد.

وبناءً على هذه العلّة يتعيّنُ على كلّ قارئٍ أن يَتجرّدَ من نزوعه الذّاتي بل يروّض نفسَه على سرعة التّخلّصِ من الانكفاء إلى باطن ذاته التي تَحجبُ عنه الحَقائقَ، ولا يَزالُ المرءُ يتدرَّبُ المرّة تلو الأخرى حتّى يَكتسبَ بعض المَهارَة في الانفكاك من أحوال الذّات السّطحيّة والمقامات المتغيّرةَ ويَلتحقَ بركبِ المَعاني القرآنيّة العَميقَة.

ثقل الأمانة المنزلة عبر الخطاب القرآني تستلزم خفة أحوال الروح والفكر، أما الهبوط المادي والروحي فلا يمكن من حمل الأمانة الثقيلة التي تنوء بحملها الجبال الشم.

إذا تمَّ له هذا اليُسرُ والسّلاسَةُ في الانفكاكِ عن ذاته ووُضوح الرّؤيَة فسيُدركُ أنّ القرآنَ الكريمَ ألّفَ كثيراً بينَ المَعاني المُختَلِفَة في السّورَةِ الواحدَةِ، وألقى بيْنَها تَداعياً معْنويّاً ونَظميّاً، ولَمْ يكُن يَسترْسِلُ في الحَديثِ عَن الجِنْسِ الواحِدِ اسْترسالاً يَبعثُ عَلى المَلَل، ولَم يكُن يَنتَقلُ من مَعْنىً إلى آخَرَ انتقالاً يُخرجُه إلى حَدّ المُفارَقاتِ التي تَجْمعُ أشتاتاً من غيْرِ نِظامٍ. فَلَم يكُن يَدَعُ الأجناسَ المختلفةَ والأضدادَ المُتباعدَةَ حَتّى يُجاورَ بيْنَها ويُبرِزَها في صورَةٍ مُؤتَلِفَةٍ، وحتى يجعلَ من اختلافِها نَفسِه قوامًا لائْتِلافِها؛ فَتقويمُ النَّسَقِ وتَعديلُ المزاجِ بين الألوان والعناصرِ المُختلِفة أشدُّ عناءً من تَعديلِ أجزاءِ العُنصُرِ الواحدِ.

فالعِبْرَةُ في كلِّ ذلِك: النّظرُ إلى النّظامِ المجْموعِ والسّلْكِ العامِّ المُنتَظمِ. وقد ضَربَ الأستاذُ محمَّد بن عَبد الله دَرّاز، رَحمَه الله، مثلاً بسورةِ البقَرَة، فهيَ سورةٌ عَلى طولِها تَتألّفُ وحْدتُها منْ مُقدّمةٍ، وأربَعةِ مَقاصدَ، وخاتمةٍ. فأمّا “المقدِّمةُ” فَفي التّعريفِ بِشأنِ القرآنِ الكَريمِ، وبَيانِ أنّ ما فيهِ مِنَ الهدايَةِ قدْ بَلغَ حَدًّا منَ الوُضوحِ لا يَتردَّدُ فيه ذو قَلبٍ سَليمٍ. وإنّما يُعرِضُ عَنه مَن لا قَلبَ لَه، أو مَن كانَ في قَلبِه مَرضٌ. [بَسَطَ صاحبُ “النّبأ العَظيم” بَيانَ نِظامِ عِقْدِ المَعاني في سورةِ البَقَرَةِ، في سبعٍ وأربَعينَ صفحةً: من ص:163 إلى ص:210 ]

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق