مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

إلقاء الشعر في التراث العربي (الحلقة الثالثة)

مكان الإنشاد:

 تعددت أماكن إنشاد الشعر – إنشادا رسميا بعيدا عن إنشاد التسلية أو إنشاد الشاعر لخاصة نفسه- منذ العصر الجاهلي وصولا إلى العصر الحديث، ومن هذه الأمكنة نذكر:

الأسواق: كان للأسواق في الجاهلية على وجه الخصوص أثر مهم في نمو الثقافة العربية وانتشارها بين القبائل ومن أهمها: سوق عكاظ والمربد ومجنة وذي المجاز، وقد ذكر أهل الأخبار أن سوق «عكاظ» – وهي أشهرها – « كانت تجتمع فيها قبائل العرب فيتعاكظون، أي: يتفاخرون ويتناشدون ما أحدثوا من الشعر ثم يتفرقون»، وأنهم كانوا «يقيمون شهرًا يتبايعون ويتفاخرون ويتناشدون شعرًا، فلما جاء الإسلام هَدَمَ ذلك»(1).

وذكروا أيضا أن في شعر أمية بن خلف الخزاعي، إشارة إلى مكانة هذه السوق عند الشعراء، حيث يقول:

أَلَا مَنْ مُبلغٌ حَسَّانَ عَنِّي        مُغَلْغَلَةً تَدِبُّ إِلَى عُكَاظِ(2)

فأجابه حسان في أبيات تشير أيضًا إلى هذه الأهمية، وذلك بقوله:

أَتَانِي عَنْ أُمَيَّةَ زُورُ قَوْلٍ        وَمَا هُوَ فِي الَمغِيبِ بِذِي حِفَاظِ

سَأَنْشُرُ إِنْ بقيتُ لَكُمْ كَلَامًا         يُنَشَّرُ فِي المجَنَّة مَع عُكَاظِ

   قَوَافِيَ كَالسِّلَاحِ إِذَا اسْتَمَرَّتْ          مِنَ الصُّمِّ الُمعَجْرِفَةِ الغِلَاظِ»(3)

«وأمر هند والخنساء هذا في عكاظ، من أغرب ما يؤثر في باب التنافس واعتناء الناس بمصائبهم واهتمامهم بالتنويه بها وتخليدها في آدابهم ومحافلهم العامة. ولعل هذا المنظر، منظر تينك السيدتين بلباسهما الأسود وجمليهما المسومين، أطرف منظر شهدته عكاظ»(4)، وما وفودهما على السوق وإنشادهما في هذا المكان بالضبط إلا لأهمية هذا المكان وأثر الإلقاء والإنشاد في نفوس مرتَادِيه.

ذلك أن أفضلَ مكان لإنشاد الشعر في الجاهلية هو السوق والشاعر حيث يُنْشِدُ فيه يكون لشعره صيت وذيوع فقد جاء في أخبار الأعشى أنه نزل بالمحلق فأكرمه فسأله الأعشى عن حاله وعياله فعرف البؤس في كلامه، وذكر البنات، فقال الأعشى: كُفِيتَ أمرَهن، وأصبح بعكاظ ينشد قصيدته:

أَرِقْتُ وَمَا هَذَا السُّهَادُ المؤَرِّقُ         وَمَا بِيَ مِنْ سُقْمٍ وَمَا بِيَ مَعْشَقُ

ورأى المحلق اجتماع الناس، فوقف يستمع، وهو لا يدري أين يريد الأعشى بقوله، إلى أن سمع:

نَفَى الذَّمَّ عَن آل المحَلَّقِ جَفْنَةٌ                كَجَابِيَة الشيخ العراقي تَفْهَقُ

ترى القوم فيها شارعين، وبينهم           مع القوم ولدان من النسل دَرْدَقُ

لعمري قد لاحت عيون كثيرة            إلى ضوء نار باليفاع تَحَرَّقُ

تُشَبُّ لمقرورين يصطليانها          وبات على النار الندى والمحلق

رضيعي لبان ثدي أم تحالفا             بأسحم داج عوض لا نتفرَّقُ

ترى الجود يجري ظاهراً فوق وجهه        كما زان متن الهُـِـنْـدُوَانِيِّ رَوْنَقُ

فما أتم القصيدة إلا والناس ينسلون إلى المحلق يهنئونه، والأشراف من كل قبيلة يتسابقون إليه جرياً يخطبون بناته؛ لمكان شعر الأعشى، فلم تُمْسِ منهن واحدة إلا في عصمة رجل أفضل من أبيها ألف ضعف(5).

