نفحات رمضانية: الذكر بريد السائرين
بسم الله الرحمـن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي وحده وبعد فشهر الله رمضان الأبرك شهر التقوى المنصوص عليها غايته في قوله سبحانه: ﴿لعلكم تتقون﴾ [البقرة:182] قال ابن عاشور: «وقوله: ﴿لعلكم تتقون﴾ بيان لحكمة الصيام وما لأجله شرع، فهو في قوة المفعول لأجله لـ﴿كتب﴾. و﴿لعل﴾ إما مستعارة لمعنى "كي" استعارة تبعية، وإما تمثيلية بتشبيه شأن الله في إرادته من تشريع الصوم التقوى بحال المترجي من غيره فعلا ما..» ([1]) ولا غضاضة في كونها غاية الصيام وحكمته فهي وصيته سبحانه لكل الأمم بقوله: ﴿ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله﴾، [النساء:130] وهي معيار الاصطفاء الإلهي للإنسان، وبقدر ذيوعها في بقاع الأرض يجتبى المكان، وعلى مستوى تواترها في أحياز الزمان تُفضَّل الأزمان، ولذلك كان الأفضلَ الأنبياءُ ثم الأمثل فالأمثل، وبها قدست مقدسات كمكة الحرام، وبسببها كان ذلك الاجتباءُ لشهر رمضان، والاصطفاءُ المطلقُ للعشر الأواخر وبخاصة ليلة القدر منها على سائر الليال ؛ لكثرة ما يقع فيه من الزلفى إلى الله، بأمهات العبادات التي مِلاكُها ذكرُ الله، قال صلى الله عليه وسلم:﴿من صام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه﴾([2])، ليلة جليلة كريمة عظيمة عند الله تكتب فيها لبني ءادم من الأقدار والأرزاق والآجال ما به منطوق الآية في قوله تعالى: ﴿فيها يفرق كل أمر حكيم﴾[الدخان:3] كما أنها سلم وأمان تتنزل فيها الملائكة التماسا لمواقع الذكر، ووقائع التعبد، لقوله سبحانه: ﴿تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلـم هي حتى مطلع الفجر﴾،[القدر: 4،5] ولهذا سميت ليلة القدر؛ لعظم قدرها وشرفها؛ لكثرة مواقع الذكر فيها، فهي وأيام رمضان ولياليه أيام ذكر لله، واللهج بأسمائه وصفاته، أفرادا وجماعات، في المساجد والمصليات، شكرا لله، واعترافا بنعمائه سبحانه: ﴿وإن تعدوا نعمت الله لاتحصوها﴾[إبراهيم:36]
إن أقرب الطرق إلى الترقي في المقامات، وأدناها إلى كريم الاصطفاء، وأسهلَها على العباد، وأفضلَها عند الله هي مداومةُ ذكر الله، وفي الحديث: ﴿ ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأرفعها في درجاتكم، وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى، قال: ذكر الله تعالى﴾([3]) فعلى المسلم أن يستغرقَ فيه أوقاته، ويبذلَ فيه جهده، فإنه ديدن الأنبياء، وأنينُ الصالحين، وترنم الأولياء المتقين، وسلم المرتقين، وبريد الواصلين، وباب الداخلين، من أعطيه فقد وفق وارتقى، ومن حرمه فقد هوى: قال عليه السلام:﴿ماعمل ابن ءادم عملا قط أنجى له من عذاب الله من ذكر الله﴾([4])، وقال قائلهم:
والذكر أعظم باب أنت داخله*** لله، فاجعل له الأنفاسَ حُرَّاسا([5])
إن الذكر بمفهومه الشامل يسع شطري الأحكام: اكتسابا واجتنابا: فيدخل في الأول الصلاة والصيام، والحج والزكاة، والصدق والأمانة، وبر الوالدين، وحسن الجوار، ومحاسن الأخلاق برمتها، وفي الثاني: المحارم بكليتها كالكذب والخيانة، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، وانتهاكِ الحرمات في الدماء والأموال والأعراض، فمن وقف عند حدود الله فهو ذاكر لله في المسجد أو البيت، في السوق أو العمل، ومن انتهكها فهو غافل عن الله، مُعرض عن ذكره، ولو ردد ذلك بلسانه، وذلك معنى قوله عليه السلام لمن سأله قائلا: يارسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأوصني بشيء أتشبث به. قال: ﴿لا يزال لسانك رطبا بذكر الله﴾([6])، وهو معنى قول الشاعر:
ذكرتك لا أني نسيتك لمحة***وأيسر ما في الذكر ذكر لساني([7])
إن ثمرات الذكر وافرة، أعلاها سمو في المقام، ودنو من الرحمان، واصطفاء واجتباء، فينعكس ذلك في إنسان سوي طائع لله: بقلب أرق وأصلب وأصفى، ونفس مطمئنة أسعد وأهنا، وعمل أتقن وأنقى، ورأي أسد وأهدى، إنسانٌ متصل بالله، معمور بتقواه، يُصدر بنور منه سبحانه، قد اشتملت عليه مكارم الأخلاق: يُفرج هما، ويَكشف كربا، ويجبر كسيرا، ويُعلم جاهلا، ويَهدي ضالا، ويَرشد حيران، ويُغيث لهفان، ويَفك عانيا، ويُشبع جائعا، ويَكسو عاريا، ويُقيل عثرة، ويَستر عورة، ويُؤمن روعة، انطبع في صفاء ذهنه ما يفعل وما يذر في طاعة وامتثال، وتجرد وإخلاص، وحلم وأناة: نافعٌ لنفسه، منتج لوطنه، مسهم بالخير في أمته، وذلك معنى قوله عليه السلام: ﴿إن لكل شيء صِقالة، وإن صِقالة القلوب ذكرُ الله﴾([8]).
أما من غفل عن ذكره، وأعرض عن مناجاته ، فقلبُه صَدِئٌ بتراكم الذنوب والأوزار، ونفسُه مطمورة بأوحال من الهموم والأحزان، حيرانُ لا قرار له، مشتت الذهن لا أهداف لديه، يزور ذات اليمين وذات الشمال، لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه: عبء على أسرته ووطنه وأمته وذلك معنى قوله سبحانه: ﴿ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا، واتبع هويه وكان أمره فرطا﴾
إنه بون شائع بين ذاكرٍ لله مطمئنٍ مرتاح، وغافلٍ لاه مرتجف حذر، تماما كما قال عليه السلام:﴿مَثَلُ الذي يذكر ربه، والذي لايذكر ربه، مَثَلُ الحي والميت﴾([9]): ولقد أدرك العلماء والأصفياء على مر التاريخ أمانَ الذكر، وطمأنينةَ الأذكار فلهجت ألسنتهم بذكر الله، ومساجدهم بتلاوة القرآن، ومجالسهم بالمذاكرة والمناجاة؛ لعرفانهم أنه بريد التعرف، وسبيل اليقظة، ومفتاح الحضرة، وسلم الغيبة عما سوى الله من أحمال الفانية وأثقالها شهوات وشبهات، فلا جرم أن جأر عريف القوم، وحكيم السادة ابن عطاء الله السكندري بقوله: "لا تترك الذكر لعدم حضور قلبك مع الله فيه؛ لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره، فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة، ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور، ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع غيبة عما سوى المذكور، وما ذلك على الله بعزيز"([10]) قال العارف بالله أحمد بن عجيبة في إيقاظ الهمم: فالذكر ركن قوي في طريق القوم، وهو أفضل الأعمال، قال الله تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ وقال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ﴾ و الذكر الكثير أن لا ينساه أبدا، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل عبادة فرضها الله تعالى جعل لها وقتا مخصوصا، وعذر العباد في غير أوقاتها، إلا الذكر لم يجعل له وقتا مخصوصا، قال تعالى: ﴿اذكروا الله ذكرا كثيرا ﴾، وقال تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾([11]) فليلتزم المريد الذكر على كل حال ولو كان غافلا بقلبه؛ فإن ذلك أهون من الغفلة عنه؛ لأنه إعراض بالكلية، وفي وجود الذكر إقبال بوجه ما، وتزيين لجارحة اللسان بالطاعة، وفي فقده تعرض لاشتغالها بالمعصية، على أن اللهج به لسانا في وجود غفلة تعرض للفتوحات الربانية بالنقلة إلى وجود يقظة، ورياضة للمريد وترق للسالك في مقامات الذكر حتى يغمر قلبه بالنور، فيغيب غرقا فيه عما سوى المذكور، حتى يصير الذاكر مذكورا، والطالب مطلوبا، والواصل موصولا، وهـهنا يسكت اللسان وينتقل الذكر للجنان، فيصير ذكر اللسان غفلة في حق أهل هذا المقام؛ ولهذا المعنى أشار الواسطي بقوله: "الذاكرون في ذكره أكثر غفلة من الناسين لذكره؛ لأن ذكره سواه" وهي عبارة موهمة إلا أن موقعها لدى القوم يعني فناء النفس وشهودها في حضرة القدوس وشهوده، إذ الذكر باللسان يقتضي استقلال الذاكر، والفرض أن الذاكر محو في مقام العيان، ولهذا المعنى أشار الرباني أبو الحسن الشاذلي رحمه الله بقوله: "حقيقة الذكر الانقطاع عن الذكر إلى المذكور، وعن كل شيء سواه، لقوله ﴿واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا﴾ وقال القشيري رحمه الله: "الذكر اندراج الذاكر في مذكوره، واستظلام السر عند ظهوره" وفي هذا المقام يتحقق المريد بعبادة الفكرة أو النظرة، ولذلك قال أبو العباس رضي الله عنه: "أوقاتنا كلها ليلة القدر"([12])
وحاصل هذه العبارات أن الذكر ركن ركين حري بالمتشوف إلى النفحات الربانية والعطاءات الإلهية أن يلهج به على كل أحيانه، على أنه لامناص للمريد من إدمانه، ولا سبيل للسالك دون سبيله، فاللهج بأسماء الجلال والجمال ترق لمقام الحضرة لدى ذي الجلال والإكرام؛ ولذلك قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: "إن آخر كلمة فارقت عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله: أي الأعمال أحب إلى الله أو أفضل؟ قال: ﴿أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله﴾([13])
([3]) موطأ الإمام مالك موقوفا عن أبي الدرداء، باب ماجاء في ذكر الله تبارك وتعالى. والحديث مرفوع في غير الموطإ كمسند أحمد وجامع الترمذي
([4]) مصنف ابن أبي شيبة كتاب ذكر الله، وحسنه ابن حجر في بلوغ المرام:461.
([5]) ن إيقاظ الهمم في شرح الحكم لابن عجيبة:80.
([6]) جامع الترمذي باب ماجاء في فضل الذكر، وغيره من دواوين السنة.
([7]) ن إيقاظ الهمم في شرح الحكم لابن عجيبة:81.
([8]) كتاب الدعوات الكبير للبيهقي: باب ماجاء في فضل الدعاء والذكر.
([9]) صحيح البخاري: باب فضل ذكر الله عز وجل.
([10]) إيقاظ الهمم لابن عجيبة:79
([11]) ن إيقاظ الهمم لابن عجيبة:79