مَجالِسُ «المُزْهِر» : المجلس الثاني
قضية نشأة اللغة بين التوقيف و الاصطلاح
غير خاف أن قضية نشأة اللغة الإنسانية قضية شغلت على مر العصور كثيرا من العلماء اللغويين، والمتكلمين، والفلاسفة، فبذلوا جهودا لتفسير نشأة الكلام الإنساني؛ إلا أن هذه الجهود لم تثمر قولا واحدا مَثَّلَ محلَّ القطع، بل تعددت الأقوال تبعا لتعدد الأنظار.
ولقد عالج السيوطي هذه القضية في النوع الأول الموْسوم بـ" معرفة الصحيح، ويقال له: الثابت والمحفوظ"، والذي يندرج تحته مسائل عدة، هي:
المسألة الأولى: حد اللغة و تصريفها.
المسألة الثانية: في بيان واضع اللغة؛ أتوقيف هي ووحيٌ، أم اصطلاح وتواطؤ؟
المسألة الثالثة: في بيان الحكمة الداعية إلى وضع اللغة.
المسألة الرابعة: في حد الوضع.
المسألة الخامسة: اختلف هل وضع الواضع المفردات والمركبات الإسنادية أو المفردات خاصة دون المركبات الإسنادية؟
المسألة السادسة: قول الإمام فخر الدين الرازي وأتباعه.
المسألة السابعة: تتمة قول أتباع الإمام فخر الدين الرازي.
المسألة الثامنة: اخْتُلِفَ: هل الألفاظ موضوعة بإزاء الصور الذهنية أو بإزاء الماهيات الخارجية؟
المسألة التاسعة: قول الإمام عضد الدين الإيجي في رسالة الوضع.
المسألة العاشرة: نقول عن عَبّاد بنُ سليمان الصَّيْرَمي.
المسألة الحادية عشرة: آراء في الإجمال و التنجيم.
المسألة الثانية عشرة: في الطريق إلى معرفة اللغة.
المسألة الثالثة عشرة: في أن اللغة هل تثبت بالقياس؟
المسألة الرابعة عشرة: في سعة اللغة.
المسألة الخامسة عشرة: في عِدّة أبنية الكلام.
المسألة السادسة عشر: بداية التصنيف في اللغة.
نظرة عجلى صوب هذه المسائل تقود الناظر إلى أن السيوطي جعل لهذه القضية مقدمة وتمهيدا موجزا تمثل في المسألة الأولى المعنونة بـ: حَدّ اللغة وتصريفها؛ وإن كان القصد منه الرَّسْمُ، لأنه أورد للغة رَسْمان، في حين أن الحدّ لا يتعدد، ومستشهدا بكلام اللغويين وهم على التوالي:
أبو الفتح عثمان ابن جني (تـ.395 هـ) من خلال كتابه "الخصائص"، و عبد الملك بن عبد الله بن يوسف أبو المعالي الجويني الشافعي الملقب بإمام الحرميْن (تـ.478 هـ) من خلال كتابه "البرهان في أصول الفقه"، وأبو عمرو عثمان بن عمر الشهير بابن الحاجب المالكي (تـ.646 هـ) من خلال كتابه "منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل" ، وجمال الدين أبو محمد عبد الرحيم بن الحسن بن علي الإِسْنَويّ الشافعي (تـ.772 هـ) من خلال كتابه " نهاية السول شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول".
و لقد قدم ابن جني تعريفا جامعا للغة قائلا هي:« أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم»، ارتضاه معظمُ اللغويين لكونه جامعا ويصدق على جميع اللغات، إلا ما كان من بعض الأصوليين.
قال في "الأزهار الطيبة النشر فيما يتعلق ببعض العلوم من المبادي العشر" لمحمد الطالب ابن الحاج السلمي (تـ.1273 هـ) [2/81 وما بعدها].
« نَقَلَ هذه العبارة من حدّها زُمرةٌ من أرباب التآليف اللغوية كالمَجْد في "القاموس" وغيرُه. وَعَبَّرَ علماءُ الأصول بألفاظ بدل أصوات» ؛ كما سيأتي.
ثم انتقل ابن جني إلى تِبيان تصريفها إذ هي: «( فُعْلَة ) من ( لَغَوْت )، أي تكلمت، وأصلُها ( لُغْوَة ) كَـكُرَة و قُلَة و ثُبَة، كُلُّها لاماتُها واواتٌ لقولهم: كَرَوْتُ بالكُرة، وقَلَوْتُ بالقُلَة، ولأنّ ( ثُبَة ) كأنها من مقلوب: ثابَ يَثوبُ...» إلى آخر تمام النص الذي أنهاه بقوله:« انتهى كلام ابن جني» تبيانا للأمانة في النقل، واعتدادا بالمنقول الذي أدرجه أولا إشارةً منه إلى مرمى حجاجي يكمن في تقديم ما عليه الإجماع، والذي ينبغي أن يرسخ في ذهن القارئ/ المتعلم أولا.
ثم أدرج تعاريف أخرى، ناسباً النصوص إلى أصحابها، كاشفاً بذلك عن استيعاب جيد للتراث. و هذه الأقوال هي:
قول إمام الحرميْن:« اللغة من لَغِيَ يَلْغى، من باب رَضِيَ: إذا لَهَجَ بالكلام. وقيل: من لَغَى يَلْغِي«.
قول ابن الحاجب:« حَدُّ اللغة: كُلّ لفظٍ وُضِع لمعنى«.
قول الإِسْنَوي:« اللغات: عبارة عن الألفاظ الموضوعة للمعاني«.
وبعد هذا التمهيد الوارد في المسألة الأولى، انتقل السيوطي إلى تناول القضية الأم التي عنون بها المسألة الثانية في شكل سؤال جوهري: أتوقيفٌ اللغةُ ووحيٌ أم اصطلاحٌ وتواطؤٌ؟ مستعرضاً آراءَ اللغويين في القضية بنَفَس حجاجي فَحواهُ تقديم ما يَدين به، فبدأ بأبي الحسين أحمد ابن فارس (تـ.395 ه) حيث صدَّرَ بمقالته الواردة في مقدمة "الصاحبي في فقه اللغة" كتابَه "المزهر"، ثم ذَيَّلَها بقوله:« وَبمثل قوله أقول في هذا الكتاب«.
قال السيوطي:« قال أبو الحسيْن أحمد ابن فارس في "فقه اللغة":« اعلم أن لغة العرب توقيف، ودليل ذلك قولُه تعالى: ﴿ وعلم آدم الأسماء كلها﴾ [سورة البقرة:31]، فكان ابن عباس يقول: علمه الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارفها الناس من دابّة وأرض، وسهل وجبل، وجمل وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها.
وروى خَصيف عن مجاهد قال: علمه اسم كل شيء.
وقال غيرهما: إنما علمه أسماء الملائكة.
وقال آخرون: علمه أسماء ذريته أجمعين.
قال ابن فارس:« والذي نذهب إليه في ذلك ما ذكرناه عن ابن عباس. فإن قال قائل: لو كان ذلك كما نذهب إليه لقال: ثم عرضهن أو عرضها، فلما قال: ﴿عرضهم﴾ عُلم أن ذلك لأعيان بني آدم، أو الملائكة، لأن موضوع الكناية في كلام العرب أن يُقال لِما يعقل: عرضهم، ولِما لا يعقل: عرضها، أو عرضهن.
قيل له: إنما قال ذلك - واللّه أعلم - لأنه جمع ما يَعْقِل وما لا يعقل، فغلَّب ما يعقل، وهي سُنَّةٌ من سُنن العرب -أعني باب التغليب- وذلك كقوله تعالى:﴿ واللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبع ﴾[سورة النور:45]. فقال: ﴿منهم﴾ تغليباً لمن يَمْشي على رِجْلين وهم بنو آدم.
فإن قال: أ فتقولون في قولنا سيف وحُسام وعضب إلى غير ذلك من أوصافه إنه توقيف حتى لا يكون شيء منه مُصْطَلَحاً عليه؟
قيل له: كذلك نقولُ، والدليلُ على صحته إجماعُ العلماءِ على الاحتجاج بلغةِ القوم فيما يختلفون فيه أو يتفقون عليه، ثم احتجاجهُم بأشعارهم ولو كانت اللغة مُوَاضَعةً واصطلاحاً لم يكن أولئك في الاحتجاج بهم بأوْلَى منَّا فِي الاحتجاج بنا لو اصطلحنا على لغةِ اليوم ولا فَرْق.
ولعل ظاناً يظنُّ أن اللغةَ التي دللنا على أنها توقيفٌ إنما جاءت جملةً واحدة وفي زمان واحد وليس الأمر كذلك؛ بل وقّف اللّه عزّ وجلَّ آدم -عليه السلام- على ما شاء أن يُعَلِّمه إياه مما احتاج إلى علمه في زمانه وانتشر من ذلك ما شاء الله، ثم عَلّم بعد آدم من الأنبياءِ
- صلوات اللّه عليهم - نبيّاً نبيّاً ما شاء اللّه أن يُعَلِّمه حتى انتهى الأمر إلى نبينا محمد
-صلى الله عليه وسلم- فآتاه اللّه من ذلك ما لم يُؤتِه أحداً قبلَه تماماً على ما أحسنه من اللغة المتقدمة، ثم قرّ الأمر قَراره، فلا نعلمُ لغةً من بعده حدثَتْ، فإن تعمَّل اليوم لذلك متعمِّل وجدَ من نُقَّاد العلم من يَنْفيه ويَرُدّه.
ولقد بلَغنا عن أبي الأسود الدؤلي أن امرءاً كلَّمه ببعضِ ما أنكَره أبو الأسود، فسأله أبو الأسود عنه فقال: هذه لغةٌ لم تَبْلُغْك، فقال له: يا بن أخي، إنه لا خيرَ لك فيما لم يَبْلُغْني، فعرَّفَه بلُطْف أن الذي تكلَّم به مُخْتَلَق.
و خَلَّة أخرى: إنه لم يبلغنا أن قوماً من العرب في زمانٍ يقاربُ زماننا أجمعوا على تسميةِ شيء من الأشياءِ مُصْطَلِحِين عليه، فكنا نستدلّ بذلك على اصطلاحٍ قد كان قبلَهم.
وقد كان في الصحابة رضي اللّه عنهم - وهم البُلَغاءُ والفصحاءُ - من النظر في العلوم الشريفة ما لا خفاءَ به، وما عَلِمناهم اصطلَحوا على اختراعِ لغة أو إحْدَاث لفظةٍ لم تتقدمهم، ومعلوم أن حوادثَ العالَم لا تنقضي إلاّ بانْقِضَائِه، ولا تزولُ إلاّ بِزَواله.
وفي كل ذلك دليلٌ على صحَّة ما ذهَبْنا إليه من هذا الباب«.
يقول امحمد بن عبد الكبير السلمي (تـ.1958م) [بغية المبصر في شرح المزهر، ص:86 بتحقيقي]:
« قَصَرَ مَحَلَّ الخلافِ عَلى اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، وأبْقَى ما سِواها في سَبيلِ الاحْتِمال. وَالحقُّ أنَّ مَحَلَّ الخلافِ عامٌّ فِيها وَفي غَيْرِها، وَيَأتي ما يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ:« وَلَعَلَّ ظانّاً»، فَإنَّهُ يُنافي ما اخْتارَهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ.
قَوْلُهُ:« تَوْقِيف». أي وَضْعِيَّةً مَجازاً، مِنْ إطْلاقِ اسْمِ السَّبَبِ الّذي هُوَ التَّوْقِيفُ الّذي مَعْناهُ التَّعْلِيمُ عَلى مُتَعَلَّقٍ لِلْمُسَبِّبِ، وَهُوَ الإِدْراكُ، وَمُتَعَلَّقُهُ وَهُوَ الوَضْعُ؛ قالَهُ البَناني.
[ حاشية البناني على جمع الجوامع 1/230].
قَوْلُهُ:« عَنِ ابْنِ عَبّاس»؛ إلخ. أصْلُهُ ما في البُخارِيّ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ: بابُ قَوْلِ الله تَعالى:
﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّها﴾، عَنْ أنَسٍ –رَضِيَ الله عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ - صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالَ:« يَجْتَمِعُ المؤْمِنونَ يَوْمَ القِيامَةِ فَيَقولونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنا إلى رَبِّنا، فَيَأتونَ آدَمَ، فَيَقولونَ: أَنْتَ أبو النّاسِ، خَلَقَكَ الله بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أسْماءَ كُلِّ شَيْءٍ، فَاشْفَعْ لَنا عِنْدَ رَبِّكَ حَتّى يُريحَنا مِنْ مَكانِنا هَذا»؛ الحديث.
[ الحديث رقم: 4206، باب قول الله: ﴿وعلم آدم الأسماء كلها﴾، كتاب التفسير، سورة البقرة].
قَوْلُهُ:« لأنَّ مَوْضوعَ الكنايةِ» المرادُ بِها الضَّميرُ، وَهُوَ عِبارَةُ البَصْرِيِّينَ، وَالكِنايةُ وَالمكْنى عِبارَةٌ كُوفِيَّةٌ، وَلَيْسَ المرادُ بِها إطْلاقُ الملْزومِ وَإرادَةِ اللاّزِمِ المعْروفُ عِنْدَ البَيانِيِّينَ، فَإنَّهُ لا لُزومَ هُنا.
قَوْلُهُ:« وَلَوْ كانَ اللُّغَة»؛ إلخ. هَذا أَحَدُ دَليلَيْنِ ذَكَرَها عَلى إِبْطالِ كَوْنِ اللُّغَةِ مَواضَعَةً.
وَثانِيهِما قَوْلُهُ فِيما يَأتي:« إنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنا»؛ إلخ.
قَوْلُهُ:« فَغَلَّب»؛ إلخ. قالَ في "المطول": [ ص:159].
» وَجَميعُ بابِ التَّغْليبِ مِنَ المجاز، لِأنَّ اللَّفْظَ لم يُسْتَعْمَلْ فيما وُضِعَ لَهُ.
أَلا تَرى أنَّ ﴿ القانِتينَ﴾ [سورة آل عمران:17] مَوْضوعٌ لِلذُّكورِ الموْصوفينَ بِهَذا الوَصْفِ، فَإطْلاقُهُ عَلى الذُّكورِ وَالإناثِ إطْلاقٌ عَلى غَيْرِ ما وُضِعَ لَهُ، وَقِسْ عَلى هَذا»؛ اهـ.
» وفي" المُغني" القاعِدَةُ الرّابِعَةُ: إنَّهُمْ يُغَلِّبونَ عَلى الشَّيْءِ ما لِغَيْرِهِ لِتَناسُبٍ بَيْنَهُما أوِ اخْتِلاط»؛ اهـ. [مغني اللبيب 6/677].
وَظاهِرُ قَوْلِهِ:« أو اخْتِلاط» أنَّهُ مِنْ مَجازِ الاسْتِعارَةِ، فَيُقالُ هُنا: شَبَّهَ ما لايعْقِلُ بِما يَعْقِلُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الكُلَّ مُفْتَقِرٌ إلى ما يُمَيِّزُهُ عَنْ نَظائِرِهِ، ثُمَّ اسْتُعيرَ اللَّفْظُ الدّالُّ عَلى المشَبَّهِ بِهِ لِلْمُسْتَعار لَهُ.
وَقَوْلُهُ:« أوْ تَناسُبٍ» صَريحٌ في أنَّهُ مِنْ قَبيلِ المجازِ المرْسَلِ عَلاقَتُهُ إمّا التَّناسُبُ أوِ المجاوَرَةُ، فَيُقالُ: إِطْلاقُ ضَميرِ جَماعَةِ العُقَلاءِ عَلى غَيْرِ العُقَلاءِ مَجازٌ مُرْسَلٌ عَلاقَتُهُ الضِّدِّيَّةُ. أي ضِدِّيَّةُ العُقَلاءِ لِغَيْرِهِمْ، وَيُنّزَّلُ المتَضادّانِ مُنَزَّلَةَ المتَناسِبَيْنِ؛ أوِ المجاوَرَةُ، أي في صِفَةِ التَّمْييزِ بِالأَسْماءِ.
وَقالَ الصَّبّانُ في "رسالته البيانية":« الأَحْسَنُ أنَّ عَلاقَتَهُ المجاوَرَةُ في الذِّهْنِ أوِ في الذِّكْرِ، أوْ أنَّهُ اسْتِعارَةٌ عَلاقَتُها المشابَهَةُ»؛ اهـ.
وَ هَذا كُلُّهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَعْنى الّذي لَمْ يُوضَعْ لَهُ اللَّفْظُ، وَهُوَ غَيْرُ العُقَلاءِ هُنا. وَأمّا بِالنِّسْبَةِ لَهُ وَلِلْمَعْنى الأَصْليّ، فَهُوَ إمّا مِنْ قَبيلِ اسْتِعْمالِ اللَّفْظِ في حَقيقَتِهِ وَمَجازِهِ، أوْ مِنْ قَبيلِ عُمومِ المجاز.
قَوْلُهُ:« التَّغْليب». جَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ في الآيةِ أنْ يَكونَ الأَصْلُ أسْماءَ المسَمَّياتِ، فَـ"ـألْ" نائِبَةٌ عَنِ الاسْمِ الظّاهِرِ. [ تفسير الكشاف 1/130].
وَبَعْدَ أنْ نَقَلَهُ في "المغني" في مَبْحَثِ "ألْ" قالَ:
» وَالمعْروفُ مِنْ كَلامِهِمْ إنَّما هُوَ التَّمْثيلُ بِضَميرِ الغائِبِ»؛ اهـ.[ مغني اللبيب 1/339 وما بعدها].
مِثالُ الأَخيرِ نَحْوُ: ﴿ فَإنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأوَى﴾ [ النازعات:41]، وَهُوَ مَذْهَبُ الكوفِيِّينَ؛ إلخ.
قَوْلُهُ:« وَمَعْلومٌ أنَّ حَوادِثَ»؛ إلخ. أي فَلَوْ كانوا يَضَعونَ لَتَجَدَّدَ مِنْهُمُ الوَضْعُ عِنْدَ تَجَدُّدِ الحوادِثِ، وَلا شَيْءَ مِنْ ذَلِكَ بِكائِنٍ، وَانْتِفاءُ اللاّزِمِ يُؤْذِنُ بِانْتِفاءِ الملْزومِ».
وجدير بالملاحظة أن السيوطي كرر الصنيعَ نفسَه من حيث التوثيقُ، ومن حيث الإقرار بمذهب ابن فارس العقدي، إذ قال:« هذا كلام ابن فارس، وكان من أهل السنة»، ملمّحا إلى ما يميز التصور السني من الوقوف عند الأثر، وعدم تحميل النص ما لا يحتمل؛ ولا شك أن الرجلان طُرّاً ينهلان من المنهل نفسه حتى الرِّيّ.
وانطلاقا من نزاهة السيوطي المتمثلة في قرع الفكر بالفكر، اقتضى الموقف التعريج على التصور الاعتزالي في القضية عبر إدراج كلام جِنّيّ اللغة العربية أبو عثمان ابن جني الذي استوعب أصوله من أجوبة شيخه الحسين بن أحمد بن عبد الغفار أبو علي الفارسي (تـ.377 هـ)، مع التذكير بنحلتهما معا. يقول:« وكان هو وشيخه أبو علي الفارسي معتزليين».
قَوْلُهُ:« معتزليين». نَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ خِلِّكانَ في الفارِسِيّ:« وَكانَ مُتَّهَماً بِالاعْتِزالِ»، وَكَذا قالَ المصَنِّفُ في "بغية الوعاة"؛ وَلَمْ أَقِفِ الآنَ عَلى وَصْفِ ابْنِ جِنّي بِهِ.
و لأجل ذلك توقف محمد علي النجار في نفي أو إثبات إلحاق سمة الاعتزال به، وإن كان قد افتتح خطبة "الخصائص" بقوله:« الحمدُ لله الواحدِ العَدْل القَديم» واصفاً الله تعالى بالوحدانية، مُرْدفاً إليه صِفَتَيْ العَدْل والقِدَم. وقد نَصَّ غيرُ واحدٍ على أنّ ابنَ جنّي كان يرى رأيَ المذهب الكلامي الاعتزاليّ؛ وهذه لفتةٌ منها، إذْ غالباً ما يكشف المصنِّفُ عن ذاته فِكْراً واعتِقاداً عبر المقدّمة في شَكْل إِلْماعاتٍ وإشاراتٍ يَلْتَقِطُها اللّبيبُ الفَطِنُ. يقول محمد علىي النَّجّار:« وكان هِجِّيرَى المعتزلةِ القولُ بالعدْل والتّوحيد، وقد وَسَمَ غيرُ واحدٍ المعتزلةَ بهذا الوصف.
قال تقي الدين المقريزي (تـ.854 هـ):« المعتزلةُ الغُلاةُ في نفي الصّفات الإلهية، القائِلونَ بالعدل والتّوحيد». يقول السَّيّد الشّريف:
« والمعتزلةُ سَمَّوْا أنْفُسَهُم أَهْلَ العَدْل لأنهم أَوْجَبوا على الله تعالى ما هو عَدْلٌ عندهم مِنْ ثوابِ المطيع وعقاب العاصي، وتَيْسير أسباب الطاعات وَزواجر المعاصي ورعاية ما هو الأصْلَح للعباد، ولم يُجَوِّزوا شيئاً ممّا يُعَدُّ ظُلْماً. وأَهْلَ التَّوْحيد إِذْ لم يُثْبِتوا له تعالى صفات قديمة زائدة على ذاته لاسْتِلْزامه تَعَدُّدَ القدماء المنافي للتوحيد.
على أنّ ابنَ جنّي كان لا يتقيَّدُ بمذهب المعتزلة، و كان يذهب إلى ما يَراهُ الحقّ، منتخبا من الآراء ما يَعِنُّ له موافِقاً لتصوُّراته الذاتية. من ذلك ما نراهُ في كلامه على عِلَلَ الفقه من كونها أَعْلامٌ وأماراتٌ بِوُقوع الأحْكام، وذلك منهج أهل السنة؛ فَتَعليلُ الأحكام نابِعٌ من صفاتٍ للأفعال واردة في الشَّرْع سَلَفاً، في حين أنّ المعتزلة يَرَوْنَ أنّ عِلَلَ الفقه مُؤَثرة في الأحكـام الشّرعية ؛ بحيث يستقلُّ العقْلُ في إيجاب ما في الأشياء من صلاح و فساد. ومبدأ هذا الخلاف ما اصطُلِح عليه بالتَّحْسين والتَّقْبيح العقليين الذي أَصَّلَهُ الجَهْم بْنُ صَفْوان (تـ.130 أو 132هـ) بقاعدته المأثورة:« إيجابُ المعارف بالعقْل قَبْل وُرود الشَّرْع».
وكيفما كان الأمر، فقد أورد السيوطي رأيه على سبيل بسط الرأي الآخر تاركا حرية الاختيار للقارئ؛ يقول:
« وقال ابنُ جني في "الخصائص" - وكان هو وشيخه أبو عليّ الفارسي مُعْتَزِلِيَّيْن-:
باب القول على أصل اللغة إلهام هي أم اصطلاح؟
هذا موضع مُحْوِج إلى فَضْل تأمُّل غير أن أكثَر أهلِ النظر على أن أصلَ اللغةِ إنما هو تواضعٌ واصطلاح لا وَحْيٌ ولا توقيفٌ، إلاّ أن أبا علي - رحمه اللّه- قال لي يوماً: هي من عند اللّه، واحتج بقوله تعالى: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأسماءَ كُلَّها ﴾. و هذا لا يتناول موضعَ الخلاف، وذلك أنه قد يجوز أن يكونَ تأويلُه: أَقدَرَ آدَمَ على أَنْ واضَعَ عليها. وهذا المعنى من عند اللّه سبحانه لا مَحالة؛ فإذا كان ذلك مُحْتَمَلاً غير مُسْتَنْكَر سقط الاسْتِدلال به. وقد كان أبو علي رحمه اللّه أيضاً قال به في بعض كلامه.
وهذا أيضاً رأي أبي الحسن، على أنه لم يمنعْ قولَ مَنْ قال إنها تواضعٌ منه؛ وعلى أنه قد فُسِّر هذا بأنْ قيل: إنه تعالى علَّم آدمَ أسماء جميع المخلوقات بجميع اللَّغات: العربية، والفارسية، والسريانية، والعِبرانية، والرُّومية، وغير ذلك من سائر اللغات؛ فكان آدمُ وولدُه يتكلمون بها. ثم إن ولدَه تفرَّقوا في الدنيا وعَلِق كلُّ واحد منهم بلغة من تلك اللغات، فغَلَبَتْ عليه، واضمحلَّ عنه ما سواها لِبُعْدِ عَهْدهم بها، وإذا كان الخبرُ الصحيحُ قد ورد بهذا وجب تَلقِّيه باعتقاده والانطواء على القول به.
فإن قيل: فاللغةُ فيها أسماءٌ وأفعالٌ وحروف، وليس يجوز أن يكون المُعلَّمُ من ذلك الأسماءَ وحدَها دونَ غيرها، مما ليس بأسماء؛ فكيف خَصَّ الأسماءَ وحدَها؟
قيل: اعتمد ذلك من حيث كانت الأسماءُ أقوى القُبُل [ أي الأنواع والأصناف الثلاثة: الاسم والفعل والحرف] الثلاثة، ولا بد لكل كلامٍ مفيدٍ منفرد منَ الاسم، وقد تستغني الجملةُ المستقلةُ عن كل واحد من الفعل والحرف؛ فلما كانت الأسماء من القوّة والأوليَّة في النفس والرتبة، على ما لا خفاء به، جاز أن يكتفى بها عما هو تالٍ لها ومحمول في الحاجة إليه عليها.
قال: ثم لِنعد فَلْنقل في الاعتلال لمن قال بأنَّ اللغة لا تكون وحْياً؛ وذلك أنهم ذهبوا إلى أن أصلَ اللغة لا بدَّ فيه من المُوَاضعة. قالوا: وذلك بأن يَجْتَمِعَ حكيمان أو ثلاثةٌ فصاعداً، فيحتاجوا إلى الإبانةِ عن الأشياءِ المعلومات، فيضعوا لكل واحد منها سِمَةً ولفظاً، إذا ذُكِرَ عُرِفَ به ما مُسَمَّاه؛ ليمتاز عن غيره، وليُغْني بذِكْره عن إحْضَاره إلى مرآة العين، فيكون ذلك أقربَ وأخَفَّ وأسهلَ من تَكلُّف إحضاره لبلوغ الغرضِ في إبانة حاله؛ بل قد يُحْتاج في كثير من الأحوال إلى ذِكْر ما لا يمكن إحضارُه ولا إدْنَاؤُه كالفاني، وحال اجتماع الضدَّين على المحلِّ الواحد، وكيف يكون ذلك لو جاز وغيرُ هذا مما هو جارٍ في الاستحالة والتَّعَذُّر مَجْراه؟ فكأنهم جاؤوا إلى واحد من بني آدم فأومأوا إليه وقالوا: إنسان، إنسان، إنسان. فأيّ وقتٍ سُمِع هذا اللفظ عُلِم أن المراد به هذا الضرْب من المخلوق، وإن أرادوا سِمَةَ عَيْنه أو يده أشاروا إلى ذلك فقالوا: يد، عين، رأس، قدَم أو نحو ذلك. فمتى سُمعت اللفظة من هذا عرف معْنِيُّهَا، وهلمَّ جرّاً فيما سوى ذلك من الأسماء والأفعال والحروف.
ثم لك من بعد ذلك أن تنقلَ هذه المُواضعة إلى غيرها، فتقول: الذي اسمهُ إنسان فليجعل مكانه مَرْد، والذي اسمهُ رأس فليجعل مكانه سر، وعلى هذا بقيةُ الكلام.
وكذلك لو بُدِئت اللغةُ الفارسيَّة، فوقعت المُوَاضعة عليها، لجاز أن تُنْقَلَ ويُوَلَّد منها لغاتٌ كثيرة من الرومية والزِّنجية وغيرهما؛ وعلى هذا ما نشاهدُه الآن من اختراع الصُّنَّاع لآلاتِ صنائعهم من الأسماء كالنَّجار، والصائغ، والحائك، والبنَّاء، وكذلك الملاَّح.
قالوا: ولكن لا بد لأوَلها من أن يكون متواضعاً عليه بالمشاهدة والإيماء.
قالوا: والقديمُ - سبحانه - لا يجوزُ أن يُوصَف بأن يُوَاضِعَ أحداً على شيء إذ قد ثبتَ أن المُوَاضَعة لا بدَّ معها من إيماءٍ وإشارةٍ بالجارحةِ نحوُ المُومَأُ إليه والمشار نحوه.
قالوا: والقديمُ سبحانه لا جارحةَ له فيصحُّ الإيماء والإشارة منه بها؛ فبطل عندهم أن تَصِحَّ المُوَاضعة على اللغة منه تقدست أسماؤه.
قالوا: ولكن يجوزُ أن يَنْقُلَ اللّهُ تعالى اللغة التي قد وقَع التواضعُ بين عبادهِ عليها بأن يقولَ: الذي كنتم تعبِّرون عنه بكذا عَبِّروا عنه بكذا، والذي كنتم تسمُّونه كذا ينبغي أن تسمُّوه كذا. وجوازُ هذا منه - سبحانه - كجوازِه من عبادِه، ومن هذا الذي في الأصوات ما يتعاطاه الناسُ الآن من مخالفة الأشْكال في حروف المُعْجَم، كالصورة التي توضع للمُعَمَّيات والتراجم. وعلى ذلك أيضاً اختلفت أقلامُ ذوي اللغات كما اختلفت ألسنُ الأصوات المرتَّبة على مذاهبهم في المواضعات؛ فهذا قولٌ من الظهور على ما تراه.
إلاّ أنني سألتُ يوماً بعضَ أهله فقلت: ما تنكر أن تصحّ المواضعة من اللّه – سبحانه؟ وإن لم يكن ذا جارحة بأن يُحدث في جسم من الأجسام - خشبةٍ أو غيرها - إقبالاً على شخص من الأشخاص، وتحريكاً لها نحوَه، ويُسْمع - في حال تحرك الخشبة نحوَ ذلك الشخص - صَوْتاً يضَعُه اسماً له، ويعيد حركة تلك الخشبة نحو ذلك الشخص دفعاتٍ، مع أنه - عزَّ اسمُه - قادرٌ على أن يُقْنِعَ في تعريفه ذلك بالمرَّة الواحدة، فتقومُ الخشبة في هذا الإيماء وهذه الإشارة مقامَ جارحة ابن آدم في الإشارة بها في المواضعة. وكما أن الإنسان أيضاً قد يجوزُ إذا أراد المواضعة أن يشير بخشبةٍ نحو المرادِ المتواضَعِ عليه، فيقيمها في ذلك مقامَ يده، لو أراد الإيماء بها نحوَه.
فلم يُجب عن هذا بأكثرَ من الاعترافِ بوجوبه، ولم يخرج من جهته شيء أصلاً فأحكيه عنه، وهو عندي وعلى ما تراه الآن لازمٌ لمن قال بامتناع كون مواضعة القديم تعالى لغةً مُرْتجلة غير ناقلة لساناً إلى لسان، فاعرف ذلك.
وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات، كدَويِّ الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشَحِيج الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونَزيب الظبْي، ونحو ذلك. ثم وُلِّدت اللغاتُ عن ذلك فيما بعد.
وهذا عندي وجهٌ صالح ومذهب مُتَقَبَّل».
تعليقا على هذا النص الذي استهله ابن جني بكون القضية شائكة تحتاج تأملا على نسق ما سيحلي به هذا الموضع، أورد ما قاله امحمد بن عبد الكبير السلمي شارحا:
قَوْلُهُ:« وَهَذا لا يَتَناوَلُ مَوْضِعَ الخلافِ»؛ إلخ. أي لِأَنَّ المطْلوبَ في المسْأَلَةِ ما يُفيدُ القَطْعَ، وَلَيْسَتِ الآيةُ مُفيدَتَهُ لِقِيَّامِ الاحْتِمالِ، وَسَيَأتي للمُصَنِّفِ أيضاً أنَّ لَفْظَ الأَسْماءِ عامٌّ لِكَوْنِهِ جَمْعاً مُعَرَّفاً بِاللاّمِ، وَدَلالَةُ العامِّ عَلى أفْرادِهِ ظَنِّيَّةٌ، كَما تَقَرَّرَ في الأُصولِ.
قَوْلُهُ:« أنْ يَكونَ تَأويلُهُ»؛ إلخ. التَّأويلُ فَصْلُ الظّاهِرِ عَلى المحتَمَلِ المرْجوحِ، فَإِنْ جُعِلَ لِدَليلٍ فَصَحيحٌ مِنْها، وَالتَّبادُرُ عَلامَةُ الحقيقَةِ، وَإنَّما ذَكَرَهُ تَأويلاً لِأَنَّ اسْتِعْمالَ "عَلَّمَ" في "أقْدَرَ" عَلى التَّعْليمِ مَجازٌ مُرْسَلٌ . قال في " المُغْني" القاعِدَةُ الخامِسَةُ: إنهم يُعَبِّرون بالفِعْل عن أُمورٍ كَثيرة.
أَحَدُها: وُقوعُهُ، وهو الأَصْلُ.
وَالثّاني: مُشارَفَتُهُ، نحو:﴿ وَإذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكوهُنَّ﴾[ سورة البقرة:231.]، أي فَشارَفْنَ انْقِضاءَ [العِدَّة].
الثّالِثُ: إرادَتُهُ، وَأَكْثَرُ ما يَكونُ ذَلِكَ بَعْدَ أداةِ الشَّرْطِ، نَحْو:
﴿ فَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّه﴾ [سورة النحل:98]، ﴿ إِذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فَاغْسِلوا﴾ [سورة المائدة:6]، ﴿ إذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقولُ لَهُ كَنْ فَيَكونُ﴾ [سورة البقرة:117].
الرّابع: القُدْرَةُ عَلَيْهِ، نَحْو: ﴿ وَعْداً عَلَيْنا إنّا كُنّا فاعِلينَ﴾ [سورة الأنبياء:104]، أي قادِرينَ عَلى الإِعادَة، وَأَصْلُ ذَلِكَ أنَّ الفِعْلَ يَتَسَبَّبُ عَنِ الإرادَةِ والقُدْرَة، وَهُمْ يُقيمونَ السَّبَبَ مَقامَ المُسَبَّب وَ بِالعَكْسِ؛ انظُرْ بَقِيَّتَه. [ المغني 6/684].
قَوْلُهُ:« لا يتناول مَوْضِعَ»؛ إلخ. أي لأنّ المطْلُوبَ في المسْأَلَةِ ما يُفيدُ القَطْعَ، وَلَيْسَتِ الآيةُ بِمُفِيدَتِهِ لِقِيَّاِم الاحْتِمالِ، وَسَيَأتي أيضاً أنّ لَفْظَ ﴿الأَسْماء﴾ عامٌّ لِكَوْنه جَمْعاً مُعَرَّفاً باللّام، ودَلالَةُ العامّ عَلى جَمِيعِ أَفْرادِهِ ظَنِّيَّةٌ؛ كَما تَقَرَّرَ في عِلْمِ الأُصُولِ.
قَوْلُهُ:« تأويلُهُ»، إلخ. هَذا خِلافُ المُتَبادَر مِنَ الآيةِ، وَلِذَلِكَ عَبَّرَ بِالتّأوِيلِ. وَأيضاً اسْتِعْمالُ ﴿ عَلَّمَ﴾ في أَقْدَرَ مَجازٌ مُرْسَلٌ، وَهُوَ خِلافُ الأصْل وَحَيْثُ إِنَّ ﴿عَلَّمَ﴾ ظاهِرٌ في "أَوْجَدَ العِلْمَ" لا نَصٌّ، كانَ مُحْتَمِلاً.
انْظُرْ تَعْريفَ الظّاهِرِ وَ لا بُدَّ في "جمع الجوامع".
قَوْلُهُ:« تَواضُعٌ مِنْه»، أي مِنَ القَوْل بِأَنَّها تَوْقيفٌ، لأنّهُ لا قاطِعَ في المسْألَةِ، كَما سَيَأتي
قَوْلُهُ:« وَعَلى أَنَّه فُسِّرَ هذا»؛ إلخ. أي وَهَذا دَليلٌ لِمَنْ قالَ بِأنّها تَوْقيفٌ، فَالآيةُ عِنْدَهُ فِيها احْتِمالانِ:
أحَدُهُما: أَنّ ﴿ عَلَّمَ﴾ بِمَعْنى "أَقْدَرَ"، فَيَصيرُ المعْنى عَلَيْهِ أنّهُ أَقْدَرَ آدَمَ عَلى الأسْماءِ. أي عَلى الاصْطِلاح عَلَيْها، وَهذا الاحْتِمالُ عِنْدَهُ هُوَ الظّاهِرُ، فَلا يُنافي احْتِمالَ أنْ يكونَ ﴿ عَلَّمَ﴾ بِمَعْنى أنّهُ أَطْلَعَهُ عَلى الألْفاظِ وَمَعانيها، وَهُوَ الاحْتِمالُ الثّاني عِنْدَهُ، لَكِنَّهُ مَرْجوحٌ.
وَلَمّا كانَتِ الآيةُ عِنْدَهُ مِنْ قَبِيلِ الظّاهِرِ قالَ بَعْدَ ذَلِكَ:« وإذا كانَ الخَبَرُ الصَّحيحُ بها»؛ إلخ.
ومَعْنى:« وَرَدَ بها» أي بِكَوْن اللّغَةِ تَوْقيفِيّةً.
قَوْلُهُ:« فَإِنْ قيلَ». بِهَذا يُرَدُّ عَلى القَوْلَيْن مَعاً.
أَمّا عَلى أنّها تَوْقيفٌ فَظاهِرٌ، لأنّ مُدَّعَى قائِليهِ أنّ اللّغةَ بِأسْمائها وأفْعالِها وَحُروفِها تَوْقيفٌ، وَالدَّليلُ إنّما ذُكِرَتْ فيهِ الأَسْماءُ، فَهُو أَخَصُّ مِنَ المُدَّعى
وَأَمّا عَلى أنّها مُواضَعَةٌ، فَلِأَنَّ مَعْنى ﴿ عَلَّمَ﴾ عِنْدَهُم أَقْدَرَهُ عَلى الاصْطِلاح؛ فَما وَجْهُ الاقْتِصارِ عَلى الأَسْماء؟
و مَا رُفِعَ بِهِ الإِشْكالُ هُوَ جَوابٌ بالمَنْع، وَحاصِلُهُ أنّ الأسْماءَ لَها فَرْقٌ عَلى الأفْعال وَ الحروفِ مِنْ جِهَتَيْن:
إِحْداهُما أنّها لا تَسْتَغْني عَنْها في الإخْبار؛ بَلْ رُبّما انْفَرَدَتْ عَنْهُما وَ تَمَّتْ بِها الإِفادَةُ، بِخِلافِ غَيْرِها، فَإِنَّهُ لا يُمْكِنُ الإِفادَةُ بِهِ، وَعَنْ هَذِهِ عَبَّرَ بِالقُوَّة وَثانيَّتُهُما: الأوَّلِيَّة؛ وَلَكَ في فَهْمِها وَجْهانِ:
أَحَدُهُما أنّها أَوَّلُ ما وُضِع، وَيَأْتي للمُصَنِّفِ كَلامٌ فِيهِ.
وَثانِيهِما أنَّ المرادَ بها أنّ الأسْماءَ تَسْتَقِلُّ بالتَّصَوُّر وَ التَّصْديق، بِخلافِ الأَفْعالِ، فَإِنَّها لا تَقَعُ إلا مَحْكوماً بها، وأَمّا الحُروفُ فَإِنَّما هِيَ أَدَواتٌ وَروابِطُ.
قَوْلُهُ:« بل قَدْ يُحتاجُ»؛ إلخ. هذا كَالإِشارَة إلى سُؤالٍ حاصِلُهُ أَنْ يُقالَ: كانَ يُكتَفى بِالإشارَةِ عَنْ وَضْعِ الألْفاظ؟
فَأَجابَ عَنْهُ بِأَنَّه لَيْسَ كُلُّ مُشارٍ إِلَيْه يُمْكِنُ حُضورُهُ في التَّخاطُب، هَذا إذا كانَ مَوْجُوداً وَلَيْسَ المحْكومُ عَلَيْهِ مُنْحَصِراً في المَوْجود؛ بَلْ تارةً يَكونُ مِنَ المُمْكِنِ، وأُخْرى مِنَ المُسْتَحيلِ إِمّا عَقْلاً، كَقَوْلِنا اجْتِماعُ النَّقيضَيْن لا يَكون.
أَوْ عادَةً، كَقَوْلِنا: عَوْدُ المَيِّتِ إلى الحَياةِ مُحالٌ.
قَوْلُهُ:« بِأَنْ يَجْتَمِعَ حَكيمان»؛ إلخ. وكَذا واحِدٌ عَلى ما يَأتي عَنِ الفَخْرِ إلا أنّهُ لا تَتِمُّ فيهِ المُواضَعَةُ؛ تأَمّلْه.
قَوْلُهُ:« ثُمَّ لَكَ أنْ تَنْقُلَ هَذِهِ المُواضَعَةَ». قَدْ جَعَلَ بَعْضُهُمْ هَذا مِنْ ثَمَراتِ الخِلافِ لِمَا يَأتي. فَعَلى القَوْلِ بأنّها تَوْقيفٌ لا يَجوزُ، وَعَلى الآخَرِ بِالمواضَعَةِ جائِزٌ.
قَوْلُهُ:« ولا بُدَّ لِأَوَّلِها»؛ إلخ. أي وَما عَداهُ يُمْكِنُ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بِالأوّل وَلَوْ بِطَريقِ الكِنايةِ أوِ اللّزُوم.
قَوْلُهُ:« قالوا: وَ لَكِنْ يَجوزُ»؛ إلخ. هَذا الوَجْهُ عَيْنُ التَّوْقيف.
قَوْلُهُ:« وَمَنْ هَذا الّذي»؛ إلخ. يُشيرُ إلى أنَّ المواضَعَةَ كَما تَأتي في الألْفاظِ تَأتي في الرُّقوم مُشاراً بِها إلى مَعانِيها الّتي وُضِعَتْ لَها.
وَمَعْنى كَوْنِها مِنَ الأَصْواتِ أنَّهُ يُمْكِنُ التَّعْبيرُ عَنْها بِها.
قَوْلُهُ:« بِأَنْ يُحْدِثَ»؛ إلخ. هَذا أَحَدُ الوُجوهِ في مَعْنى التَّوْقيفِ، وَلَيْسَ قاصِراً عَلى تَلَقّي النَّبيّ بِطَريق الوَحْيِ كَما يُفْهَمُ مِنْهُ.
قَوْلُهُ:« وَهَذا عِنْدي»؛ إلخ. أي أنّ مَنْ قالَ إِنّ مُواضَعَةَ الله غَيْرُ جائِزَةٍ- لأنّها تَدْعُو إلى الجارِحَةِ، وَهِيَ عَلى الله مُحالٌ- يَمْنَعُ قَصْرَهُ المواضَعَةَ عَلى الجارِحَةِ، وَيَلْزَمُهُ أنْ يَقولَ بِها في حَقِّهِ تَعالى. بِمَعْنى أنّ لَهُ أنْ يُوجِدَ في الجُثَّةِ وَنحْوِها صَوْتاً لَه لِعَدَم امْتِناعِ هَذا عَلَيْه سُبْحانَهُ.