المساجد: إذا كانت الأسواق في الجاهلية المكان المفضل للشعراء لإلقاء شعرهم فإنه بَرَزَ في العصر الإسلامي أثر المسجد بروزا ظاهرا باعتباره المكان الذي انطلقت منه الدعوة الإسلامية، فمارس إلقاء الشعر تأثيرا في هذه الدعوة إلى جانب الخطب الدينية والوعظية «وقد صار مسجد الرسول في المدينة موضع دراسة للمسلمين، فقد رأينا “حسان بن ثابت”، هو ينشد الشعر فيه»(6). 

«وقد روي أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يضع لحسان المنبر في المسجد يقوم عليه قائما يهجو الذين كانوا يهجون النبي – صلى الله عليه وسلم -»(7).

وقد كان لقصة حسان بن ثابت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما حول إنشاد حسان في المسجد إشارة لطيفة إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار مكان الإنشاد وجاء في القصة: قال الأصفهاني: «أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا محمد بن حاتم قال حدثنا شجاع بن الوليد عن الإفريقي عن مسلم بن يسار: أن عمر مر بحسان وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فأخذ بأذنه وقال: أرغاء كرغاء البعير! فقال حسان: دعنا عنك يا عمر، فوالله لتعلم أني كنت أنشد في هذا المسجد من هو خير منك فلا يغيرُ عَلَي! فصدقه عمر»(8)؛ «والشاهد من القصة أن عمر إنما كَرِهَ إلقاء الشعر في المسجد على تلك الهيأة»(9).

وروي أيضا أن الشعراء كَانوا يَجْتَمعُونَ فِي كُلّ جمعةٍ فِي القُبَّةِ المعْرُوفَة بهم فِي جَامع المدِينَة، فيتناشدون الشّعْر ويَعْرِضُ كُلّ وَاحِد مِنْهُم عَلَى أَصْحَابه مَا أحدث من القَوْل بعد مفارقتهم فِي الجُمُعَة الَّتِي قبلهَا»(10).

وحين عاتب متمم بن نويرة أبا بكر الصديق على قتل أخيه مالكا «صلى متمم مع أبي بكر الصديق الفجر […] فلما صلى أبو بكر قام متمم بحذائه، واتكأ على سية قوسه، ثم قال:

نِعْمَ القَتِيلُ إِذَا الرِّيحُ تَنَاوَحَتْ        خَلْفَ البُيُوتِ، قَتَلْتَ يَا ابْنَ الأَزْوَرِ

وَلَنِعْمَ حَشْو الدِّرْعِ كُنْتَ وَخَاسِراً        وَلَنِعْمَ مَأْوَى الطَّارِقِ المُتَنَوِّرِ

أَدَعَوْتَهُ بِالَّلهِ ثُمَّ غَرَرْتَهُ            لَوْ هُو دَعَاكَ بِذِمَّةٍ لَمْ يَغْدُرِ

وأومأ إلى أبي بكر، فقال: والله ما دعوته ولا غررته، ثم أتم شعره، فقال:

لَا يُمْسِكُ الفَحْشَاءَ تَحْتَ ثِيَابِهِ          حُلْوٌ شَمَائِلُهُ عَفِيف الِمئْزَرِ

ثم بكى وانحط على سية قوسه – وكان أعور دميماً – فما زال يبكي حتى دمعت عينه العوراء»(11)، مما يدل على استمرار جواز الإنشاد في المسجد، وعدم استنكار الخلفاء لذلك باستثناء قصة عمر بن الخطاب مع حسان التي ذكرناها.

مجالس الخلفاء: كانت تعقد في قصور الخلفاء والملوك مجالس للشعر يُلقى فيها الشعر ويتذاكَر فيها نقده، وقد كان الخلفاء أيضا ممن يبدون رأيهم ونقدهم في كثير من الأحكام النقدية، فكان السلطان كما قيل « سوق يجلب إليها ما يُنفَقُ لديها»(12)، ومن بين هذه المجالس مجلس سيف الدولة الحمداني وشاعره المبرز هو المتنبي.

النوادي: عُرفت النوادي منذ العصر الجاهلي فكانت مرتادا للشعراء ومكانا آخر من الأماكن التي يتاح للشاعر فيها إنشاد شعره وإلقاءه، ويبدو أن النوادي على عكس الأسواق، كانت مفتوحة أمام خاصة أهل الأدب، ولم تكن متاحة للجميع. 

كما استمرت النوادي الشعرية والأدبية بصفة عامة إلى العصر الحديث فوُجِدَ من الشعراء من اتخذ ناديا شعريا يرتاده الشعراء والأدباء والمثقفون والذين يطربون لسماع إلقاء الشعر بصفة خاصة. 

وتسمى هذه النوادي أيضا «الصالونات الأدبية»، غير أنها في الغالب تكون لخاصة الخاصة وعدد المستمعين فيها قليل بالمقارنة مع الملتقيات الشعرية التي سنتطرق للحديث عنها، واشتهر من هذه الصالونات الأدبية في التراث العربي صالون سكينة بنت الحسين وصالون الشاعرة ولادة بنت المستكفي وشاعره المبدع هو ابن زيدون، واشتهر منه في العصر الحديث صالون عباس محمود العقاد ومن أبرز رواده أمير الشعراء أحمد شوقي وعلي الجارم.

الملتقيات الشعرية: وهي شبيهة بأسواق العرب في الجاهلية، وهذه الملتقيات منها ما يقام سنويا ومنها ما يقام شهريا وهكذا دواليك، وقد تكون من تنظيم جهة معينة كالأقسام الأدبية والنوادي الإبداعية التابعة لكليات متخصصة في الأدب، أو دُور الشعر التي تسهر على تنظيم الأمسيات الشعرية وما شابهها. 

ويتم فيها تنصيب مقاعد للشعراء الضيوف في مقدمة الجمهور كما يتم تنصيب منبر الإلقاء يصعده الشاعر الملقي وغالبا ما يكون هذا المنبر في مكان مرتفع نسبيا عن جمهور المستمعين حيث يتسنى له السيطرة عليهم من الناحية النفسية وتظل أبصارهم متعلقة به، وهو واقف وهم جلوس في مقاعدهم.

وكثيرا ما أصبح الشعر يُلْقَى في السنوات الأخيرة خصوصا في مثل هذه الملتقيات مصاحبا بنغمات العود أو الكمان التي تملأ سكتات الشاعر في قصيدته، والتي تضفي على جمال الإنشاد جمالا، ولا يتعلق الأمر هنا بالغناء بل بالإلقاء الشعري المصاحب بالنغمات الخفيفة، وأظن أن هذا الأمر مستحدث فلم نقف على خبر ما في دواوين الأدب العربي يثبت وجود هذا الأمر قديما عند العرب، وربما يكون هذا الأمر تأثر فيه شعراؤنا العرب بإلقاء الشعراء الغربيين، وربما كَثُرَ في «الشعر الحر» لأن جرسَ القصيدة الحديثة ضعيف مقارنة مع القصيدة القديمة؛ حيث تعمل القافية على إحداث هذا الجرس في ختام كل بيت من أبيات القصيدة. 

ومن الملاحظ أيضا في هذه الملتقيات أن الشاعر يلقي شعره من ديوانه ولا يستظهره من حفظه فكثيرا من الشعراء لا يحفظون شعرهم، بينما لم يثبت لنا أن الشاعر العربي كان يلقي شعره من صحيفة، بل كان يلقيه من حفظه ويحفظه أكثر من سمعوه للوهلة الأولى؛ ذلك أن الاعتماد على الصحائف أفقد قدرتنا على الحفظ.    

