مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

مفاهيم التماسك والانسجام من خلال كتاب «نظم الدرر في تناسب الآيات والسور» لبرهان الدين البقاعي، «سورة الفاتحة أنموذجا»

تمهيد:

الترابطُ في بناء القرآن الكريم مبني على نظم متميز تآلفت وانتظمت درره وتناسبت عناصره وأفكاره، فلا اختلاف ولا تنافر ولا تباين في جزء من أجزائه، فهو نظم متناسب في معانيه ومبانيه، في أصواته، وألفاظِه وتعابيره، في إيقاعِه وفَواصلِه، وتُعدُّ سورةُ الفاتحة أنموذجاً كسائر نماذج السور التي التأمت فيها المباني والمعاني، وجاءَت على نسق واحد من البيان تتعانق فيه الجمل والكلمات والحروف، فتشترك الآيات فيها على جملة من الوشائج اللفظية والمعنوية التي تربط أجزاء السورة الكريمة بعضها ببعض، وفي كل جزء من أجزائها أسباب ممدودة  في شبكة من العلائق المحكمة النسج . [1]

وفي هذا الصدد اتخذنا كتاب «نظم الدرر في تناسب الآيات والسور» لبرهان الدين البقاعي أنموذجا لدراسة مظاهر التماسك والانسجام في القرآن الكريم، حيث كان لهذا الأخير  باع طويل في علم التفسير وقضايا النص، ويُعدُّ الكتابُ من أهم الكتب التي التفتت جهة ترابط أجزاء السورة الواحدة، أو السورتين بعضهما ببعض، ولم يتوقف جهد البقاعي عند هذا الحد، بل تعداه إلى الاهتمام بقضية الربط فركز على ربط الجمل بعضها ببعض أكثر من عنايته بالروابط الموجودة داخل الجملة الواحدة، يقول في هذا الصدد: « وهذا العلم يكشف أن للإعجاز طريقين أحدهما: نظم كل  جملة على حيالها بحسب التركيب، والثاني نظمها مع أختها بالنظر إلى الترتيب، والأول أقرب تناولا وأسهل ذوقا.[2]

كما يُعَدُّ من أجَلّ كتب التفاسير التي عُنِيَت بالتناسب بين الآيات والسور في القرآن الكريم، وقد أوردَ البقاعي شعرا له في آخر الكتاب يمدح فيه تفسيره [3]

ولكي نفهم أكثر نظم سورة الفاتحة التي اتخذناها أنموذجا في هذا المقال، لابد من إحكام النظر في جميع آياتها والبحث عن الصلات المجتمعة بين جزئياتها، وهي تلك الصلات المبثوثة في مثاني الآيات ومقاطعها، وذلك بإمعان النظر فيها وضبط مقاصدها في سبيل الوصول إلى معرفة الدقة  في التماسك والاتساق والانسجام، وذلك من خلال معرفة أهم العناصر اللغوية والدلالية التي تجعلها وحدة متلاحمة ومترابطة:

التناسق والانسجام اللفظي:

جاءت الآيات  في «سورة الفاتحة» متناغمة منسجمة، فانتظمت الألفاظ والكلمات والأصوات مع بعضها في صورة متماسكة ملتحمة لتحقق الترابط اللفظي في السورة، فكان هناك تفرد وتميز في إيراد المعاني وانتقاء المباني، بحيث كانت الكلمة المفردة بمعناها ومبناها متمكنة في موقعها لا يسد مسدها مفردة أخرى، ففي قوله تعالى «الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين»[الفاتحة:2] يبرز دعاء الثناء الذي يرشدنا إليه الله جل جلاله، فـ [الْحَمْدُ] رفع بالابتداء، وقوله«لله» خبره فلام «لله» متعلق بالكون والاستقرار العام كسائر المجرورات المخبر بها، وهو هنا من المصادر التي أتت بدلا عن أفعالها في معنى الإخبار، فأصله النصب على المفعولية المطلقة على أنه بدل من فعله، وتقدير الكلام نحمد حمدا لله، فلذلك التزموا حذف أفعالها معها، ففي تقديم «الحمد» كانت الصفة مختصة به دون غيره، فالحمد لا يكون إلا لله. [4]

ثم جاءت صفات متتالية فكانت الأولى«الرب» فكانت هذه الصفة الأقوى والأظهر والأبين، ومعنى «الرب» أنه المستحق سبحانه لجميع المحامد لا لشيء غير ذاته الحائز لجميع الكمالات، أشار إلى أنه يستحقه أيضا من حيث كونه ربا مالكا منعما فقال«رب»[5] وقوله عز وجل«الْعَالَمِين»[الفاتحة:2] معناه كل ما خلق الله، كما قال: «وهو رب كل شيء» [6] فلو كانت هناك كلمة أخرى مثل : الناس لقصد بها الإنس فقط، فكانت كلمة العالمين أكثر انسجاما وتناغما مع السياق.

فكانت الآيات على النحو الآتي:« الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين ، الرَّحْمـنِ الرَّحِيم ، مَـالِكِ يَوْمِ الدِّين»[الفاتحة:2-3-4] ففي هذه الآيات بدأ بالعام وانتقل للخاص؛ فكلمة «الرب» من الأسماء الدالة على جملة معانٍ لا على معنى واحد، فهذا الاسم إذا أُفرد تناول في دلالاته سائر أسماء الله الحسنى وصفاته العليا فهي من الربوبية؛ لذلك تلتها صفات أخرى ملائمة و منسجمة معها ضمن السياق اللفظي، فكانت بمثابة التعريف بالمعبود، مرجع الأسماء الحسنى والصفات العليا، وهي:« الرب ، الرحمن ، الرحيم ، مالك» وكان اتباع الأوصاف الثلاثة المتقدمة بهذا ليس مجرد سرد صفات من صفاته تعالى، بل هو مما أثارته الأوصاف المتقدمة، فإنه لما وصف تعالى بأنه «رب العالمين»، «الرحمن الرحيم»، كان لها من الأثر ما أحدثه هذا التوالي، فكان لهذا الاتصال، والالتصاق، والتتابع دون فاصل بين اسم الله والصفات:«الرب،الرحمن، الرحيم، مالك»، عظيم الأثر في نفس السامع وبليغ الفهم في قلب القارئ. [7]

وفي قوله تعالى: «مَـالِكِ يَوْمِ الدِّين»[الفاتحة:4] تكملة لإجراء مجامع صفات العظمة والكمال على اسمه تعالى، فإنه بعد أن وصف بأنه «رب العالمين» وذلك معنى الإلهية الحقة، ثم عقب بوصفي«الرَّحْمـنِ الرَّحِيم» [الفاتحة:3] لإفادة عظم رحمته، ثم وصف بأنه «ملك يوم الدين»، وهو وصف بما هو أعظم مما قبله لأنه ينبئ عن عموم التصرف في المخلوقات في يوم الجزاء، فملك ذلك الزمان هو صاحب الملك الذي لا يشذ شيء عن الدخول تحت ملكه، وهو الذي لا ينتهي ملكه ولا ينقضي، ومع ما في تعريف ذلك اليوم بإضافته إلى الدين؛ أي الجزاء للإشعار بأنه معاملة العامل بما يعادل أعماله المجزى عليها في الخير والشر، وإجراء هذه الأوصاف الجليلة على اسمه تعالى إيماء بأن موصوفها حقيق بالحمد الكامل الذي أعربت عنه جملة الحمد، لأن تقييد مفاد الكلام بأوصاف متعلق ذلك المفاد يشعر بمناسبة بين تلك الأوصاف، وبين مفاد الكلام مناسبة تفهم من المقام.[8]

وفي قوله تعالى: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين»[الفاتحة:5] و«إياك» ضمير منفصل منصوب على أنه مفعول به لفعل «نعبد» متقدم عليه لأفادة الحصر والتخصيص بالدلالة على إفراد الله عز وجل بالعبادة، والتبرؤ من كل شرك فيها، وفي التعبير بنون الجماعة في فعلي: «نعبد»و«نستعين» يلاحظ العبد أنه واحد من الأمة الربانية المؤمنة العابدة لربها، لا تشرك بعبادته أحدا، «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين»[الفاتحة:5] وفي هذا تعميق لمعنى الجماعة الربانية الواحدة في قلب كل مؤمن مسلم لله جل جلاله. [9]

وفي قوله تعالى«اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيم»[الفاتحة:6] هنا تحول في الخطاب من ضمير المخاطب إلى ضمير المتكلم نحن، فالآية تتكون من: اهدنا«فعل+فاعل+مفعول به» + الصراط«مفعول به 2» + المستقيم «صفة للصراط» فهذا الاتصال بين الفعل والفاعل والمفعول به يدل على العلاقة الوطيدة بين الخالق والمخلوق، والعبد والمعبود، فلا انفصال بينهما، والصراط المستقيم أقرب مسلك موصل بين مبدأ وغاية[10]

وفي قوله تعالى: «صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ»[الفاتحة:6] بدل من «الصراط المستقيم» في الآية السابقة، أو عطف بيان، والغرض إضافة وصف جديد للصراط غير كونه مستقيما، أي وهو الصراط الذي اختار سلوكه المؤمنون المسلمون الذين أنعم الله عليهم بالهداية إليه والتوفيق والمعونة حتى سلكوه، وفي مقدمتهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون وأئمة المتقين، والنعمة بمعناها الشامل تطلق على كل ما فيه نفع وخير مادي أو معنوي للدنيا وللآخرة [11]

وفي قوله تعالى: «غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّين» [الفاتحة:7]، «غير» بدل من «الذين» في عبارة «صراط الذين أنعمت عليهم» وهو بدل مجرور من مجرور، و«المغضوب عليهم» هم الذين أنزل الله عليهم غضبه، بسبب كفرهم وعنادهم وإصرارهم على الباطل، «وَلاَ الضَّالِّين» جيء بحرف النفي «لا » لتأكيد معنى النفي الذي دلت عليه لفظة «غير» أي: «غير المغضوب عليهم» فهي بمثابة لفظة «غير»أي: غير المغضوب عليهم وغير الضالين. [12]

وهكذا يتبين لنا من خلال سورة  الفاتحة آفاق وراء آفاق من التناسق والاتساق؛ فمن نظم فصيح، إلى معنى مترابط، إلى نسق متسلسل، إلى اتساق في الأجزاء، وقد عالجت  آياتُها موضوعَ العقيدة الأولَ وهو الربوبية، ومن ثم فهو سبحانه «رب العالمين» و«مالك يوم الدين» وكذلك «الرحمن الرحيم»، ولذا فهو المستحق للعبادة له والاستعانة به والدعاء، وفي آيات سورة الفاتحة كما يتبين خيط يحبك نسيجه إلى غاية، وفي جملتها كلام واحد يتعلق آخره بأوله، وأوّله بآخره، ويترامى بجملته إلى غرضٍ واحدٍ هو التفكر والتدبر في عظمة الخالق، كذلك من  مظاهر التوافق افتتاح السّورة بما يناسب غرضها وروحها وختامها، واختِتامها بما يناسب فاتحتها، وهي الحلقة  التي يؤدي الأول فيها إلى الآخر، والآخر إلى الأول، فبدأت الآيات بالحمد والثناء للخالق «الله»، وانتهت بطلب الهداية والسير على الطريق الصحيح المستقيم، وبهذا شكلت السورة وحدة متكاملة جاء اسمها كعنوان دال ومعبر عن موضوعها، وكل آياتها مرتبط بعضها ببعض، وكل واحدة منها آخذة بحجز الأخرى يربطها موضوع واحد.

تناسب الأصوات والفواصل في السورة:

من مظاهر التماسك والانسجام في الآية الكريمة تناسب الأصوات القرآنية والتوازن في النظم الصوتي، وتناسب الفواصل كما في قوله تعالى:«الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين ، الرَّحْمـنِ الرَّحِيم ، مَـالِكِ يَوْمِ الدِّين، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين، اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيم»[الفاتحة:2-3-4-5-6] فكان هناك تناغم وانسجام بين تعاقب الحرفين «النون»و«الميم» في آيات سورة الفاتحة، وهي أصوات تشترك في الصفات الصوتية نفسها، إلا أن الميم صوت مخرجه من الشفتان، والنون من طرفي اللسان، فكأن اللسان يشترك مع الشفتين في التلفظ بحمد الله وشكره والثناء عليه، فتم هذا التناسب من النون إلى الميم، وقد التفت الرافعي إلى فواصل القرآن الكريم، فأكد قيمتها في جمال النظم الموسيقي، ثم أشار إلى أنها«متفقة مع آياتها في قرار الصوت اتفاقا عجيبا، يلائم نوع الصوت، والوجه الذي يساق عليه… وتراها أكثر ما تنتهي بالنون والميم، وهما الحرفان الطبيعيان في الموسيقى نفسها أو بالمد، وهو كذلك طبيعي في القرآن»[13]

فكان لهذا الانسجام بين هذه الفواصل إيقاع صوتي له أثر فعال عند القارئ لبيان المعنى  وإعطائه جرسا إيقاعيا له أثره الخاص في النفس والوجدان، وتحقيق اتصال الكلام ومن ثم تماسكه النصي.

الضمائر وأهميتها في تماسك سورة الفاتحة وانسجامها:

تعد ظاهرة التسلسل الضميري بوجه خاص شرطا من الشروط النحوية التركيبية الأساسية لتماسك النص، فأشكال التسلسل الضميري تلك هي الوسيلة الحاسمة لتشكيل النص، ومن ثم يعرف النص بأنه نسيج من الكلمات يترابط بعضه ببعض من خلال تسلسل ضميري، تجمع عناصره المختلفة والمتباعدة في كل واحد وهو ما نطلق عليه مصطلح نص.[14] وكما هو معلوم أن من وظائف  الضمائر في اللغة العربية الاختصار، لأنها تقوم مقام الاسم الظاهر وتغني عن تكراره، وكذلك الربط ووصل الجمل بعضها ببعض، ومن وظائفها أيضا الإحالة على سابق وهي عوده على متقدم بما يغني عن ذكره وبما يربط آخر الكلام بأوله، وكان  دور الضمائر الظاهرة والمستترة في سورة الفاتحة:«الرحمن- الرحيم- مالك – إياك- اهدنا – أنعمت»كلها تعود إلى لفظ الجلالة المذكور في أول السورة، ونمثلها كالآتي:

الله تعالى :

  • الرحمن «هو»
  • الرحيم «هو»
  • مالك«هو»
  • إياك«الكاف»
  • اهدنا«أنت»
  • أنعمت«التاء»

فالسورة تعالجُ متطلبات الألوهية والعبودية، ومن ثم فدلالتها  متماسكة، ويخدم هذا التماسك الدلالي، التماسك الشكلي في وجود هذه الضمائر، فالرجوع من الغيبة إلى الخطاب في قوله تعالى: «الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين، الرَّحْمـنِ الرَّحِيم ، مَـالِكِ يَوْمِ الدِّين، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين، اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيم، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ»[الفاتحة:2-3-4-5-6] هذا رجوع من الغيبة إلى ا لخطاب، وبما يختص به هذا الكلام من الفوائد قوله:«إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين» بعد قوله: «الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين» فإنه إنما عدل فيه من الغيبة إلى الخطاب، فلما كانت الحال كذلك استعمل لفظ «الحمد» لتوسطه مع الغيبة في الخبر فقال: «الحمد لله» ولم يقل «الحمد لك» ولما صار إلى العبادة التي هي أقصى الطاعات قال: «إياك نعبد» فخاطب بالعبادة إصراحا بها، وعلى نحو من ذلك جاء في آخر السورة:«صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ» [الفاتحة: 6]، ثم قال: «غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ» عطفا على الأول؛ لأن الأول موضع التقرب من الله بذكر نعمه، فلما صار إلى ذكر الغضب جاء باللفظ منحرفا عن ذكر الغاضب؛ فأسند النعمة إليه لفظا، وزوى عنه لفظ الغضب تحننا ولطفا، وهذه السورة قد انتقل في أولها من الغيبة إلى الخطاب؛ لتعظيم شأن المخاطب، ثم انتقل في آخرها من الخطاب إلى الغيبة؛ لتلك العلة بعينها، وهي تعظيم شأن المخاطب أيضا؛ لأن مخاطبة الربّ تبارك وتعالى بإسناد النعمة إليه تعظيم لخطابه، وكذلك ترك مخاطبته بإسناد الغضب إليه تعظيم لخطابه، فانبغى أن يُكون صاحب هذا الفن من الفصاحة والبلاغة عالما بوضع أنواعه في مواضعها على اشتباهها.[15]

فالسورة من أولها إلى قوله تعالى«مَـالِكِ يَوْمِ الدِّين»[الفاتحة:4] أسلوب غيبة ثم التفت بقوله:«إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين»[الفاتحة:5] إلى أسلوب خطاب في قوله تعالى«أنْعَمْت علَيهِم» ثم التفت إلى الغيبة بقوله «غير المَغْضُوب علَيهِم»ولم يقل «الذين غضبت» كما قال: «أنعمت عليهم» [16]

وفي هذا الصدد ذكر الزمخشري أن الرجوع من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم، إنما يستعمل للتفنن في الكلام، والانتقال من أسلوب إلى أسلوب، تطرية لنشاط السامع، وإيقاظا للإصغاء إليه [17]

والمسند إليه في هذه السورة كما هو مبين هو الله تعالى، والمسند متعدد«الألوهية والربوبية، وملك يوم الدين، يوم البعث والجزاء، والعبودية والاستعانة …» وعلاقة الإسناد هذه من بين الأنماط التي تحكم قضية التماسك الجملي والنصي، وهذا التنويع في استخدام الضمائر من بلاغة القرآن الكريم، ومن مظاهر تماسك النص القرآني وانسجامه، كما أن مرجعية الضمائر في السورة كانت واضحة ليس فيها غموض، ومن ثم لم تكن هناك حاجة إلى السياق لمعرفة إلى أي شيء ترجع هذه الضمائر.

ومن مظاهر جماليات الانسجام والتماسك في سورة الفاتحة بلاغة التنويع والتلوين في الأسلوب والموضوعات فهو لا يبقى على نمط واحد من التعبير بل يغاير وينوع في الأساليب، ولا يعتمد على هدف واحد من المعاني بل ينتقل في السورة الواحدة من معنى إلى معنى ويتنقل في المعنى الواحد بين إنشاء وإخبار، وإضهار وإضمار، وإسمية وفعلية ومضي وحضور واستقبال وتكلم وغيبية وخطاب، وهو بهذا يحتفظ بتلك الطبقة العليا من متانة النظم وجودة السبك حتى يصوغ من هذه الأفانين الكثيرة نصا منسجما متسقا متآلفة معانيه وألفاظه، وهذا الائتلاف هو أساس النظام التركيبي الذي تمثل في سورة الفاتحة في الانتقال من الاسم الظاهر«الله» إلى ضمير المخاطب«إياك» إلى ضمير المتكلم«نستعين» إلى الضمير المتصل«اهدنا» و«أنعمت» إلى الضمير المستتر «الضالين» [18]

فالانتقال من أسلوب الحديث بطريق الغائب المبتدأ  من قوله:«الحمد لله»إلى قوله«ملك يوم الدين» إلى أسلوب طريق  الخطاب ابتداء من قوله «إياك نعبد» إلى آخر السورة فن بديع من فنون نظم الكلام البليغ عند العرب، وهو المسمى في علم الأدب العربي والبلاغة التفاتا.[19]

ولأهل البلاغة عناية بالالتفات لأن فيه تجديد أسلوب التعبير عن المعنى بعينه تحاشيا من تكرر الأسلوب الواحد عدة مرات فيحصل بتجديد الأسلوب تجديد نشاط السامع كي لا يمل من إعادة أسلوب بعينه، كما شكل هذا التنوع والتحول بالخطاب  جسور كبرى للتواصل بين أجزاء السورة والربط بينها ربطا واضحا، وهذا ما يؤكد أهمية هذا التلوين والتنويع في الربط النصي، وبث التماسك والتلاحم بين ألفاظ السورة ومعانيها.

ومن مظاهر الانسجام والتماسك كذلك في سورة الفاتحة التنويع في دلالة الفعل على الزمن، ووجه التلوين ظاهر في الانتقال من صيغة الفعل المضارع«إياك نستعين» إلى صيغة فعل الأمر«اهدنا الصراط» ومما يفيد التلوين في أسلوب الصيغ الزمنية والانتقال من زمن إلى آخر: الانتقال من الماضي إلى المضارع، نحو قوله تعالى: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين»[الفاتحة:5] ففيه انتقال من المضارع «نعبد» إلى الأمر«اهدنا» ثم إلى الزمن الماضي«أنعمت» وكأن الزمن الذي تمثل به الفعل الذي يحمل معنى الدعاء «اهدنا» فترة زمنية تقع بين مشهدين من الزمن ماض ومضارع. » [20]

أهمية التوابع في تماسك سورة الفاتحة:  

ويأتي دور التوابع في التماسك النصي لسورة الفاتحة، إذ التابع يتبع متبوعه في بعض الأمور، ومن ثم يرتبط به لدرجة جعلت عد بعض التوابع مع متبوعها كالكلمة الواحدة، ووضح ذلك السيوطي في قوله عندما نقل عن فخر الدين قوله «إن أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط»[21]

ويظهر في تحليل سورة الفاتحة أن بها ثلاثة أنواع من التوابع التي يتحقق التماسك النصي من خلالها، وهي:

– العطف                             – البدل                        – النعت

يقوم حرف العطف مع التطابق في العلامة الإعرابية بالدور المهم  في ترابط المعطوف بالمعطوف عليه، وهذه الأدوات أي أدوات العطف هي علامات على أنواع العلاقات القائمة بين الجمل، وبها تتماسك الجمل وتبين مفاصل النظام الذي يقوم عليه النص، وتتجلى وظيفتها في وصل الكلام بعضه ببعض، والإشراك بين المعطوف والمعطوف عليه. [22]

وهنا تحققت هذه الوسيلة في الآيتين: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين»[الفاتحة:5]»و في قوله تعالى: «غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّين» [الفاتحة:7] فشبه كمال الاتصال  في قوله تعالى:« إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين» أدى إلى وجود هذه الأداة، وذلك لأن حذفها يؤدي إلى اللبس، فالآية سوف تصبح: «إياك نعبد إياك نستعين»، فالجملة الثانية تصبح توكيدا للأولى، وهذا يغير من الدلالة المقصودة للآية، ومن ثم كان من الواجب ذكر الأداة للجمع بين هاتين الجملتين فالعبادة غير الاستعانة، لكن يجمع بينهما كونهما موجهتين إلى الله تعالى من عباده المؤمنين، وشبه كمال الاتصال كما هو معلوم هو كون الجملة الثانية قوية الارتباط بالأولى، لوقوعها جواباً عن سؤال يفهم من الجملة الأولى فتُفصلُ عنها، كما يفصل الجواب عن السؤال[23]

وقد حصل من تقديم قوله تعالى:«إياك نعبد» على قوله «وإياك نستعين» أيضا إيفاء حق فواصل السورة المبنية على الحرف الساكن المتماثل أو القريب في مخرج اللسان، وأعيد لفظ «إياك» في الاستعانة دون أن يعطف فعل«نستعين» على«نعبد» مع أنهما مقصودان جميعا، كما أنبأ عنه عطف الجملة على الجملة لأن بين الحصرين فرقا، فالحصر في«إياك نعبد» حقيقي والحصر في «إياك نستعين» ادعائي.[24]

وفي قوله تعالى: «غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّين»[الفاتحة:7] أسهمت الأداة في الجمع بين صفتين من صفات الذين أنعم الله عليهم، والصفة الأولى متقاربة من الثانية، فعدم الغضب يكون من الله، والهداية كذلك من الله تعالى، كذلك الصفتان لموصوف واحد يتمثل في الذين أنعم الله عليهم، وهاتان جهتان جامعتان تبيحان العطف، وجيء بحرف  النفي«لا» لتأكيد معنى النفي الذي دلت عليه لفظة «غير» في قوله تعالى« غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ » فهي بمثابة لفظة «غير»، أي غير المغضوب عليهم وغير الضالين.[25]

أما كمال الاتصال فإنه يتحقق في البدل كما في هذه السورة الكريمة في قوله تعالى:«الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين»[الفاتحة:2] وقوله تعالى«اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيم صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ، غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ »[الفاتحة:6-7]، وكمال الاتصال هو أن يكون بين الجملتين كمال اتصال، ويعنون بهذا الاصطلاح أن تكون الثانية متصلة بالأولى اتصالا كاملا تاما [26]

والبدل القصد به الإيضاح بعد الإبهام وفائدته البيان والتأكيد[27] وترجع أهمية الاستبدال في تحقيق التماسك والانسجام إلى ملاحظة العلاقة بين العنصرين المستبدل والمستبدل منه، وهي علاقة قبلية بين عنصر سابق في النص وعنصر لاحق فيه…[28]

ومما هو معروف أن البدل هو المبدل منه في المعنى غالبا، ولشدة هذا التماسك بينهما دلالة، استغنى عن الأداة اللفظية الرابطة، فالرابط بين البدل والمبدل منه دلالي، والبدل يحقق التماسك على مستوى الآية الواحدة كما في قوله تعالى«الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين» [الفاتحة:2]  وقوله تعالى« غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ»[الفاتحة:7]  وكذا يحققه على مستوى أكثر من آية كما هو بين الآيتين«اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيم صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ، غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ »[الفاتحة:6-7] [29]

والبدل في قوله تعالى:«اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيم صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ» [الفاتحة:6] بدل مطابق، فالصراط الثاني بدل من الأول وهو هو لأن الصراط المستقيم هو صراط المنعم عليهم، ولأن البدل هو المبدل منه في هذا النوع لا يتصل بالبدل ضمير يعود على المبدل منه، ويمكن أن يحل محل الأول[30]

وإنما جاء نظم الآية بأسلوب الإبدال أو البيان دون أن يقال:«اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم المستقيم»، لفائدتين: الأولى: أن المقصود من الطلب ابتداء هو كون المهدي إليه وسيلة للنجاة واضحة سمحة سهلة، وأما كونها سبيل الذين أنعم الله عليهم فأمر زائد لبيان فضله، والفائدة الثانية ما في أسلوب الإبدال من الإجمال المعقب بالتفصيل ليتمكن معنى الصراط للمطلوب فضل تمكن في نفوس المؤمنين الذين لقنوا هذا الدعاء فيكون له من الفائدة مثل ما للتوكيد المعنوي، وأيضا لما في هذا الأسلوب من تقرير حقيقة هذا الصراط وتحقيق مفهومه في نفوسهم فيحصل مفهومه مرتين، فيحصل له من الفائدة ما يحصل بالتوكيد اللفظي واعتبار البدلية مساو لاعتباره عطف بيان لا مزية لأحدهما عن الآخر [31]

قال الزمخشري في الكشاف: «فإن قلت: ما فائدة البدل؟ وهلا قيل اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم؟ قلت:فائدته التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير، والإشعار بأنّ الطريق المستقيم بيانه وتفسيره» [32] وسماه تكريرا لأنه إعادة للفظ بعينه، بخلاف إعادة لفظ المبدل منه، فإنه إعادة له بما يتحد مع ما صدقه، فلذلك عبر بالتكرير وبالتثنية، ومراده أن مثل هذا البدل وهو الذي فيه إعادة لفظ المبدل منه يفيد فائدة البدل وفائدة التوكيد اللفظي، والجمع بين الأمرين لا يتأتى على وجه معتبر عند البلغاء إلا بهذا الصوغ البديع. [33]

والبدل كذلك يمثل المرجعية السابقة في ضوء التماسك، فهو يرجع في دلالته إلى المبدل منه السابق عليه، ولهذا نمثل تلك العلاقة كالتالي:

فالتماسك إذن ناشئ من وجود التماسك المعنوي بين عنصري البدل، ووجود المرجعية السابقة.[34]

وكذلك النعت بوصفه واحدا من التوابع فهو تَابع مكمل لمتبوعه لدلالته على معنى فِيه أو في متعلق به [35]، وقد عبر سيبويه عن ذلك بقوله:«أن النعت مثل المنعوت لأنهما كالاسم الواحد»[36].وهذا يدل على قوة التماسك بين النعت والمنعوت، أي التابع دال على معنى في المتبوع أو في متعلق به بل متمم له ومكمل له.

وفي سورة الفاتحة تحقق كمال الاتصال في جمل النعت كما هو وارد في قوله تعالى:

«بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيم »[الفاتحة:1]  « الرَّحْمـنِ الرَّحِيم»[الفاتحة:3] «مَـالِكِ يَوْمِ الدِّين»[الفاتحة:4] «اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيم»[الفاتحة:6]، وفي هذه الآيات يتبين عدم وجود أداة عطف رابطة بين الصفة لأنهما واحد في المعنى، فالصفات الخمس«الرحمن-الرحيم-الرحمن-الرحيم- مالك يوم الدين» صفات لله تعالى، و«المستقيم» صفة للصراط وكلها تمثل مرجعية سابقة يمكن تمثيلها على النحو التالي:

هذه النعوت أسهمت في تحقيق التماسك النصي بين آيات السورة عن طريق الرجوع إلى لفظ الجلالة المذكور في الآية الأولى، ومفتاح السورة الذي يرتبط به ما جاء بعده، وهذه مرجعية داخلية، وهذه المرجعية متمثلة في النعت، وبالتالي العلاقة الأساسية التي تحكم هذا التماسك هي علاقة الإسناد بين المنعوت والنعت، وهذا واضح من دورها الترابطي الذي تقوم به، وإذا كان النعت هو الذي يقوم بهذا الدور، فإن مرجعيته سابقة وهذا ما جعلنا نتخذ من النعت واحدا من وسائل التماسك النصي، وهذه وسائل يقدمها النظام اللغوي لترابط النعت بالمنعوت وتمييزه عن غيره من أنواع التوابع الأخرى. [37]

– التكرار وأهميته في تماسك سورة الفاتحة:

إن التكرار يوجد في كلامنا بصفة عامة، وفي القرآن الكريم بصفة خاصة، ففي سورة الفاتحة يظهر التكرار عبر بعض أنماطه السالفة الذكر في تحقيق تماسكها، فلفظ الجلالة «الله» ورد في آيتين؛ آية البسملة«بسم الله الرحمن الرحيم» والآية الأولى بعد البسملة«الحمد لله رب العالمين» هذا باللفظ نفسه، ثم تأتي ألفاظ الجلالة «الرحمن – الرحيم – الرحمن- الرحيم- مالك- رب» مع ملاحظة أن «مالك» ليس من ألفاظه، بل «ملك»، وكذلك «رب»، ولكنهما في النهاية إضافة إلى ألفاظ الجلالة، يحيل كل من هذه الأسماء إلى الله تعالى، وهو مذكور تصريحا في آية البسملة، ومن ثم فمرجعية هذه الأسماء داخلية سابقة، فالضمائر التي تحيل إلى الله تعالى نوع من التكرار؛ ذلك لأن الضمائر تحل محل الأسماء الظاهرة، فالضمائر في «إياك- اهدنا- أنعمت» تعد نوعا من التكرار للفظ الجلالة المذكور في آية البسملة، وبالتالي يعد تكرار لفظ الجلالة باللفظ نفسه، وبصفاته وبالضمائر التي تحيل إليه إحدى عشر مرة؛ الله- رب- الرحمن- الرحيم- الرحمن- الرحيم- مالك- إياك- إياك- اهدنا- أنعمت»، هذه الكلمات كلها تحيل إحالة داخلية سابقة إلى لفظ الله تعالى، ذلك على الرغم من قصر هذه السورة الكريمة. [38]

كما تكرر الضميران المنفصلان«إياك- إياك» لقصد الاختصاص، لأن المؤمنين لا يعبدون إلا الله، ولا يستعينون إلا بالله، فجملة «وَإِيَّاك نَسْتَعين»جاءت معطوفة على«إيَّاك نعبُد »ولم تجيء مفصولة، وتكرار لفظ «الصراط» في الآيتين« اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيم» [الفاتحة:6] «صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم»[الفاتحة:7]، واضح أن التكرار هنا باللفظ نفسه، ومن ثم تكرار في اللفظ والمعنى، والسياق الذي ورد فيه لفظ «الصراط» هو سياق الدعاء، وسؤال الهداية، والذي يناسبه هو هذا اللفظ، ووصف بالمستقيم زيادة في البيان، ولأن الذين يسألون الله الهداية إنما يسألون الطريق السهل المستقيم، [39] كما تكررت شبه الجملة «عليهم» في قوله تعالى:« صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ  غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّين» [الفاتحة:6-7].

ويظهر لنا أن الآيات من البسملة حتى قوله تعالى: «مَـالِكِ يَوْمِ الدِّين»[الفاتحة:4] هي تفسير للفظ الجلالة«الله» المذكور في البسملة، وذلك عن طريق ذكر صفاته تعالى، وذكر صفات المذكور سابقا تعد نوعا من التكرار له؛ لأنها تحقق تواصلا واستمرارية للنص عبر هذه الصفات، ومن ثم فالجمل التفسيرية لجملة سابقة أو كلمة سابقة، هي نمط من أنماط التكرار بالمعنى لا باللفظ، وهذا ما حدث كذلك بين الآيتين:«اهدنا الصراط المستقيم،صراط الذين أنعمت عليهم»، حيث إنه ذكر الصراط المستقيم في الآية الأولى ثم جاء التفصيل في قوله تعالى«صراط الذين أنعمت عليهم»، ومن ثم يتماسك ويتلاحم قوله:

«أنعمت عليهم»مع «غير المغضوب عليهم »و«ولا الضالين» وذلك عبر الترادف، فهذه الجمل الثلاث تتلاقى في معنى واحد.[40]

كما نجد نمط آخر من أنماط التكرار في سورة الفاتحة يتمثل في الاشتقاق: في البسملة«الرحمن- الرحيم»و في الآية الثالثة «الرحمن- الرحيم»ففيها تكرار كامل باللفظ والمعنى، وفيهما اشتقاق هذين اللفظين من مادة واحدة «رحم»وهذا يعد كذلك نوعا من التكرار، كما أن الجمع بين «الرحمن- الرحيم» في آية واحدة يتضمن تجانسا لفظيا بديعا؛لأنهما مشتقان من الرحمة، والتجانس بين الكلمات مظهر من مظاهر الائتلاف والتماسك بين المعاني والألفاظ.

المناسبة في سورة الفاتحة:

وإذا رجعنا إلى آراء علمائنا فيما قيل عن المناسبة وأهميتها في التماسك والانسجام النصي نذكر ماأشار إليه الزركشي حول فائدة معرفة المناسبة بقوله «وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها آخذا بأعناق بعض فيقوى بذلك الارتباط ويَصير التأليف حاله حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء»[41] ولا يخفي ما في هذا الرأي من أهمية كبيرة لوظيفة المناسبة، إذ أنها تسهم في تحقيق الارتباط بين عناصر النص، وهذا ما جعل الشيخ عز الدين بن عبد السلام يشترط في المناسبة أن يكون ارتباط الكلام واقعا فِي أمر متحد مرتبط أوله بآخره [42]

ومن أنواع الترابط المهمة التي التفت لها البقاعي هو ربط أول السورة مع أوائل سور أخرى، ومن أمثلة ذلك ما قاله في سورة الفاتحة:«ثم جاء التصدير بالحمد بعد الفاتحة في أربع سور أشير في كل سورة منها إلى نعمة من هذه النعم على ترتيبها» [43]

ومن المعروف أن سورة الفاتحة تعددت أسماءها واختلف كذلك في عدد أسمائها، ومن هذه الأسماء هي سورة «الحمد» وهي «أم القرآن» وهي «فاتحة الكتاب» وهي «السبع المثاني» وسميت بذلك لأنه يفتتح بها في المصاحف، وفي التعليم، وفي القراءة، وفي الصلاة، [44] والذي يهمنا هنا علاقة هذه الأسماء بمضمون السورة، فمن هذه الأسماء سورة «الحمد» ومناسبة هذا الاسم للسورة تكمن في كونها بدأت بذكر الحمد «الحمد لله رب العالمين»، ونرى أن فيها مناسبة بين اسم السورة والآية الأولى منها، وإذا كان تكرار لفظ بين جملتين يحقق التماسك فيما بينهما، فإن تكرار اسم السورة في السورة نفسها يؤدي إلى التماسك بين اسم السورة واسمها، وقد يكون ذكر اسمها في أولها، أو في طياتها أو في آخرها، المهم أن هذا الذكر لاسم السورة في ضوء علم اللغة النصي يمثل مرجعية سابقة؛ والمرجعية من الوسائل المحققة للتماسك النصي.[45]

كما أن هذه السورة تتضمن عدة معاني تتمثل في:

– البدء باسم الله وما في ذلك من أدب مع الله.

– «الرحمن الرحيم» صفتان تستغرقان معاني الرحمة ومجالاتها كلها.

– «الحمد لله» حيث التوجه بالحمد الذي لا يكون إلا له.

– «رب العالمين» الربوبية المطلقة الشاملة.

– «مالك يوم الدين» حيث الاعتقاد بيوم الدين والمالك له هو الله.

– «إياك نعبد وإياك نستعين» أي أن العبادة لا تكون إلا لله، والاستعانة لا تكون إلا به.

– «اهدنا الصراط المستقيم … ولا الضالين» تمثل النتيجة العملية لهذه المعاني السابقة، ومن ثم فاسم السورة يتناسب مع مضمونها، ولذلك يتحقق التماسك بينهما.[46]

كما أن الآيات في سورة الفاتحة جاءت متناغمة متماسكة، حيث تتلاءم وتتفق النظائر والمتشابهات، فانتظمت الألفاظ والكلمات والأصوات مع بعضها في صورة منسجمة وملتحمة لتحقق الترابط الفكري والعقائدي والموضوعي، فكان هناك تفرد وتميز في إيرادِ المَعاني وانتقاءِ المَباني، بحيث كانت الكلمةُ المفردة بمَعناها ومبناها متمكنة في موقعها بحيث لا يسدُّ مَسدَّها مفردة أخرى؛ فكان من شأن هذه الوحدة النصية أن تبعث اللذة في النفوس، والتأثير في الأسماع، والأثر في القلوب. [47]

وبالقياس نجد الرازي يذكر أهمية سورة الفاتحة بالنسبة لما يليها، فيقول:« أن هذه السورة مسماة بأم القرآن فوجب كونها كالأصل والمعدن، وأن يكون غيرها كالجداول المتشعبة منه، فقوله: رب العالمين تنبيه على أن كل موجود سواه فإنه دليل على إلهيته.»[48]

وسورة الفاتحة كما ختمت بالدعاء للمؤمنين بألا يسلك بهم طريق المغضوب عليهم ولا الضالين إجمالا، ختمت سورة البقرة بالدعاء بألا يسلك بهم طريقهم في المؤاخذة بالخطأ والنسيان، وحمل الأصر، وما لا طاقة لهم به تفصيلا، وتضمن آخرها أيضا الإشارة إلى طريق المغضوب عليهم والضالين بقوله:«لا نفرق بين أحد منهم» فتآخت السورتان وتشابهتا في المقطع، وذلك من وجوه المناسبة في التتالي والتناسق.[49]

وقد لا حظ السيوطي هذا الأصل بالنسبة لسورة الفاتحة وعلاقة القرآن الكريم كله بها وذكر أن كل ربع من القرآن افتتح بسورة أولها «الحمد»، فالفاتحة تبدأ بالحمد، والأنعام بالحمد، والكهف للربع الثالث، وسبأ وفاطر للربع الرابع»[50]

وهذه نظرة فاحصة لقضية التماسك بين سور القرآن الكريم والتي تمثل نظرة كلية للنص القرآني باعتباره وحدة متكاملة، وقد فصل الرازي علاقة سورة الفاتحة بكل من الأنعام والكهف وسبأ وفاطر من منطلق بداية كل منها بــ «الحمد لله» بقوله: «ثم إنه تعالى افتتح سورا أربعة بعد هذه السورة بقوله: الحمد للَّه…»[51] وهذه الروابط التي تظهر بدقة النظر، وطول التفكر والتأمل، هي روابط تماسكية دلالية، وكذلك فيها مراعاة للتناسب بين الآيات، لأنه يتم الربط بين الآية بما سبقها وهذا الربط هو ما نعنيه بالتماسك، وهذه لمحات موجزة  تحتاج إلى دراسة  نتطرق  إليها إن شاء الله تعالى  في موضوع آخر حول التناسب بين السور في القرآن الكريم في الحلقات المقبلة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] مجلة العلوم العربية، العدد السادس والثلاثون، البحث اللغوي بين نحو الجملة والنص «سورة الفاتحة أنموذجاً»، د. حنان سعادات عبد المجيد عودة، الجامعة الهاشمية – الأردن 1436هــ ، ص:309 -310-311.

[2] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، للبقاعي، خرج آياته وأحاديثه ووضع حواشيه عبد الرزاق غالب المهدي، الطبعة الثالثة: 1427هـ/ 2006م، منشورات: دار الكتب العلمية، بيروت، المجلد الأول ص:7

[3] نفسه، المجلد الثامن، ص:621.

[4] تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، منشورات دار سحنون للنشر والتوزيع تونس، المجلد الأول ص: 156.

 [5] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، المجلد الأول، ص:14

[6] معاني القرآن وإعرابه للزجاج، أبي إسحاق إبراهيم بن السري، ت: عبد الجليل عبده شلبي، خرج أحاديثه الأستاذ علي جمال الدين محمد، دار الحديث القاهرة، 1/52.

[7] انظر تفسير التحرير والتنوير، المجلد الأول، ص: 169-173.

 [8] نفسه، ص: 176-177.

[9] معارج التفكر ودقائق التدبر، لعبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، الطبعة الأولى: 1420هـ /2000م، منشورات دار القلم، دمشق، 1/298-299.

[10] نفسه 1/302- تفسير التحرير والتنوير 1/187-189.

 [11] معارج التفكر ودقائق التدبر 1/307-308.

[12] نفسه 1/310-311.

[13] إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، مصطفى صادق الرافعي، دار الكتاب العربي، بيروت- لبنان، ص: 216-217.

[14] نسيج النص «بحث فيما يكون به الملفوظ نصا»، الأزهر الزناد ص:12.

[15] المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، لابن الأثير، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، منشورات: المكتبة العصرية للطباعة والنشر، بيروت، عام: 1420هـ. 2/3-4-5.

[16] البرهان في علوم القرآن، أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي، تح: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة: الأولى 1376 هـ – 1957 م، الناشر: دار إحياء الكتب العربية عيسى البابى الحلبي وشركائه، 3/322.

[17] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، الزمخشري جار الله، الناشر: دار الكتاب العربي ـــ بيروت، الطبعة: الثالثة – 1407 هـ ، 1/13-14.

[18] مجلة العلوم العربية، العدد السادس والثلاثون، البحث اللغوي بين نحو الجملة والنص سورة الفاتحة أنموذجاً، د. حنان سعادات عبد المجيد عودة الجامعة الهاشمية – الأردن،1436هــ ، ص:309 -310.

[19] تفسير التحرير والتنوير، المجلد الأول، ص:178.

[20] مجلة العلوم العربية، العدد السادس والثلاثون البحث اللغوي بين نحو الجملة والنص سورة الفاتحة أنموذجاً، د. حنان سعادات عبد المجيد عودة الجامعة الهاشمية – الأردن 1436هــ ، ص:318.

[21] الإتقان في علوم القرآن، عبد الرحمن بن أبي بكر جلال الدين السيوطي،تح: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة: 1394هـ/ 1974 م، الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 3/369.

[22] نسيج النص، الأزهر الزناد ص:38- بناء الجملة العربية، محمد حماسة عبد اللطيف، ص:193.

[23] جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، أحمد بن إبراهيم بن مصطفى الهاشمي، ضبط وتدقيق وتوثيق: د. يوسف الصميلي، الناشر: المكتبة العصرية بيروت، 1/184- البلاغة فنونها وأفنانها، علم المعاني، للدكتور فضل حسن عباس، الطبعة الثانية عشر: 1429هـ /2009م، منشورات دار النفائس للنشر والتوزيع، الأردن. ص:427.

[24] التحرير والتنوير، المجلد الأول، ص:186.

[25] معارج التفكر ودقائق التدبر،المجلد الأول، ص:310-311.

[26] البلاغة فنونها وأفنانها، علم المعاني، ص:420.

[27] الإتقان في علوم القرآن، 3/237.

[28] لسانيات النص «مدخل إلى انسجام الخطاب»، محمد خطابي، الطبعة الأولى 1991، المركز الثقافي العربي ص:20-21.

[29] علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق، دراسة تطبيقية على السور المكية، صبحي إبراهيم الفقي 1/274.

[30] بناء الجملة العربية، محمد حماسة عبد اللطيف، ص:188.

[31] التحرير والتنوير، المجلد الأول، ص:192.

[32] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل 1/15.

[33] التحرير والتنوير، المجلد الأول، ص:192.

[34] علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق، 1/274.

[35] همع الهوامع في شرح جمع الجوامع، جلال الدين السيوطي، تح: عبد الحميد هنداوي، الناشر: المكتبة التوفيقية – مصر، 3/145.

[36] الكتاب لسيبويه، عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء، أبو بشر، الملقب سيبويه، تح: عبد السلام محمد هارون، الناشر: مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة: الثالثة 1408 هـ – 1988 م،1/421.

[37] انظر كتاب علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق، 1/275.

[38] نفسه 2/24-25.

[39] التناسب البياني في القرآن الكريم، دراسة في النظم المعنوي والصوتي، أحمد أبو زيد، ص:184.

[40] علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق، 2/25.

[41] البرهان في علوم القرآن 1/36.

[42] نفسه 1/37.

[43] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، المجلد الأول ص:20.

[44] الإتقان في علوم القرآن 1/188- الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، المجلد الأول، دار الحديث القاهرة ص: 115-116.

[45] علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق، 2/107.

[46] نفسه 2/108.

[47] مجلة العلوم العربية، العدد السادس والثلاثون، البحث اللغوي بين نحو الجملة والنص سورة الفاتحة أنموذجاً، د. حنان سعادات عبد المجيد عودة الجامعة الهاشمية – الأردن 1436هــ ، ص: 311.

[48] مفاتيح الغيب، لفخر الدين الرازي، الطبعة الثالثة: 1420هـ ، منشورات دار إحياء التراث العربي، بيروت. 1/162

[49] تناسق الدرر في تناسب السور، جلال الدين السيوطي، تحقيق ودراسة:عبد القادر أحمد عطا، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، ص:70

 [50] نفسه:86.

[51] انظر مفاتيح الغيب1/162.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق