الرابطة المحمدية للعلماء

اختتام فعاليات ” مغربيات المسيري – مسيرة المسيري: الحصاد والثمر”

د. محمد هشام: كان المسيري  شديد الانشغال ببلورة رؤية كلية منفتحة على الكون

تربط المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري صلات قربى ومودة راسخة تكاد تكون استثنائية بالمغرب والمغاربة، لا غرابة في ذلك، فقد كشفت زوجته الدكتورة هدى حجازي في الحفل الافتتاحي لهذا الأسبوع أن أصوله  البعيدة تعود إلى المغرب. كما تربطه علاقات معرفية متميزة بقطاع عريض من الباحثين المغاربة بمختلف توجهاتهم المعرفية..
ووفاء من المغاربة لذكرى وفاة هذا المفكر المتميز جرى تنظيم “مغربيات المسيري – مسيرة المسيري: الحصاد والثمر” على امتدادا أسبوع كامل بمبادرة من مركز خالد الحسن وبتعاون مع مجموعة من المراكز والمؤسسات والمنتديات البحثية التابعة لمجموعة من الجامعات المغربية على امتداد الوطن؛ بالرباط، ووجدة ، وفاس، والدار البيضاء، ومراكش..

وقد حرص المنظمون لهذا الأسبوع على إبراز مختلف أبعاد العطاء الفكري والإبداعي الموسوعي للراحل في مجالات النقد الأدبي، والفكر الإسلامي والفلسفة، والتاريخ، والأنثروبولوجيا الثقافية، وعلم اجتماع المعرفة، والترجمة، والشعر، وقصص الأطفال.. كما تم عرض أهم مؤلفاته بالموازاة مع هذه الفعاليات..

وقد تميزت فعاليات اختتام هذا الأسبوع بندوة علمية شارك فيها كل من الدكتور محمد هشام من مصر بصفته مسؤولا على متابعة وتنفيذ المشاريع العلمية التي بدأها الراحل ولم يتمكن من الانتهاء منها، و الدكتور سعيد الحسن رئيس مركز خالد الحسن، والأستاذ عبد السلام طويل..
بعد عرض شريط تعريفي مؤثر بالمسار الحياتي والفكري للدكتور عبد الوهاب المسيري، تناول الكلمة الأستاذ محمد هشام الذي سلط الضوء على أبعاد شخصية عبد الوهاب المسيري من خلال علاقته الإنسانية والعلمية الوطيدة به؛ بصفته أكبر مساعديه ومنسقي أعماله البحثية خاصة موسوعة الصهيونية ..
وقد وقف بشكل خاص على ما تميز به فكر المسيري من نسبية معرفية هادفةّ، ورصانة منهجية، ومرونة تواصلية.. وفي هذا السياق وقف على  نحث عبد الوهاب المسيري لمفهوم “تفسيري أكثر وتفسيري أقل” الذي يفتح المجال فسيحا للاجتهاد المتواصل من خلال ما يستبطنه من قدرة تفسيرية متعددة المستويات والدرجات، خلافا لمفهوم الموضوعية الصلبة وما يتصل به من أحكام قطعية جاهزة، ومصادرات يقينية مطلقة تعمل على كبث الاختلاف و إغلاق باب الاجتهاد..

مبرزا في الوقت نفسه سعي المسيري الدائب للوصول إلى بلورة رؤية كلية منفتحة على الكون ولكل الظواهر التي يدرسها، ولذلك نجده شديد التحذير من الوقوع في فخ المعلوماتية؛ مشددا على أن المعلومات في حد ذاتها لا قيمة لها إذا لم توظف في إطار رؤية كلية ناظمة من منطلق أن الإطار الكلي للظواهر عادة ما يتيح للباحثين الربط ما بين المعلومات والمعطيات المختلفة..
كما أوضح تميز شخصية عبد الوهاب المسيري بالجمع الرفيع بين الفكر والممارسة، وبين القول والعمل وهو ما يفسر تفاعله الإيجابي مع قضايا وطنه وأمته..

وفي ختام مداخلته ذكر الأستاذ محمد هشام أن الراحل قبل وفاته كان يعد لمجموعة من المشاريع البحثية من قبيل موسوعة حول “العلمانية الحلولية”، وكتاب عن نهاية إسرائيل دراسة استشرافية، وكتاب عن “الشعر الرومنتيكي في الأدب الإنجليزي”.. كما بشر جمهور الباحثين أن هذه المشاريع ستستمر بفضل تضافر جهود فريق من الباحثين.. وأعلن عن اعتزام تأسيس مؤسسة باسم عبد الوهاب المسيري تعنى بإشاعة فكره والفكر الإسلامي والإنساني بوجه عام.

بعد مداخلة الأستاذ محمد هشام انصبت مداخلة الأستاذ عبد السلام طويل حول “العلمانية في الفكر العربي المعاصر: عبد الوهاب المسيري نموذجا”. وقد انطلقت مداخلة الباحث من التأكيد على أن المعرفة لدى المسيري لم تكن ترفا نظريا بقدر ما كانت تجربة وجودية ذات صلة وثيقة بانشغالاته واهتماماته وتساؤلاته وقضايا أمته..

بعد ذلك أوضح الباحث  أن جل المقاربات العربية لإشكالية العلمانية جاءت محكومة بمنزع إيديولوجي واضح ، بحيث يمكن التمييز في هذا الإطار بين اتجاه  يعتبر  أن العلمانية نزعة إلحادية تسعى إلى تهميش الدين وتنحيته عن التنظيم الاجتماعي والسياسي وفرض نظام سياسي واجتماعي مادي معاد لعقيدة المجتمع والأمة ومفصول عن مصادرهما الروحية والثقافية.. واتجاه عقائدي إيديولوجي ينطلق من أن العلمانية تعبر عن فلسفة معادية للدين ومقدساته ورموزه.. ويتخلل هذين الموقفين المتطرفين في كلا الجانبين اجتهادات أكثر اتزانا واعتدلا لا تقيم تعارضاً مطلقاً بين كل من المرجعيتين الدينية والعلمانية.

في حين أن هناك اتجاهاً أكثر علمية وموضوعية ينظر إلى العلمانية في سياقها التاريخي والثقافي الغربي، ولا يصدر، في تحديد موقفه منها، عن أي مسبقات عقائدية أو إيديولوجية . 

أما المسيري فينطلق من منظور فلسفي للعلمانية مفاده أن الواقع الإنساني يتشكل من مستويين أو” بنيتين”؛ البنية الظاهرة والبنية الكامنة، وعادة ما تكون البنية الظاهرة تجليا للبنية للكامنة، ولذلك يفضل أن ينظر إليهما باعتبارهما دائرتين متداخلتين؛ الأولى صغيرة وينعتها بالجزئية، والثانية كبيرة ويشير إليها بالكلية أو الشاملة لأنها تحيط بالأولى وتشملها، فهي بمثابة الإطار الذي ينتظما، فالدائرة الأولى وفقا لهذا التصور لا تعدوا أن تكون إلا مجرد إجراءات تمثل تبديا للدائرة الثانية، ولا يمكن فهمها حق الفهم إلا بالرجوع إلى الدائرة الأشمل التي تستوعبها؛ فهي بنيتها الكامنة ومرجعيتها النهائية؛ فما دامت تستوعبها بداخلها فهي تخضع تبعا لذلك لمنطقها العام وبنيتها الحاكمة..

وقد أبرزت ورقة عبد السلام طويل أن المسيري يراهن، بعد استحضاره وانتقاده لأهم الأدبيات العربية حول مفهوم العلمانية وماهيتها، على محاولة تقديم نموذج مركب للعلمانية ليس باعتبارها مجرد مجموعة من الأفكار والممارسات الواضحة، أو رؤية تغطي بعض مجالات الحياة دون أخرى، أو فكرة ثابتة، وإنما باعتبارها رؤية شاملة تأخذ شكل متتالية تتبدى في الزمان والمكان بدرجات مختلفة وبأشكال مختلفة .
و أنه لن يلج المدخل السياسي في معالجته لمفهوم العلمانية، كما لن ينظر إليها “من منظور تطبيق الشريعة، أو فصل الدين عن الدولة، أو أثر العلمانية في المؤسسات الدينية ” معتبرا أن هذا المدخل لدراسة القضية قد أضر ضررا بالغا بمحاولة التعريف .
لذلك فقد اختار أن يعالج العلمانية في علاقتها بكل الظواهر السياسية والاجتماعية والحضارية ، وبمسار ظاهرة الحداثة، وبظاهرتي الإمبريالية والعولمة، وبمنظومات الإنسان القيمية والمعرفية والجمالية، وبكل الأبعاد النهائية للوجود الإنساني، وفق منظور تركيبي ينظر إلى العلمانية باعتبارها نموذجا شاملا تكمن وراءه رؤية للكون (الإنسان والطبيعة)، ومن خلال عملية تحليلية تقوم على حصر بعض التعريفات حول العلمانية في المعجم الحضاري الغربي (والعربي)، وكذا حصر بعض المصطلحات المتداخلة مع مصطلح العلمانية، أو تلك التي استخدمت في وصف بعض جوانب المجتمع الغربي الحديث. وعلى ضوء ذلك سيعمل على تجريد ما يتصوره نموذجا كامنا وثاويا خلف هذه المصطلحات عبر تفكيكها  وإعادة تركيبها ليصل إلى بعض الأنماط المتكررة..

 وهكذا يبرز عبد السلام طويل أن العلمانية الشاملة لدى المسيري تحيل إلى “رؤية شاملة للعالم ذات بعد معرفي (كلي ونهائي) تحاول بكل صرامة تحديد علاقة الدين والمطلقات والماورائيات (الميتافيزيقية) بكل مجالات الحياة.. “و رؤية عقلانية مادية تدور في إطار المرجعية الكامنة والواحدية المادية التي ترى أن مركز الكون كامن فيه غير مفارق أو متجاوز له، وأن العالم بأسره مكون أساسا من مادة واحدة ، ليست لها أية قداسة ولا تحوي أية أسرار..
   
فالعلمانية الشاملة بهذا المعنى” ليست مجرد فصل الدين عن الدولة.. وإنما هي فصل لكل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية عن العالم. وتبعا لذلك فإن عملية العلمنة لا تعدو كونها” ترشيدا ماديا ” أي إعادة صياغة الواقع المادي والإنساني في إطار نموذج الطبيعة/المادة بالشكل الذي يحقق التقدم المادي فحسب، دون اكتراث بالأبعاد الدينية والأخلاقية والإنسانية..

 وبعد أن تصل “المتتالية العلمانية الشاملة” إلى التحقق في معظم حلقاتها، تصفى الثنائيات ، وتصفى بذلك تركيبية الإنسان ومقدرته على التجاوز، ومع إنكار تركيبية الإنسان وقدرته على التجاوز تستحكم الواحدية المادية، وتنزع القداسة عن العالم ، حيث حولت العلمانية الشاملة العالم إلى مادة استعمالية، والقيم إلى مسألة نسبية، والذات إلى مرجعية. وجعلت من البقاء أو التقدم الغاية النهائية، والصراع الآلية الأساسية لحل التناقضات.. وهو ما جعل المسيري يستخلص أن العلمانية الشاملة والإمبريالية صنوان؛ فالأولى تمثل النظرية والثانية تحيل إلى الممارسة.

 أما العلمانية الجزئية فتحرص على الجوانب الإيجابية للمنظومة العلمانية دون السقوط في المادية والعدمية ودون تقويض الجزء الإنساني. وبناء على ذلك فإن الحوار والتواصل بين مكونات الأمة المختلفة لا يمكن تصوره، حسب المسيري، إلا في إطار المفهوم الجزئي للعلمانية.  خلافا للعلمانية الشاملة التي بإسقاطها لكل المرجعيات والغائيات لم تعمل إلا على تكريس الصراع في الداخل والتبعية لقوى العولمة في الخارج.

وقد أوضحت ورقة عبد السلام طويل كيف أن المتتالية العلمانية، كما كشف عنها المسيري، قد انتهت إلى جعل الإنسان بمثابة  “المطلق العلماني” ومركز الكون، والمرجعية النهائية المادية. فهو العنصر الذي يتجسد من خلاله المركز الكامن في النموذج. وبهذا فقد أمسى الإنسان مطلقا متعاليا عن أية  محاكمة أو محاسبة لأنه ببساطة أمسى معيار ومرجع ذاته وموجه نفسه. لكن و مع تصاعد معدلات الترشيد و”الحوسلة”،سرعان ما بدأ الإنسان يتراجع كنقطة مرجعية لتحل محله مطلقات مادية غير إنسانية كمرجعيات مادية نهائية ( الدولة المطلقة، قطاع اللذة، الإعلام ..) لكن سرعان ما سوف يتم تجاوز هذه المطلقات بدورها لتخيم الواحدية المادية (الصلبة) وتستحكم تماما. ليختفي المركز بدوره ويتلاشى، وتختفي المرجعيات النهائية المادية، إلى أن يصبح المطلق هو الإجراءات.

وفي الختام انطلقت مداخلة الأستاذ سعيد الحسن “سؤال المنهج في المشروع النهضوي للدكتور عبد الوهاب المسيري” من الوقوف على المغزى التراحمي المتجاوز لمجموعة من أسماء الله الحسنى، مؤكدا أن الحديث عن أسماء الله الحسنى والتوجه لله بالخطاب باسم الرحمان الرحيم  تحيل إلى فكرة التراحم والتراحمية والمجتمع التراحمي كما بلورها عبد الوهاب المسيري في تصوره الفلسفي للظاهرة الإنسانية وحقيقة الوجود الإنساني.. وهو ما يؤكده إبداعه الشعري؛ حيث يقف سعيد الحسن مليا على المغزى الإنساني التراحمي العميق لقول المسيري : ” لو كان لي ألف ذراع، لو كان لي ألف قدم لعانقت العالم بشغف” ..

وفي هذا الإطار يشدد الأستاذ سعيد الحسن أن مفهوم التجاوز يحوز على قدرة أكبر في تفسير العلاقات الإنسانية وسبر أغوار الظواهر الاجتماعية..مبرزا أن تجاوزية الإنسان تنبع من تلكم النفخة الروحية الربانية التي بتها فيه الخالق “فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين”.

وبعد أن يقف على المأزق الوجودي الذي أمست تعاني منه الحضارة الغربية انطلاقها من وقوعها في تأليه الإنسان بعد أن أعلنت “موت الإله” لتسقط بذلك في العدمية، يعود ليذكر بتجليات العلاقات التراحمية في المجتمعات العربية الإسلامية وأهمية الحرص عليها، عاقدا مقارنه مفهومية دالة بين تصور كل من عصمت سيف الدولة للإنسان باعتباره “وحدة من المادة والذكاء” ونصور عبد الوهاب المسيري للإنسان كـ “كائن متجاوز” مؤكدا غنى المفهوم الثاني عن الأول..

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق