مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

نفحات روحية من السيرة النبوية (4)

إرهاصات قبل مولد سيد السادات صلى الله عليه وسلم

د. مصطفى بوزغيبة

باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة

    كان مولد سيد المرسلين، وحبيب رب العالمين عليه الصلاة والسلام ولا يزال حدثا عظيما، ومناسبة جليلة، قد مهد الله له قبلها بتوالي إرهاصات عظيمة متوافقة مع هذه المناسبة العظيمة، والإرهاصات هي البشائر والأمور الخارقة للعادة التي يُحدثها الله عز وجل للنبي عليه السلام؛ تبشيراً بنبوته قبل مجيئه وبعثته، فالأحداث العظيمة غالباً يسبقها من الإشارات ما يكون مؤْذِناً بقربها، وعلامة على وقوعها، ولم يسبق للإنسانية حدث أعظم ولا مناسبة أجل من ميلاد نبينا وحبيبنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي كان مولده ميلاد أمة سعدت بميلادها الأمم، فهو الرسول المُصطفى، والنبي المـُجْتَبَى، الذي ختم الله به أنبياءه، وأرسله رحمة للعالمين كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾.[الأنبياء:107]، واختصه دون غيره من الرسل بفضائل وخصائص ومعجزات كثيرة، تشريفاً وتكريماً له، مما يدل على جليل قدره، وعلو منزلته عند ربه.

قال عم النبي صلى الله عليه وسلم سيدنا العباس رضي الله عنه مادحا النبي عليه السلام:

                   وَأَنْـتَ لَمَّا وُلِـدْتَ أَشْرَقَتِ الأَ       رض وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الأُفُقُ

                   فَنَحْنُ في ذَلِكَ الضِّيَاءِ وفي النـ     نور وسُبْلِ الرَّشَادِ نَخْتَرِقُ[1]

    ومن المعلوم أن نبينا صلى الله عليه وسلم وُلِدَ في يوم الاثنين من ربيع الأول، فعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل عن صوم يوم الاثنين، فقال: (فيه وُلدتُ، وفيه أُنزِلَ عليَّ)،[2] ولا خلاف في كون مولده صلّى الله عليه وسلّم يوم الاثنين بمكة المكرّمة عام الفيل، فعن عبد المطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة عن أبيه عن جده قيس بن مخرمة رضي الله عنه قال: (وُلِدْتُ أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل)،[3] وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ولد النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل).[4]

    أكثر أهل السِيَر على أنه صلوات الله وسلامه عليه وُلِدَ يوم الثاني عشر من ربيع الأول بعد حادثة الفيل بخمسين يوماً، قال ابن كثير: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل على قول الجمهور، فقيل: بَعْدَه بشهر، وقيل: بِأَرْبَعِين يَوْماً، وقيل بِخَمْسِين يوماً، وهو الأشهر”.[5] وقد سبق مولده صلوات الله وسلامه عليه أحداث وإرهاصات سُجِّلت في السيرة النبوية، منها:

حادثة الفيل

    هذه الحادثة مشهورة وثابتة بالكتاب والسنة، والتي حاول فيها أبرهة الأشرم غزو مكة وهدم الكعبة، وقد ذكر سبحانه هذه الحادثة في كتابه الكريم، فقال: ﴿ألم تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ﴾.[الفيل:1-5]، قال الماوردي: “آيات الملك باهرة، وشواهد النبوة قاهرة، تشهد مباديها بالعواقب، فلا يلتبس فيها كذب بصدق، ولا منتحل بمحق، وبحسب قوتها وانتشارها يكون بشائرها وإنذارها، ولما دنا مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعاطرت آيات نبوته، وظهرت آيات بركته، فكان من أعظمها شأنا، وأظهرها برهانا، وأشهرها عيانا وبيانا أصحاب الفيل”[6].

    وقال القرطبي: “قال علماؤنا: كانت قصة الفيل فيما بعد من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كانت قبله وقبل التحدي، لأنها كانت توكيدا لأمره، وتمهيدا لشأنه، ولما تلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السورة، كان بمكة عدد كثير ممن شهد تلك الواقعة”.[7] وقال ابن كثير: “هذه من النعم التي امتن الله بها على قريش، فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل، الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة ومحو أثرها من الوجود، فأبادهم الله، وأرغم آنافهم، وخيب سعيهم، وأضل عملهم، وردهم بشرِّ خيبة، وكانوا قوماً نصارى، وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالاً مما كان عليه قريش من عبادة الأوثان، ولكن كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه في ذلك العام وُلِدَ على أشهر الأقوال، ولسان حال القدر يقول: لم ننصركم – يا معشر قريش – على الحبشة لخيريتكم عليهم، ولكن صيانة للبيت العتيق الذي سنشرفه ونعظمه ونوقره ببعثة النبي الأمي محمد، صلوات الله وسلامه عليه، خاتم الأنبياء”.[8]

    إذا تأملنا سبب نزول سورة الفيل التي تؤرخ لحادثة الفيل التي حدثت قبل مولده صلى الله عليه وسلم بشهور على الأصح، مع آية تشير إلى فضل الحرم المكي والتبشير بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهي قوله تعالى في محكم تنزيله: ﴿وَقَالُوا إِن نتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ۚ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِّن لدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ۚ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)﴾. [القصص: 57-59]، فقد قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: “إن نتبع الحق الذي جئتنا به معك، ونتبرأ من الأنداد والآلهة، يتخطفنا الناس من أرضنا، بإجماع جميعهم على خلافنا وحربنا، يقول الله لنبيه: فقل: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا﴾؟ يقول: أولم نوطئ لهم بلدا حرمنا على الناس سفك الدماء فيه، ومنعناهم من أن يتناولوا سكانه فيه بسوء، وأمنا على أهله من أن يصيبهم بها غارة، أو قتل، أو سباء؟”.[9] لذلك قال الله تعالى في سورة الفيل: ﴿ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل﴾، إشارة إلى أن الله تعالى تولى بالحفظ والعناية بيته الحرام من أي اعتداء، وهو ما جعل عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم يستنجد العون من الله، ويتضرع إليه في حماية البيت الحرام لما أيقن أنه عاجز عن الدفاع عنه وذلك بقوله:

                           يا رب لا أرجـو لهم سواكــا    يا رب فامنع منهم حماكا

                           إن عدو البيت من عاداكا    امنعهم أن يخربوا قراكـا[10]

    قال القشيري في تفسيره: “إذا كان عبد المطلب – وهو كافر- أخلص في التجائه إلى الله في استدفاع البلاء عن البيت، فالله لم يخيب رجاءه، وسمع دعاءه، فالمؤمن المخلص إذا دعا ربه لا يرده خائبا”.[11]

    فإذا كان الإنسان يخاف على مصالحه بمجرد سلوكه طريق الحق، فليتذكر أن الله تعالى هو صاحب الأمر كله، فكلما التجأت إلى الله تعالى وافتقرت إليه، فتح لك بابا عظيما، ووجه لك كل الخير، فلتعرف كيف تغنم، وكيف تستثمر هذا الفضل، أما إذا أعرض الإنسان على الرغم من استبيانه طريق الحق فهذا يعتبر ظلما شنيعا لنفسه، لذلك جعل الله تبارك وتعالى بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ضمانة لكل خير كالأمن والرحمة والهداية…، لمن آمن به وصدقه ونصره، وجعل عاقبة كل من أعرض واستنكف عن الدخول في رحمته خسرا وهلاكا، ولذلك قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ۚ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾. فكانت حادثة الفيل إيذانا بميلاد الرحمة المهداة ومنقذ البشرية من كل سوء، فمن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة ونبي الحب والسلام والأمن فقد نجا، ومن أعرض واستكبر فقد هوى، فعلى الرغم من كون القصة في إهلاك وانتقام من أهل الظلم فإن في طياتها رسالة واضحة المعالم، وهي مهما اشتد الظلم وتمادى الظالم في جرائمه، على الرغم من معرفته طريق الحق، بدلائل الآيات، فأبرهة الحبشي قبل أن ينتقم منه الله تعالى آراه آية وهي عدم رضوخ الفيل لمساعي أبرهة لهدم الفيل، ولكن أبرهة لم يتعظ بها، فكان دليلا على تماديه، فأهلكه الله ومن معه، كما أن فيها معنى آخر وهو أن الافتقار والالتجاء إلى الله في معضلات الأمور يفتح بابا كبيرا للإنسان، فإذا كانت الإنسانية عانت من الظلم والقهر طيلة سنوات، فإن الله تعالى فتح لها بابا عظيما وبشرها ببشارة عظيمة وهي مولد منقذ البشرية جمعاء، ورحمة الله تعالى للعالمين.

    وللصوفية الكرام إشارة عجيبة في تفسيرهم لسورة الفيل، وهي أن “قلب العارف هو كعبة الوجود، وهو بيت الرب، وجيوش الخواطر والوساوس تطلب تخريبه، فيحميه الله منهم، كما حمى بيته من أبرهة، فيقال: ألم تر أيها السامع كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، وهم الأخلاق البهيمية والسبعية، والخواطر الردية، ألم يجعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طير الواردات الإلهية، فرمتهم بحجارة الأذكار وأنوار الأفكار، فأسحقتهم فجعلتهم كعصف مأكول”.[12]

الهوامش 

[1] البداية والنهاية، لأبي الفداء الحافظ ابن كثير، تخريج وتحقيق: أحمد جاد، دار الحديث، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1427هـ/2006م، 2/272.

[2] صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين والخميس.

[3] المستدرك على الصحيحين، للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، مع تضمينات الإمام الذهبي في التلخيص والميزان، والعراقي في أماليه والمناوي في فيض القدير وغيرهم من العلماء الأجلاء، أول طبعة مرقمة الأحاديث ومقابلة على عدة مخطوطات، دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1422هـ/2002م، رقم الحديث: 4183، 2 /659.

[4] أخرجه الحاكم في المستدرك، رقم الحديث: 4180، 2 /658.

[5] البداية والنهاية، 2 /276.

[6] أعلام النبوة، أبو الحسن علي بن محمد الماوردي الشافعي (ت450ﮬ)، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1406ﮬ/1986م، ص: 171.

[7] الجامع لأحكام القرآن، 10/ 424.

[8] تفسير القرآن العظيم، للحافظ أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، تحقيق: سامي بن محمد السلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، 1420هـ/1999م، 8/ 483.

[9] تفسير الطبري، 21/ 321-322.

[10] المصدر السابق، 27/ 681.

[11] تفسير القشيري، 6 /322.

[12] البحر المديد، 8 /356.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق