مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

الفرح بمولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم

د. مصطفى بوزغيبة

مركز الإمام الجنيد

   يكثر في الآونة الأخيرة وتزامنا مع قرب مولد النبي صلى الله عليه وسلم دعوات إلى عدم الاحتفال بهذه المناسبة العظيمة، بل وهناك دعوات إلى تبديع وتضليل كل من أظهر مظهرا من مظاهر الفرح والسرور بظهور خير البرية، وحججهم في ذلك كثيرة وإن كانت كلها واهية، سنعمل في سلسلة من المقالات على تفكيكها ونقدها وتبيين ما تنم عنه من مفاهيم خطيرة كلها تطرف وتشدد في غير محله، بل هناك سلسلة ممنهجة منهم لتجميد العقل الاجتهادي وتحجيره، واتباع عقيدة بعض أهل الأهواء والضلالات كما سنرى بحول الله.

   في هذا المقال سنناقش مسألة الفرح بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد قالوا بأن الصحابة الكرام لم يثبت عنهم الفرح بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، كيف يفتهم الفرح به وهم المقربين من النبي صلى الله عليه وسلم، وهل آخر هذه الأمة أهدى من الصحابة الكرام حتى يبتدعوا ما لا يجوز ولا عرف في عهد القرون الخيرية الأولى؟

   أولا قبل الخوض في مسألة هل الخيرية حكر على القرون الأولى أم أن للخلف نصيب من الخير لابد من تقرير بعض القواعد الذي تمتاز بها الشريعة الإسلامية، وعليها نبني ما غفل عنه الكثير، فكَوَّنوا للناس صورة خاطئة عن الإسلام نعيش تبعتها إلى الآن فنقول وبالله التوفيق.

   يعتبر الدين الإسلامي دين جمال وحب وسلام، دين يؤسس لحياة ملؤها التنعم بنعم الله الوافرة، التي لا تعد ولا تحصى، (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) [إبراهيم/34] وأي نعمة وأي فضل أجل وأعظم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أكرم الله هذه الأمة وعظمها ربنا عز وجل وشرفها على سائر الأمم بفضل طلعة سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران/110] فحق لنا أن نفرح وأن نفخر بهذه الكرامة التي ليس فوقها كرامة، كيف لا وقد قال ربنا جل جلاله: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) [يونس/58]وأي فضل وأي رحمة أعظم من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) [الأنبياء/107] .

   يقول سيدي أبو العباس المرسي رحمه الله: “الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى أممهم عطية، ونبينا صلى الله عليه وسلم لنا هدية، وفرق بين العطية والهدية، فالعطية للمحتاجين، والهدية للمحبوبين، قال صلى الله عليه وسلم في تحقيق هذا المعنى: ( إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ) صلى الله عليه وسلم.

   إذا رجعنا إلى مسألة الفرح في التداول القرآني  نجدها حاضرة في أكثر من موضع وفي سياقات مختلفة، منها ما هو في سياق المدح والثناء، ومنها ما هو في سياق الذم والجفاء، فالأول الفرح المرغب فيه، ومن خلال استقراء النصوص الواردة فيه نجد أن الشارع الحكيم يربطه بما فيه إعزاز لدينه العظيم، كما يربطه بكل ما فيه مظهر من مظاهر الفرح والسرور بنعم الله تعالى ورحماته وفضائله التي لا تحصى بشرط أن تكون منضبطة وفق الأصول الشرعية ومقاصد الشرع الحكيم، من ذلك الفرح بالنصر الذي فيه إعزاز لدين الإسلام وقوة للمؤمنين، ( وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) [الروم/4-5] ففي حالة النصر يجوز للمؤمن أن يظهر الطرب والسرور، لأنه مظهر من مظاهر الحب، ولأن فيه دافعا لمزيد من العمل في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى، وتجديدا للإيمان بالله تعالى الناصر الحكيم.

   كما أن السنة النبوية فيها ما يشير إلى مظهر الفرح والسرور، وهو متعلق بأعظم العبادات وأجلها وهي الصوم، وما فرَحُ المؤمن بهذه العبادة إلا فرح بالنصر على شهوات النفس وملذاتها، فقد أخرج الإمام مسلم والإمام أحمد من حديث أبي هريرة -رضى الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم قال: (للصائم فرحتان: فرحه حين يفطر، و فرحة حين يلقى ربه).

   أما المسألة الثانية المتعلقة بالفرح المذموم فمظاهرها كثيرة، كلها ترجع إلى الباعث إليها، فإذا كان الباعث مذموما فيكون الفرح مذموما، وإذا كان الباعث محمودا فإن الفرح يكون محمودا، والشواهد من القرآن الكريم كثيرة، منها قوله تعالى : (وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا  وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ) [الشورى/48]، قال العلامة ابن عاشور: “ويحمل الفرح على مطلقه المقول عليه بالتشكيك حتى يبلغ مبلغ البطر”.[1] وفي هذا السياق قال الله تعالى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [القصص/76] قال  العلامة ابن عاشور: “وأحسب أن الفرح إذا لم يعلق به شيء دل على أنه صار سجية الموصوف فصار مرادا به العجب والبطر. وقد أشير إلى بيان المقصود تعضيدا لدلالة المقام بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)، أي المفرطين في الفرح (…) والمبالغة في الفرح تقتضي شدة الإقبال على ما يفرح به وهي تستلزم الإعراض عن غيره، فصار النهي عن شدة الفرح رمزا إلى الإعراض عن الجد والواجب في ذلك”.[2] ونظير ذلك ما قرره الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في إحيائه: “إن النفس تفرح بالتنعم في الدنيا وتركن إليها وتطمئن إليها أشراً وبطراً حتى تصير ثملة كالسكران الذي لا يفيق من سكره، وذلك الفرح بالدنيا سم قاتل يسري في العروق”.[3]

   من مظاهر الفرح المذموم كذلك قصة المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك بمبررات واهية، بل وزادوا على إثمهم هذا إثم أعظم وأشد يدل على دناءتهم وشدة بغضهم وهو فرحهم في موطن لا يجوز بحال وتمجه الفطرة السليمة، فسجل القرآن فرحهم في سياق الذم والتقريع، فقال تعالى: ( فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ) [التوبة/81]. لذلك فإن مجرد إظهار الفرح في موقف الغم والشدة يعتبر حربا نفسية كبيرة تؤثر في معنويات وحماس المؤمنين، من هنا نفهم حصر الله تبارك وتعالى على تثبيت قلوب المؤمنين في مثل هذه المواقف الخطيرة ودعوتهم إلى التحلي بالصبر والتقوى في قوله تعالى: (إن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [آل عمران/120]. إذن من خلال ما سبق يتضح لنا جليا أن إظهار الفرح والسرور له قوة تأثيرية كبيرة في النفوس إلى درجة أنه يعتبر حربا نفسية قد توقع في النفس هزيمة قبل وصول الأعداء إلى ساحة المعركة، ويوقع في النفس ارتباكا لا تستطيع معها التفكير في مجريات الأمور القادمة من تدبير وحسن سياسة لتمكن الضعف والشعور بالانهزامية أمام الغير الذي يحسن التصرف في استغلال مثل هذه الثغرات. ونحن إذ نقرر هذه القاعدة فلا نقصد المعركة بمفهومها الضيق وإنما بمفهومها الشامل الممتد، إنها معركة الحياة معركة بين قيام الحضارات حضارة النور وحضارة الظلام، معركة الثقافة والعلم في مقابل معركة الاجترار والانبهار بالآخر، فما الفرح وإظهار السرور بما عند المومن السوي الصادق من التشبث بالقدوة المباركة سيد العالمين صلى الله عليه وسلم والفناء في حبه، إلا قوة دافعة ووقود للتقدم نحو المسار الصحيح وهو إخراج الإنسانية من عالم الظلمات إلى نور الحقيقة وشمس المعرفة الربانية.

   من خلال ما سبق يتقرر لدينا أن جمالية الدين الإسلامي يكمن في أنه ليس دين الأحزان والأتراح، بل دين الفرح والسرور، لذلك أمر الله تعالى بالفرح، ونبه إلى ما ينبغي أن يُصرف له النشاط والمرح، فقال عز من قائل: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) [يونس/58] وإذا كان الصحابة رضي الله عنهم لم يحتفلوا بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، لأسباب عدة منها أن العرب لم يكن من عوائدهم الاحتفال بمولد أحد وإن كان عظيما من عظمائهم، وسيدا من أسيادهم، ثم إن الصحابة الكرام ومن تبعهم لم يحتاجوا لمثل هذا الأمر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بين أظهرهم، ثم لما انتقل إلى الرفيق الأعلى كانت كل الأحوال التي عايشوها مع النبي صلى الله عليه وسلم خير زاد، ومعينا يستقون منها فلا حاجة لهم في مثل هذا الأمر، لكن ننبه لمسألة هامة في هذا الإطار وهو أن الصحابة الكرام صرفوا توجههم وحبهم وفرحهم في كل ما يتعلق بالجناب المحمدي، وتجليات هذا الفرح كثيرة لا يمكن أن يحصيه البيان، ولا يمكن أن يحيط به أي لسان، يمكن أن نورد نتفا منها، ولمعا للدلالة على غيرها.

   أولا: أن الصحابة الكرام كان لهم تعلق كبير بجناب حبيبهم وقرة عينهم صلى الله عليه وسلم، فلا يهدأ لهم بال ولا يقر لهم قرار حتى يتنعموا بالقرب من النبي صلى الله عليه وسلم، ويروا وجهه صلى الله عليه وسلم، فقد أخرجَ الطبرانيُّ عن عائشةَ رضي اللهُ عنها، قالت: جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فقال: يا رَسولَ اللهِ، إِنَّكَ لأَحَبُّ إِليَّ مِن نَفسِي، وَإِنَّكَ لأَحَبُّ إليَّ مِن وَلَدِي، وَإِني لأَكُونُ في البَيتِ فَأَذكُرُكَ فَمَا أَصبِرُ حتى آتِيَ فَأَنظُرَ إِلَيكَ، وَإِذَا ذَكَرتُ مَوتي وَمَوتَكَ عَرَفتُ أَنَّكَ إِذَا دَخَلتَ الجنةَ رُفِعتَ مَعَ النَّبِيَّينَ، وَإِني إِذَا دَخَلتُ الجنةَ خَشِيتُ أَلا أَرَاكَ، فَلَم يَرُدَّ عليه النبيُّ ـ صلى اللهُ عليه وسلم شَيئًا حتى نَزَلَ جبريلُ  عليه السلامُ بهذِهِ الآيةِ: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا ) [النساء/69] [4] رَضي اللهُ عن هذا الصحابيِّ ما أبينَ محبَّتَهُ وَأَوضَحَ مَوَدَّتَهُ ! محبَّةٌ يُفَضِّلُ بها رَسولَ اللهِ على كُلِّ غالٍ، وَمَوَدَّةٌ تجعلُهُ يَتَمَلمَلُ في بيتِهِ وبينَ أبنائِهِ، فلا يَرتَاحُ حتى يَرَاهُ، وَلَيسَ هذا وَكَفَى، بَل تَفكِيرٌ يَتَعَدَّى حُدُودَ الدنيا ويَتَجَاوَزُها إلى الآخِرَةِ، يخافُ معَهُ أن يُحرَمَ رؤيتَهُ في الجنةِ، فأيُّ حُبٍّ هذا الذي مَلَكَ عليه دُنيَاهُ وآخرتَهُ ؟!

   ثانيا: وهو متعلق بما قبله، أي أن الصحابة الكرام كان همهم ومرتقى تفكيرهم وتعلق قلوبهم يحوم حول الذات النبوية المشرفة، وهو شعور عام لدى الصحابة جميعهم، وليس متعلق بحادثة معينة فقط، أو قصة صحابي واحد، بل نجزم أنه شعور عام يكمل الحديث السابق، نلمس ذلك الشعور والإحساس بعد سماع قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ “. وقد ظهر ذلك جليا على مستوى وجدانهم وقلوبهم، ففرحوا وطربوا له أشد الفرح، عَنْ أَنَس رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ أَوْ أَعْرَابِيٌّ  إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ ؟ قَالَ: ” وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا ؟ ” قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ: “أنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ”، قَالَ أَنَسٌ: فَمَا رَأَيْتُ الْمُسْلِمِينَ فَرِحُوا بِشَيْءٍ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَشَدَّ مَا فَرِحُوا يَوْمَئِذٍ ” [5]. وفي رواية البخاري: “فَفَرِحْنَا يَوْمَئِذٍ فَرَحًا شَدِيدًا” .[6]

   ثالثا: خوفهم الشديد على حياة حبيبهم صلى الله عليه وسلم، وحرصهم الدائم على سلامته، عن سعد بن أبي وقاص قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، فلما نعوا لها قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، قال: فأشير لها إليه حتى رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل”.[7] وقصة المرأة التي حنت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونذرت لئن رجع أن تضرب بالدف فرحا بعودة النبي صلى الله عليه وسلم راجعا سالما مؤيدا منصورا، ففي سنن أبي داود عن: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، قال: “أوفي بنذرك” قالت: إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا، مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية، قال: “لصنم؟” قالت: لا، قال: “لوثن؟” قالت: لا، قال: “أوفي بنذرك”.[8]

   قال البيهقي معلقا : يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَذِنَ لَهَا فِي الضَّرْبِ ، لأَنَّهُ أَمْرٌ مُبَاحٌ ، وَفِيهِ إِظْهَارُ الْفَرَحِ بِظُهُورِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُجُوعِهِ سَالِمًا، لا أَنَّهُ يَجِبُ بِالنَّذْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَم”.[9]

   قال الخطابي :ضرب الدف ليس مما يعد في باب الطاعات التي يتعلق بها النذور . وأحسن حاله أن يكون من باب المباح ، غير أنه لما اتصل بإظهار الفرح بسلامة مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة من بعض غزواته وكانت فيه مساءة الكفار وإرغام المنافقين صار فعله كبعض القرب التي هي من نوافل الطاعات”[10]

   رابعا :من مظاهر الفرح والسرور الذي أظهره الصحابة الكرام للنبي صلى الله عليه وسلم يتضح من خلال إطلالة للنبي صلى الله عليه وسلم من حجرته، وهو متبسم مستنير الوجه كالقمر ليلة البدر، فكاد الصحابة الكرام أن يطيروا فرحا وسرورا، وذلك أثناء مرضه صلى الله عليه وسلم الذي قبض فيه، عن أنس بن مالك رضي الله عنه (أن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين، وهم صفوف في الصلاة، كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة، فنظر إلينا وهو قائم،كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا، قال: فبُهتنا ونحن في الصلاة من فرح بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج للصلاة، فأشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أن أتموا صلاتكم، قال ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرخى الستر، قال: فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه ذلك)[11] وفي رواية البخاري : (فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي صلى الله عليه وسلم).[12]

   خامسا: فرح أهل الحبشة بالنبي صلى الله عليه وسلم وأخذوا بالرقص فرحين بما آتاهم الله من فضل ونعمة بوجود نبينا صلى الله عليه وسلم، وهم يتغنون باسم النبي صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَنَسٍ  قَالَ: (كَانَتْ الْحَبَشَةُ يَزْفِنُونَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَرْقُصُونَ، وَيَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ عَبْدٌ صَالِحٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: “مَا يَقُولُونَ ؟” قَالُوا: يَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ عَبْدٌ صَالِحٌ  ).[13]

   سادسا: تعددت مناحي فرح الصحابة الكرام بالنبي صلى الله عليه وسلم وتنوعت، من فرح بالذات النبوية ووجهه الشريف المستنير ضياءا، وتفننوا في التعلق به، ومن مظاهر فرحهم الدال على شدة تعلقهم بالنبي صلى الله عليه وسلم أنهم يفرحون عندما تكون فتاويهم واجتهاداتهم موافقة للنبي صلى الله عليه وسلم روى الإمام أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي:  عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَهَا مِثْلُ  صَدَاقِ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَهَا الْمِيرَاثُ، فَقَامَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيُّ ، فَقَالَ: ” قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ امْرَأَةٍ مِنَّا مِثْلَ الَّذِي قَضَيْت” ، فَفَرِحَ بِهَا ابْنُ مَسْعُودٍ)[14] لهذه الموافقة.

   من خلال كل ما ذكر من مظاهر فرح الصحابة برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي لم تكن على شاكلة واحدة، وإنما أبدعوا في ذلك كل حسب قدر حبه وتعلقه  كما فعل أهل الحبشة في المسجد النبوي الشريف، والمرأة صاحبة الدف، ومن كمال الاقتداء بهم، أن نفرح برسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وأن نعدد أشكال ذلك كما عدّدوا، وأن نبدع في ذلك كما أبدعوا رضي الله عنهم، فإن إظهار أمارات الفرح بمناسبة المولد النبوي أليق وأدعى للقبول، وقد انتبه إلى ذلك أسلافنا رحمهم الله، فأظهروا المسرات والأفراح، فقرروا ليوم مولده العطلة عن العمل، والاجتماع للذكر، وإطعام الطعام، إلى غيرها من مظاهر الفرح والسرور المنضبط بضوابط الشرع المعروفة.


[1] التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، ج25/134.

[2] التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، ج18/178.

[3] إحياء علوم الدين، 3/88-89.

[4] المعجم الصغير للطبراني، بَابُ الأَلِفِ، مَنِ اسْمُهُ أَحْمَدُ، رقم الحديث: 52.

[5] مسند أحمد بن حنبل » مُسْنَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ … » بَاقِي مُسْنَد المُكْثِرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ ” مُسْنَدُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ”. رقم الحديث: 12581.

[6] صحيح البخاري، كِتَاب الْأَدَب،ِ باب مَا جَاءَ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ وَيْلَكَ.

[7] البداية والنهاية، 4/50.

[8] سنن أبي داود، كتاب الإيمان والنذور، باب: ما يؤمر به من الوفاء بالنذر، رقم الحديث: 3312. 3/1438.

[9] سنن البيهقي، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، الطبعة الثالثة، 1424ه، 2003م، ج 10/133.

[10] معالم السنن للخطابي، الطبعة الأولى، 1352هـ/1934م، طبعه وصححه: محمد راغب الطباخ في مطبعته العلمية بحلب،  4/60.

[11] صحيح مسلم، كتاب الصلاة ، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما من يصلي بالناس، رقم الحديث: 419.

[12] صحيح البخاري،كتاب: أبواب صلاة الجماعة والإمامة، باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة.

[13] مسند أحمد بن حنبل”مُسْنَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ” بَاقِي مُسْنَد المُكْثِرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ مُسْنَدُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رقم الحديث: 12302.

[14] جامع الترمذي،كِتَاب النِّكَاح،ِ بَاب مَا جَاءَ فِي الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ…، رقم الحديث: 1060.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق