يقول الإمام السنوسي في تفسير قوله تعالى ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ [الفاتحة:2]:
(أصل التربية: نقل الشيء من رتبة إلى رتبة، حتى يصل إلى الكمال الذي يريده المربي فيه. ويطلق الرب في اللغة: بمعنى المعبود، والسيد المالك، والقائم بالأمور، المصلح لها. والعالَمون: جمع سلامة على غير قياس، مفرده عالَم، وهو كل موجود سوى الله تعالى، جُمِع إشارةً إلى اختلاف أنواعه وأشكاله، وهيئاته وألوانه، وسائر صفاته، وكثرته.
ولا شك أن الثناء على الله تعالى بهذا الوصف العام، يحقق ما دلت عليه جملة الحمد قبله من أن كل كمال، وتكميل إنما هو لله تبارك وتعالى لاستلزام هذا الوصف انفراده تعالى بجميع صفات الإلهية، وانفراده جل وعلا باختراع جميع الحوادث التي من جملتها كل نعمة، وكل كمال حادث.
فإن قلت: إنما يتم الاستدلال بهذا الوصف على ما ذكرت إذا عرف بالبرهان القاطع حدوث جميع العوالم، ووجوب استنادها إلى المولى تبارك وتعالى حتى يلزم أن يكون ربا لجميعها، ولا دلالة لهذا الوصف على ذلك، فلا يكون وحده برهانا تاما على ما قبله.
قلت: بل هو برهان تام في غاية التمام؛ لأنه قد يصح في هذا الوصف برهان حدوث جميع العوالم، وذلك مأخوذ من كل واحد من لفظي المضاف والمضاف إليه. أما لفظ المضاف، فلإشعاره بالتربية الملزومة لتغيُّر العوالم المرئيات من حال إلى حال، وكل متغير حادث؛ إذ المتغير بالقبول أو بالحصول يستلزم ملازمة التغير لأحوال حادثة، وملازم الحادث فهو حادث، فالعوالم إذاً لملازمتها التغيرات بالحصول أو القبول كلها حادثة، وإذا كانت حادثة وجب استناد جميعها للفاعل المختار؛ لاستحالة اندفاع عدمها الأصلي واتصافها بالوجود العرضي الجائز بلا فاعل. فقد بان بهذا أخذ برهان الحدوث للعوالم كلها ووجوب استنادها إلى المولى تبارك وتعالى من لفظ: "رب" المضاف.
وأما لفظ المضاف إليه، فلإشعار جَمْعِ العالم فيه باتصافه بضروب من الجائزات لا حصر لها، كاختلاف أجناسها وأنواعها، وأصنافها وأشخاصها، وأشكالها وألوانها ومقاديرها، وألسنة ذوي الألسنة منها، واختلاف أمكنتها وأزمنتها وسائر صفاتها، وهذا -والله تعالى أعلم- حِكْمَةُ جمع العالم، مع ما فيه من المحافظة على الفواصل، ولهذا جُمِعَ جمع سلامة. وأيضا فجمع السلامة من جموع القلة، ففيه إشارة إلى أن العوالم، وإن كثرت كثرة لا حصر لها، فهي بالإضافة إلى قدرة الله تعالى، ومحيط علمه من حيز القليل الذي لا بال له.
وإذا عرفت هذا لم يخف عليك أن هذا الجمع يقتضي ملازمة كل فرد من أفراد العوالم لضروب من أنواع الجائزات لازِمَة الحدوث؛ لاستحالة القدم على كل جائز مساو لمقابله في الجواز، وملازم الحادث فهو حادث قطعا، مفتقر إلى الفاعل؛ لاستحالة وقوع الحادث وترجُّحه بالوجود على مقابله المساوي له بلا فاعل مخترع لوجوده، وذلك الفاعل هو الرب المسمى بالاسم الأعظم، الذي وجب له الحمد تبارك وتعالى. [قال المحقق نزار حمادي: نقله الشيخ الملالي في المواهب القدوسية في المناقب السنوسية].
من مقدمة تحقيق كتاب "أبكار الأفكار العلوية في شرح الاسرار العقلية في الكلمات النبوية"، تأليف الشيخ العلامة أبي يحيى زكريا بن يحيى الشريف الإدريسي المالكي الأشعري (كان حيا سنة 629هـ)، تحقيق: نزار حمادي، مكتبة المعارف. ص: 13-14.