الهيئة الجسمية:

 الهيئة الجسمية هي أهم ما يبحث عنه في إلقاء الشعر، وقد ثبت لنا أن أغلب الروايات والأخبار تنص على أن الشاعر العربي كان يلقي شعره قائما ويخرج الشاعر العربي عن هيئته تلك في حالات نادرة، ومنها ما بَدَرَ من المتنبي لما قدم على سيف الدولة في أنطاكية، واشترط المتنبي علىه أولَ اتصاله به أنه إذا أنشده مديحه لا ينشده إلا وهو قاعد؛ وأنه لا يكلف تقبيل الأرض بين يديه، فَنُسِبَ إلى الجنون، ودخل سيف الدولة تحت هذه الشروط، وتطلع إلى ما يرد منه؛ وذلك في سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، ولما أنشده قصيدته التي أولها:

وفاؤكما كالربع أشجَاهُ طاسِمُهْ            بأن تُسْعدا والدمْعُ أشفاهُ ساجمةْ

وما أنا إلا عاشِقُ كُل عاشقٍ            أعقُّ خليليْه الصفيين لائمَهْ

وقد يتزيّا بالهوى غيرُ أهله            ويَستصْحِبُ الإنسانُ مَنْ لا يلائِمه

بَليت بِلَى الأطلالِ إنْ لم أقفْ بها        وقوف شحيح ضاعَ في الترب خاتمه(13)

وهذا يدل دلالة واضحة على أن من عادة الشعراء أن ينشدوا قصائدهم وقوفا خاصة في حضرة الملوك والولاة والحكماء، أو وقوفا في المنابر المعدة لهم، اللهم ما ورد في قصة ابن جاخ مع المعتضد في العصر الأندلسي حيث كان إلقاء الشعراء جلوسا في الكرسي المخصص لهم أمام المتلقي الأول وهو السلطان، ورأينا أيضا الإنشاد فوق ظهر الجمل كما في قصة الخنساء وهند بنت عتبة، وكذا الإنشاد بين يدي الممدوح كما رأينا في قصة كعب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكل هيئة من الهيآت تفسر بظروف معينة تناسب المقام.  

فللشعراء طريقة خاصة في إنشاد الشعر. يذكرون أن الشاعر منهم كان إذا أراد إلقاء شعر، تهيأ لذلك واستعد له، وأظهر للناس أنه يريد إلقاء شعر. ومن أصولهم في الإلقاء أن ينشد الشاعر شعره وهو قائم(14)، قال صاحب «العمدة» متحدثا عن الشاعر والملحن: « فأما قيامه وجلوس اللحون فلأن هذا متشوف إليه، يحب إسماع من بحضرته أجمعين، بغير آلة ولا معين، ولا يمكنه ذلك إلا قائماً أو مشرفاً، وليدل على نفسه، ويعلم أنه المتكلم دون غيره»(15).

وفي خبر وفد «بني تميم» الذين نادوا من الحجرات أن اخرج إلينا يا محمد، «خطب خطيبهم مفتخرا، ثم قام شاعرهم وهو الزبرقان بن بدر فقال:

نَحْنُ المُلُوكُ فَلَا حَيٌّ يُقَارِبُنَا          فِينَا العَلَاءُ وَفِينَا تُنْصَبُ البِيَعُ

قال رسول الله لحسان: قم، فقام وقال:

إِنَّ الذَّوَائِبَ مِنْ فِهْرٍ وَإِخْوَتِهِمْ           قَدْ بَيَّنُوا سُنَّةً لِلنَّاسِ تُتَّبَعُ

إلى آخر الأبيات. “فقال التميميون عند ذلكم: وربكم إن خطيبَ القوم أخطبُ من خطيبنا، وإن شاعرَكم أشعرُ من شاعرِنا”»(16)، ففي طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من حسان بأن يقوم دلالة على أن من عادة الشعراء في مثل هذا المقام الإنشاد وقوفا وفي هذه الهيئة ما يدل أيضا على عدم الخضوع لبني تميم. 

وكان من عادة بشار بن برد إذا أراد أن ينشدَ «صفق بيديه وتنحنح وبصق عن يمينه وشماله ثم ينشد فيأتي بالعجب»(17).

يقول الجاحظ: «وكانت الشعراء تلبسُ الوشيَ والمقطعات والأردية السود، وكل ثوب مشهر»(18)، ويظهر من عبارة الجاحظ ما يفيد تميزَ الشعراء عن غيرهم بلباسهم، غير أن هيئة الشعراء هذه لم تلبث أن تغيرت بعد زمن الجاحظ ففي أخبار العماني الراجز أنه دخل « على الرشيد لينشدَه وعليه قلنسوة طويلة وخفّ ساذج، فقال له الرشيد: يا عماني، إياك أن تنشدني إلا وعليك عمامة عظيمة الكور وخفّان دمالقان فبكّر إليه من الغد وقد تزيّا بزيّ الأعراب ثم أنشده وقبّل يده»(19)، مما يدل على اعتناء الخلفاء بهيئة الشعراء، واستقباحهم لعدم اعتناءهم بهيئتهم، لأن اللبس من الأشياء التي تُؤخذ بعين الاعتبار في الحكم على الشعراء وتتركُ في النفس انطباعا سلبيا أو إيجابيا.   

ومما يدل على أهمية زِيِّ الشعراء في عملية إلقاء الشعر ما رُوي في أخبار العجاج وأبي النجم العجلي فقد قيل إن العجّاج خرج محتفلا «عليه جبّة من خز وعمامة من خزّ، على ناقة له قد أجَادَ رحلهَا حتى وقف بالمِربد، والناس مجتمعون فأنشدهم قوله:

قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الإلَه فَجَبَرْ

فذكر فيها ربيعة وفخر عليهم وهجاهم؛ فجاء رجل من بكر بن وائل إلى أبي النجم العجليّ، وهو في بيته، فقال: أنت جالس وهذا العجاج يهجونا في المربد قد اجتمع عليه الناس؟! فقال: صف لي حاله وزيّه الذي هو عليه، فوصفه له؛ فقال: ابغني جملا طحانا قد أكثر عليه من الهناء، فجاء بالجمل إليه، فأخذ سراويل له فجعل إحدى رجليه في السراويل واتّزر الأخرى وركب الجمل ودفَعَ خطامه إلى من يقوده حتى أتى المربد، فلما دنا من العجاج قال: اخلع خطامه، فخلعه وأنشد: 

تَذَكَّرَ القَلْبُ وَجَهْلًا مَا ذَكَرْ

فجعل الجمل يدنو من الناقة ويتشمّمها ويتباعد عنه العجاج لئلا يفسد ثيابه ورحله القطران، حتى بلغ إلى قوله: 

شَيْطَانُهُ أُنْثَى وَشَيْطَانِي ذَكَرْ

فعلق الناس هذا البيت، وهرب العجاج منه»(20)، وفي هيئة أبي النجم العجلي ما يعضد غرض الهجاء ويقويه فزاد على الهجاء بالشعر هجاء آخر، ولعلها الهيئة المناسبة لمثل الغرض كما سنرى في قصة لبيد وهيئته حين أراد الهجاء، وبذلك لم يخرج أبو النجم عن سنن العرب في مثل هذا المقام.

الهيئة النطقية: 

لإلقاء الشعر هيئة نطقية خاصة به تختلف عن النثر اختلافا كبيرا؛ إذ لا يخلو إنشاد الشعر من «الترنم على اللحن الذي يتسمح به الطبع، ومن مد الصوت، ليكون للشعر وقع على نفوس سامعيه، وتأثير جميل على المنصِتينَ له»(21)، فلا عجب إن وجدنا من الشعراء ممن لم يكن حسن الصوت يدفع بشعره لمن يجيد إلقاءه، حيث يراعَى في عملية الإنشاد حسن الصوت وقد «كان الكميت بن زيد طويلا أصم ولم يكن حسن الصوت ولا جيد الإنشاد فكان إذا استُنْشِدَ أمر ابنه المستهل فأنشد وكان فصيحا حسن الإنشاد»(22)، كما وجدنا من الشعراء من يتباهى بحسن إنشاد شعره مثل البحتري وكان « إذا أنشد يختال ويعجَب بما يأتي به فإذا فرَغَ من القصيدة رد البيت الأول»(23)، يقول الأصفهاني: « وكان البحتري من أبغض الناس إنشادا يتشادق ويتزاور في مشيه مرة جانبا ومرة القهقرى ويهز رأسه مرة ومنكبيه أخرى ويشير بكمه ويقف عند كل بيت ويقول: أحسنتُ والله ثم يقبل على المستمعين فيقول ما لكم لا تقولون أحسنت هذا والله ما لا يحسن أحد أن يقول مثله»(24)، ويروى عنه أنه «كان إذا مَثَلَ بين يدي الفتح بن خاقان وزير المتوكل مادحا له اختال بين يديه معجبا بنفسه، فتقدم خطوات ثم تأخر، وقال: أي شيء تسمعون؟ فنقم عليه ذلك بعض حسدته، وحمل الفتح بن خاقان عليه، فقال له الفتح: لو رمانا بالحجارة لكان ذلك مغفورا له فيما يقوله»(25).

ومن طريف ما وقفت عليه في هذا الباب في هيئات إلقاء الشعر وإنشاده ما رواه الثعالبي في «يتيمة الدهر» قال: «استدعاني الأُسْتَاذ أَبُو مُحَمَّد فَحَضَرت وَأَبْنَاء المنجم فِي مَجْلِسه وَقد أعدَّا قصيدتين فِي مدحه فمنعهما من النشيد لأحضره فأنشدا قعُودا وَجَوَّدَا بعد تشبيب طَوِيل وَحَدِيث كثير فَإِن لأبي الحسن رسما أخْشَى تَكْذِيب سيدنَا إِن شرحته وعتابه إِن طويته وَلَأَن أحصل عِنْده فِي صُورَة متزيد أحب إِلي من أَن أحصل عِنْده فِي رُتْبَة مقصر يبتدأُ فَيَقُول ببحة عَجِيبَة بعد إرْسَال دُمُوعه وَتردد الزفرات فِي حلقه واستدعائه من جؤذر غُلَامه منديل عبراته […] ثمَّ ينشد فَإِذا بلغ بَيْتا يعجب ويتعجب من نَفسه فِيهِ[…]ثمَّ ينشد الابن والأَب يعوذه ويهتز لَهُ»(26)، وهيئة هؤلاء قريبة من هيئة البحتري التي وقفنا عليها.

ومن المستحب في هيئات الشعراء النطقية تنوين الترنم وَظَاهر قَوْل النحويين أَنه تَنْوِين مُحَصل للترنم. وَقد صرح بذلك ابْن يعِيش في «شرح المفصل» فقال: «يُستعمل في الشعر والقوافي للتطريب، مُعاقِبًا بما فيه من الغّنة لحروف المدّ واللين. وقد كانوا يستلذّون الغنّةَ في كلامهم»(27)، والترنم والتطريب أظهر ما يكون في إلقاء الشعر.

«وَالَّذِي صرح بِهِ سِيبَوَيْهٍ وَغَيره من المُحَقِّقين أَنه جِيءَ بِهِ لقطع الترنم وَأَن الترنم وَهُوَ التَّغَنِّي يحصل بأحرف الإِطْلَاق لقبولها لمد الصَّوْت فِيهَا فَإِذا أنشدوا وَلم يترنموا جاؤوا بالنُّون فِي مَكَانهَا»(28).

 وقَد عُرِفَ تنوين الترنم في قوافي الشعر؛ فقد كان الحجازيون يطلقون القافية، ليفرقوا بين الشعر الذي يغنَّى والكلام المنثور، وكان التميميون يبدلون المد في القافية نونًا، على نحو ما عُرِفَ عن جرير في قصيدته:

أَقِلِّي اللوم عاذل والعِتَابَنْ          وقولي إن أصبتُ لقد أصابَنْ

فقد أبدل المد نونًا في «العتابن» و «أصابن»(29).

ويشرح إبراهيم أنيس طريقة إلقاء الشعر شرحا وافيا فيقول «ونحن الآن في إنشاد الشعر نراعِي المعنَى مراعاة تامة، ونُكَيف النغمة حسب هذا المعنى. فإذا كان البيت الواحد مما يمكِن أن يكون مستقلا في إنشاده، نطق به المنشد ونَوَّعَ في صعود النغمة وهبوطها، حتى ينتهي في آخر المقاطع من البيت وقد هبط صوت المنشد وأشعر السامع بانتهاء المعنى، ويغلبُ أن يكون هذا في مطالع القصائد. غير أن المنشدين في غالب الأحيان يقسِّمُون القصائد إلى قطع يمكن أن يستقل كل منها بمعناه، وقد تتكون القطعة من بيتين أو ثلاثة أبيات أو أربعة أو ربما خمسة في بعض الأحيان، ثم ينشد الشاعر أبيات القطعة فيما عدا الأخير منها بنفس النغمة الموسيقية ودرجات الهبوط والصعود، ويختم كلَّ بيت بصعود صوته ليشعر السامع أن للمعنى بقية، فإذا وصل إلى البيت الأخير من القطعة أشعرنا في نهايته بنهاية المعنى، واستقلال القطعة عما يليها، وذلك بأن يهبط صوته، ويتوقف عن الإلقاء قليلا، حتى تستريح أذن السامع، وتجد النفس فرصة للاستمتاع بما مَرَّ من أبيات»(30).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- المفصل 16/294.

2- البيت مثبت في ديوان حسان بن ثابت قبل القصيدة التي رَدَّ فيها على هجاءه ص: 147، ولم أقف على ديوانه مطبوعا.

3-المفصل 16/294، والأبيات من قصيدة عدد أبياتها ثمانية وهي في ديوانه ص: 147- 148، كالآتي:

أَتَانِي عَنْ أُمَيَّةَ ذَرْوُ قَوْلٍ        وَمَا هُوَ فِي الَمغِيبِ بِذِي حِفَاظِ

سَأَنْشُرُ إِنْ بقيتُ لَكُمْ كَلَامًا         يُنَشَّرُ فِي المجَامع مِنْ عُكَاظِ

قَوَافِيَ كَالسِّلَامِ إِذَا اسْتَمَرَّتْ          مِنَ الصُّمِّ الُمعَجْرِفَةِ الغِلَاظِ

4- أسواق العرب في الجاهلية والإسلام ص:299.

5- العمدة 1/104، الأبيات من قصيدة طويلة للأعشى يمدح بها المحلق بن خنثم بن شداد بن ربيعة، وهي في ديوانه، ص: 217- 225 مع اختلاف كبير في ترتيب البيات وضبط الكلمات.

6- المفصل 15/332.

7- المفصل 18/305- 306.

8- الأغاني 4/111. 

9- نقض كتاب في الشعر الجاهلي ص:155. 

10- الجليس الصالح الكافي ص:317.

11- الكامل في اللغة والأدب 4/66. 

12- يتيمة الدهر 1/37.

13- الصبح المنبي عن حيثية المتنبي ص:71. 

14- المفصل 17/85. 

15- العمدة في محاسن الشعر وآدابه 1/26. 

16- المفصل 18/305. 

17- الأغاني 3/98. 

18- البيان والتبين 3/158. 

19- عيون الأخبار 1/168.

20- التذكرة الحمدونية 3/447.

21- المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 17/86. 

22- الأغاني 17/29- 30. 

23- الأغاني21/42. 

24- الأغاني 21/40. 

25- المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر 3/40. 

26- يتيمة الدهر 3/134- 135.

27- شرح المفصل لابن يعيش 5/157. 

28- خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب 7/203، كلام سيبويه في الكتاب يدل على أن الترنم لا يكون بهذه النون بل يكون بمد حركة حرف الروي يقول: « فإذا أنشدوا ولم يترنموا فعلى ثلاثة أوجه: أما أهل الحجاز فيدعون هذه القوافي ما نون منها وما لم ينون على حالها في الترنم، ليفرقوا بينه وبين الكلام الذي لم يوضع للغناء. وأما ناسٌ كثير من بني تميم فإنهم يبدلون مكان المدة النون فيما ينون وما لم ينون، لما لم يريدوا الترنم أبدلوا مكان المدة نوناً ولفظوا بتمام البناء وما هو منه، كما فعل أهل الحجاز ذلك بحروف المد » الكتاب 4/206- 207.

29- تاريخ الأدب العربي في العصر الجاهلي ص:124. 

30- موسيقى الشعر  ص:168.

Science
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق