وحدة الإحياءدراسات عامة

معيار البَيان في تصحيح صلةِ التأويلِ بالقُرآن

يُحاولُ البَحْثُ أن يُجيبَ عن بعض الأسئلَةِ المُثارَةِ في مَيدانِ تأويلِ القُرآن، إجابةً نقديّةً تَسْعى إلى البرهَنَةِ على أنّ التأويلاتِ الحداثيّةَ الحديثةَ لم تُؤْتَ من جهةِ المُمارسَةِ الفلسفيّةِ في ذاتِها، فهي مُمارسةٌ مَشْروعةٌ، وإنّما أُتِيَتْ من جهةِ إخْراجِ النّصّ القُرآنيّ من سياقِه ومقاصدِه الكُبْرى. أمّا المُمارسةُ النّقديّةُ الفلسفيّةُ فهيَ ذاتُ حَدَّيْنِ، ويُهمُّنا منهُما الحدُّ الذي يُتيحُ لَها أنْ تتّسعَ للنّظرِ وإعادةِ النّظرِ وللنّقدِ والتّقويمِ، ويُهَيِّئُها لتَجديدِ الفَهمِ للنّصّ القُرآنيّ بمَقاصدِه وقِيَمِه وقَواعدِ النّظرِ فيه، بعْدَ نقْدِ المَذاهبِ الحَداثيّةِ المُتَهافتةِ التي ادّعَت أنّها أحاطَت بالظّاهرةِ القُرآنيّةِ علماً وفَهْماً وتَفسيراً وتأويلاً. ويقومُ هذا النّقْدُ عَلى وَضْعِ التّأويلِ في مَجالِه التَّداوُليّ السَّليمِ، وفي سياقِ مَقاصدِه الصّحيحَةِ؛ لإنتاجِ تأويلٍ مُتَماسكٍ وقِراءةٍ سَليمةٍ، تُصَحِّحُ المَفاهيمَ التأويليّةِ الوافدَةِ، التي بَسَطَت نُفوذَها على العُقولِ والألْسنَةِ فَلَم تُبْقِ ولَم تَذَرْ.

وللاقْترابِ من الغايَةِ المَذكورَةِ، حاولَ البَحثُ أنْ يفْتَحَ البابَ بسُؤالِ البَدْءِ حولَ الخطابِ القُرآنيّ والتأويلِ، ولَم يُغْفِل البحثَ في التأويلِ عندَ العُلَماء المُسْلمينَ ومَوْقِفهم من التأويلِ والتأويليّة. وأكّدَ على أنّ مَقاصدَ الشّرعِ المُستنبَطَةَ من النّصِّ مِقْياسٌ لفهمِ النّصّ.

ثُمّ انتَقَلَ البحْثُ إلى الشّقِّ الثّاني من مُعالَجَةِ التأويلات، نَحْوَ اقْتِراحِ مَنهَجٍ للقِراءَةِ والتأويلِ، وهو الأخذُ بأسْبابِ البَيانِ قَبلَ وُلوجِ باب التّأويل.

مَصادرُ التأويليّة وآلياتُ التأويل

يُعدّ فنّ التأويلِ أو “الهرمينوطيقا” فنّاً لامتلاكِ شُروطِ التأويل([1])، وقد نشأت في كنَفِ النّظرِ في نصوص الإنجيلِ وتأويلِها، ثمّ انتقَلَت المُمارسَة التأويليّةُ فيما بعدُ من البحث عن المعنى الحرفيّ أو المَجازيّ للنّصّ إلى الدّلالَة على شكلٍ من أشكالِ الفَهمِ الذي يَمنحُه المؤوِّلُ لخطابِ معيّنٍ، بَل انتقَل إلى مجال النّماذج اللّسانية ليعْني المرحلةَ التي تلي التّفسيرَ أي لتعنِيَ إضفاءَ دلالةٍ لعلاقات النّصّ الدّاخليّةِ، فالتأويلُ تتمّةٌ للتّفسيرِ، ولكنّ التّفسيرَ يغلبُ عليْه الطّابعُ الموضوعيّ في الدّراسَة والتّحليل للنّصّ أمّا التأويلُ فقد يكونُ عرضَةً للأحكامِ الذّاتية، بل نجدُ مَن كان يُميّزُ بينَ التأويلِ والهيرمينوطيقا([2])، فالتأويلُ أخصّ من الهرمينوطيقا وهي أعمّ منه وأشَملُ، التأويلُ مُقترنٌ بتفسيرِ النّصّ وبآلياتِه اقتراناً مباشراً، والهرمينوطيقا تقترنُ بقضيّة الفَهْم أي فَهْم البنياتِ والعلامات، بوصفِها فلسفةً تحليليةً.

ومن فلاسفةِ التأويلِ مَن جَعَلَ التأويلَ واجهةً وشكلاً خارجياً للفَهمِ([3])… فَلا يُتصوّرُ تأويلٌ من غيْرِ فَهْمٍ، ولا يُتصوّرُ تأويلٌ من غيرِ تطبيقٍ على نصٍّ، ومن صفاتِ التّطبيقِ النّصّيّ أنّه يعودُ بالنّصّ إلى حاضرِ المؤوِّل ووضعِه الرّاهنِ وغيْرِ ذلِك من الشّروطِ الضّروريّةِ لمُقاربةِ النّصوصِ وتفسيرِها.

وهكذا أصبحَ التأويلُ [بمَعْناه الهرمينوطيقيّ الحَديثِ] يُعْنى بوَضعِ قوانينَ تضمنُ الفهمَ المُناسبَ للنّصوص، وتتلافى ما يُمكنُ أن يتعرّضَ له المؤوِّلُ من سوءِ فهمٍ للنّصّ، خاصّةً إذا بَعُدَ زمنُ النّصّ والتبسَت مَعانيه، فيكونُ ذلِكَ مَدعاةً لوضعِ علمٍ للتّأويل يعصمُ الفهمَ من الزّللِ.

لقد انتهَجَت التأويليّةُ “الهرمينوطيقيّةُ”([4]) نهجاً جديداً يُميّزُها عن المذهبِ التأويليّ القديمِ، وهذا النّهجُ هو مُراعاةُ تفرُّدِ النّصّ وخُصوصيتِه وعدمِ خُضوعِه للمفاهيمِ السّائدَة في تحليلِ النّصوصِ، ويستمدّ النّصُّ تفرّدَه من تَحويلِ اللّغَة وأشكالِ التّعبيرِ والتّصويرِ وإمدادِها تميُّزاً من تجربةِ الذّاتِ وطاقتِها الإبداعيّةِ التي تُنشئُ الشّكلَ التّعبيريَّ المُناسبَ للذّاتِ، فلَم يعُد النّصُّ الإبداعيّ يستمدُّ معاييرَ إبداعِه من معاييرَ مُمْلاةٍ من الخارِجِ، بلْ من إبداعِ صاحبِ النّصّ، وإسنادُ النّصّ إلى مُبدِعِه وقائلِه يُساعدُ على فهمِ مَعْناه، أي الاستنادُ إلى المؤلِّفُ يُساعدُ على التأويلِ، وتَغدو مهمّةُ التأويليّةِ فهمَ المؤلِّفِ أو فهمَ النّصّ بوصفِه تعبيراً عن تجربةِ المؤلّفِ وفهمِه للعالَم.

ثمّ نَهَجَت هذه التأويليّةُ الهيرمينوطيقيّةُ([5]) بعدَ ذلِكَ نحو تخليصِ عمليّة الفَهْمِ من الطّابع النّفسيّ، الذي قالَ بِه المذهبُ التأويليّ السّابقُ، أي نحوَ فصْلِ النّصّ عن ذهن المؤلِّف وروحِ عصرِه، وتحويلِ الاهتمامِ إلى عمليّةِ الفهمِ في ذاتِها، في خفاياها وتفاصيلِها وبُعدِها التّاريخيّ([6]).

لكنّ فصلَ النّصّ عن قائلِه محفوفٌ بكثيرٍ من المَحاذيرِ؛ لأنّ فيه إبعاداً للنّصّ عن صاحبِ النّصّ وتأسيساً لمعرِفَةٍ يكونُ فيها النّصُّ وسيطاً موضوعياً مُحايداً، مَفتوحاً للأجيالِ القادمَة ومُيسِّراً لعمليةِ الفهْمِ([7])، ومُخضعاً النّصَّ لتاريخيّةِ الفهمِ والتأويلِ، وفي هذا التّصوّرِ تركيزٌ على النّصّ في ذاتِه ومُحاولةٌ لفهمِ ما يقولُ بغضّ النّظرِ عن القائلِ، لقد كانَت عمليّةُ الفَهْمِ سابقاً تقومُ على تحويلِ الذّاتِ إلى الآخَر أي القارئ، لكي يفهَمَ ما يُقالُ في النّصّ، ثمّ انتقلَت بعدَ ذلِك من المؤلِّفِ إلى النّصّ، وأصبحَت المقاصدُ مقاصدَ الخِطاب لا المؤلِّف، وأصبحَت القراءةُ وعمليةُ التّفسيرِ والفهمِ منفصلةً عن المؤلِّفِ، وأصبحَ كلُّ تأويلٍ مرتبطاً بوضعيةٍ مُعيّنةٍ وشروطٍ تاريخيّةٍ نسبيّةٍ، من غيْرِ الرّجوعِ إلى زمنِ النّصّ، بل بإسقاطِ فهمِ القارئِ على النّصّ، من أجلِ إنتاجِ فهمٍ مبدعٍ أو قراءةٍ مُبدِعةٍ، ولكلّ قارئٍ فهمُه للنّصّ وطريقةُ الوُصولِ إلى مَعْناه، وهي طريقةٌ مقيّدةٌ بوضعيّةِ المُؤوِّل التّاريخيّةِ، ومنهجُ استخراجِ المَعْنى أمرٌ مرتبطٌ بالنّصّ غيرُ مستقلٍّ عنه، فالنّصُّ وقارئُه ـ أو مؤوّلُه ـ يلتقيانِ مَعاً عندَ المَعْنى العميقِ المبحوثِ عنه في النّصّ، بل يولَدُ من تفاعُلِ النّصّ والقارئ مولودٌ جديدٌ هو مَعْنى النّصّ العميقُ، ولا يُحصَلُ على هذا المولودِ إلاّ بعد تحريرِ النّصّ من مقاصدِ المؤلّفِ([8]).

هَلْ هُناكَ تأويلٌ حَداثيّ للقُرآن الكَريم؟

قَدّمَ باحثِونَ تَأويليّونَ قِراءاتٍ للقُرآنِ وسمّوا القُرآنَ الكَريمَ بالنّصّ الدّينيّ، وبالنّصِّ التأسيسيّ، وأقاموا عليْه قِراءاتٍ وتأويلاتٍ نَسَبوها إلى الحَداثَة، وزَعَموا أنّه قابِلٌ نَظرياً لعَددٍ غيْرِ مَحْدودٍ مِن التّأويلاتِ، وأنّه نَصٌّ رَمزيٌّ ثريٌّ يستعملُ المَجازَ والصّورَ والأمثالَ والإشارةَ والتّلميحَ ولا يتقيّدُ بمَقولاتِ المَناطقةِ وأساليبِ المتكلِّمَةِ والفُقَهاءِ.

لكنّ هذِه القِراءاتِ في واقعِ الأمرِ لا تَعْدو أن تَكونَ إعادَةَ إنتاجٍ لواقِعِ الحَداثَةِ الغَربيّ، مَقطوعَةَ الصّلةِ بأسبابِ التّاريخِ، زَعْماً منْ أصحابِها أنّ الماضي عُنوانٌ على التّخلّفِ والتّقليدِ، معَ العلمِ أنّ فِرارَ الغَربِ من ذاكرَتِه وماضيه في حَقيقةِ الأمرِ فرارٌ من تخلُّفِ القُرونِ الوُسطى، وهو أمرٌ لَم تُصِبْ عَدْواه ذاكرَةَ المُسلِمينَ، وقدْ ظنَّ كثيرٌ من الحَداثيّينَ التأويليّينَ أنّ على العَربِ أن يَحْذوا حذْوَ الغربِ في قَطْعِ عَلاقتِه بِماضيه وتاريخِه وتُراثِه([9])، فَدَعَوا إلى عَهْدٍ تفسيرِيٍّ جَديدٍ إذْ جاؤوا بقِراءاتٍ تأويليّةٍ للقُرآنِ الكَريم مَقطوعة الصِّلَةِ بالتّفاسيرِ القَديمَةِ؛ لأنّ التّفاسيرَ القَديمَةَ لا تَعْدو أن تَكونَ تأويلاً وتَوجيهاً وتَوظيفاً “حَسبما تَقْتَضيه الظُّروفُ التّاريخيّةُ ومَصالحُ الفئاتِ التي تتَنازَعُ التأويلَ وما تسمَحُ به الآفاقُ الذّهنيّةُ والأطُرُ الثّقافيّةُ والمعرِفيّةُ في تلكَ الظّروف([10])“. ولكنّ هذه المُحاوَلاتِ الحَديثةَ، إذا جازَ أن تُسَمّى إبْداعاً في مِضْمارِ التّفْسيرِ والتأويلِ، مُتميِّزاً عن الإنتاجِ القَديم، فَلا تَعْدو أنْ تَكونَ إبْداعاً مَفْصولاً عَن جُذورِه غَيْرَ موصولٍ بِها، أوحى بِه التّقْليدُ للغَربِ، فَجاءَتْ تأويلاتُ المؤوِّلينَ الجُدُدِ وقِراءاتُهُم الحَداثيّةُ لتَمْحُوَ خُصوصيّةَ النّصّ القُرآنيّ، ولتَسْعى “إلى أن تُحقِّقَ قَطيعةً معرفيّةً بيْنَها وبينَ ما يُمكنُ أن نُطلِقَ عليْه اسمَ “القِراءاتِ التُّراثيّةِ([11])، أمّا القِراءاتُ الحَداثيّة فإنّها تَخرُجُ عَن صفةِ الاعتقادِ إلى الانْتِقاد، أي انْتقادِ الآياتِ القُرآنيّة، وتَزعُمُ أنّها تُفسّرُ النّصَّ القُرآنيَّ على طريقتِها كَما فسّرَ المُفسِّرونَ القُرآنَ قَديماً عَلى طريقتِهم، وطريقةُ الحداثيّينَ في القِراءَةِ تَميلُ إلى تَطبيقِ مَقولات الفِكرِ الغَربيّ في مُعالَجَة نُصوص التُّراثِ عُموماً وبَعْضِ نُصوصِ القُرآنِ خاصّةً، وذلِكَ بعدَ إعجابِ المُفكِّرينَ الحَداثيّينَ العَرب الشّديدِ بالحداثَة الغَربيّة، مَعَ رفاعَة الطّهطاويّ، صاحبِ كتابِ “تخليص الإبْريز في تَلْخيص باريس”، وطه حسين صاحِبِ مَقولةِ تَطبيقِ مَنهجِ الشّكّ الدّيكارتيّ في فَهمِ نُصوصِ الأدَب، وتمرّ سِلْسِلةُ التّطبيقاتِ بكَثيرٍ منَ الكُتّابِ والمفكّرينَ.

نَماذجُ من المُؤوِّلَةِ الجُدُد

مِنْهُم فَضل الرّحمن، المفكِّر الباكستانيّ([12])، صاحِبُ كتابِ “الإسلام وضَرورَة التّحديث: نَحو إحْداثِ تَغييرٍ في التَّقاليدِ الثَّقافيّة”، الذي انْطلَقَ من فلسَفَة غادامير في القولِ بأنّ كُلَّ تجربةٍ للفَهمِ تفترِضُ سَلفاً تَعييناً سابقاً لمَوضوعِ التّجرِبَة، وقَد اهتمَّ فَضل الرّحْمن بتَصْحيحِ ما سَمّاه بأسْلوبِ تَفْسيرِ القُرآن، مُنطلِقاً في ذلِكَ من نَقْدِه للفُقَهاءِ والعُلَماءِ المُسلمينَ و”مُستدرِكاً” عليْهِم ما فاتَهُم من أنّ القُرآنَ تطبيقٌ عَمليّ وسياسيٌّ وليسَ مُجرَّدَ نصٍّ للعبادَة والتّقْوى الفَرديّةِ، بَل هو تَوجيهٌ نَحو التّحْسينِ الأخْلاقيّ لوَضعيّةِ الإنسانِ بالمَعْنى المَلموسِ والجَماعيّ للكلِمَة، أكْثَر ممّا هو خاصٌّ وميتافيزيقيّ.

وحاولَ الكاتبُ أن يُثْبِتَ أنّ “نُظُمَ الشّريعةِ الإسْلاميّةِ في العَصرِ الوسيطِ اشتغَلَت بِنَجاحٍ، بِسَبَبِ الواقِعيّةِ التي أبْدَتْها الأجيالُ الأولى التي اسْتَقَت الموادَّ الأوّليّةَ لتلْكَ الشَّرائعِ من لَدُن الأعْرافِ والمُؤسَّساتِ التي كانَت سائدةً في الدِّيارِ التي جَرى فَتْحُها، وعَدَّلتْها حينَ تَبَدّى هذا التّعديلُ ضَرورِيّاً في ضَوءِ تَعاليمِ القُرآنِ، ثُمّ دَمجتْها في تلكَ التّعاليمِ. أمّا حينَ حاوَل المُفسِّرونَ استنباطَ الشّريعةِ من القُرآنِ بشَكلٍ مُجرَّدٍ… فإنّ النّتائجَ لَم تكُنْ مرْضِيةً تَماماً، وذلِكَ لأنّ الأداةَ التي استُخْدِمَت من أجْلِ اسْتِنْباطِ القانونِ، والتي أُطْلِقَ عليْها اسْمُ القِياس… لَم تَكُنْ كاملةً إلى الدّرجةِ المَطلوبَةِ، أمّا عَدمُ كَمالِ هذِه الأدواتِ وعَدمُ دقَّتِها فَبِسَببِ الافْتقارِ إلى مَنهَجٍ صالحٍ لفَهمِ القُرآنِ نفْسِه…([13])“. لقَد أوْلى الكاتبُ، في تصوّرِه التأويليّ للقُرآنِ، الواقعَ التاريخيّ والعَمَلَ الملموسَ أو ما سَمّاه بالقِيَم التّاريخيّة، قيمةً كُبْرى في عمليّةِ الفَهمِ والتأويل، وربَطَ تأويلَ القُرآنِ بإسقاطِ فَهْم العَصرِ على نُصوصِ القُرآن، أمّا القِيَمُ الأخلاقيّةُ فإنّها تَقفُ خارِجَ التاريخِ.

وعَليْه فإنّ تَعاليمَ القُرآنِ في نظرِ فَضل الرّحْمن لا تَعْدو أن تَكونَ ردّاً إلَهِيّاً على الوَضعِ الأخْلاقيّ الاجتماعيّ الذي عرَفَتْه الجزيرَةُ العربيّة في ذلِك العَصرِ، كعِبادةِ الأوثانِ وظُلمِ الفُقَراء وفَسادِ التّجارَة وغيْرِ ذلِكَ، وأنّ الأمّةَ الإسلاميّةَ قَد تكوّنَت على خّلْفيّةِ الوَضْعِ التّاريخيّ الاجْتماعيّ، وما القُرآنُ سوى ردّ على هذِه الوضْعيّةِ. وعليْه فإنّ مَعْنى النّصوصِ والآياتِ لا يُفهَمُ إلاّ في ضَوءِ دِراسَةِ الوَضعيّةِ التّاريخيّة أو المُعْضِلَةِ التي كانَت سبباً خاصّاً لتلكَ الآياتِ، وتوضعُ هذِه الأسبابُ الخاصّةُ نفسُها في سياقِ الوضعيّةِ الشّاملةِ للمُجتَمَعِ والدّينِ والأعرافِ والمُؤسَّساتِ.

وممّنْ كانَ له مُشاركةٌ في القِراءاتِ التّأويليّةِ للقُرآنِ محمّد عابِد الجابري صاحِبِ مَشْروعِ نَقدِ العَقْل العَربيّ، وعَبد الله العَرويّ صاحِبُ “مَفهوم الحُرّيّة” و”مَفْهوم الإيديولوجيا”، و”ثَقافتنا في ضَوءِ التّاريخ”، و”العَرَب والفِكْر التّاريخيّ”. ومنهُم أيضاً محمّد أركون صاحِب مَشْروع “نَقْد العَقْل الإسْلاميّ”، وكِتاب “مِنَ التَّفْسيرِ المَوروث إلى تَحليلِ الخِطابِ الدّينيّ”، وطيّب تيزيني صاحِب مَشْروع “رُؤية جَديدَة للفِكْر العَربيّ”([14])، و”النّصّ القُرآنيّ أمامَ إشكاليةِ البِنْيَةِ والقِراءَة”، وأدونيس صاحِب “الثّابت والمتحوّل”، وحَسَن حَنَفي صاحِبُ مَشْروع “مِنَ العَقيدَةِ إلى الثّورَة”، ونَصْر حامِد أبو زَيْد صاحِبُ “نَقْد الخِطابِ الدّيني” و”إشْكاليات القِراءَة وآليات التّأويل” و”النّصّ والسُّلْطَة والحَقيقَة”، وصادق جلال العظم صاحب نقد الفكر الدّيني، وعلي حرب صاحِب “نَقْد الحَقيقَة”، وحَسَن حَنَفي صاحِب “التأويل المَوضوعاتيّ للقُرآنِ” وواضِع مُقدِّماتِه وقَواعِدِه المُستوْحاةِ من الحَداثَةِ الغربيّة، ومُحمَّد شحْرور صاحِب “الكِتاب والقُرآن”([15])

خصائصُ مَنهَجِهِم

هؤُلاءِ وغيرُهُم من المفكّرينَ اعْتمَدوا مَنهجَ رَفضِ القِراءَةِ التُّراثيةِ وتَبنّوا مَشروعَ قراءَةٍ تأويليةٍ، تَعتمِدُ المناهجَ الغَربيةَ، وتَرمي إلى رفْعِ “عائِقِ القُدسيّةِ” عن النّصِّ القُرآنيّ (أو ما دَعاه بَعضُ الباحثينَ “بنزعِ “الميثيّةِ” عن النّصّ الدّينيّ و مُحاوَلَةِ أنْسَنَتِه بعَلْمَنَةِ القِراءةِ([16])“، والنّظَرِ إليْه عَلى أنّه  مُجرّدُ نَصٍّ لُغًويّ كسائرِ النُّصوصِ البَشريّةِ، وأنّه نَصٌّ مَحكومٌ بسِياقٍ ثَقافيّ اجتِماعيّ مُعيّنٍ، وتَزْعُمُ أنّه نَصٌّ يَنفَتِحُ عَلى احْتِمالاتٍ مُتعَدّدةٍ وتأويلاتٍ غَيرِ مُتناهيةٍ. وتَزْعُمُ أنّه نَصُّ مُستقلٌّ عَن مَصدَرِه مَفْصولٌ عَن قائلِه، مَربوطٌ بالقارئِ الإنسانيّ، وكلُّ ما يَسْتخْلِصُه قارئُ النّصّ القُرآنيّ “إنّما هو حَصيلةُ الاسْتنطاقِ الذي يُمارِسُه عليْه من خِلالِ مَرجِعيّتِه الثَّقافيّةِ وخَلفيّتِه المعرفيّةِ ووَضعيّتِه الاجتماعيّةِ والسّياسيّةِ، فَلا تكونُ هذه الحَصيلةُ إلاّ إبْداعاً لِمَضامينَ إنسانيّةٍ صَريحةٍ”([17])، وتَزْعُمُ أنّه نَصٌّ فيهِ احْتِمالُ النّقصِ وَعَدَمِ الاكْتِمالِ، وأنّ المُصحَفَ الرّسميَّ العُثمانيَّ لا يَعْكسُ الحقيقَةَ التّاريخيّةَ التّامّةَ التي نَزَلَت مَع الوَحْيِ، وأنّ في النّصِّ القُرآنيِّ ما ليْسَ منه وهو أقوالُ بعضِ الصّحابَةِ.

فَعَدُّوا هذه الأوهامَ التي ادّعَوْها، مُسوِّغاتٍ للقَولِ بغِيابِ حَجمِ النَّصِّ الحقيقيّ الكامِل للقُرآنِ الكَريم، وأنّ هذا النّقصَ تَرَكَ آثاراً من جنسِ المُشْكلاتِ، منها الزّعمُ بغيابِ الاتّساقِ التّاريخيّ والمَنطقيّ في تَرتيبِ السّورِ والآياتِ([18])، وأسْفَرَ غيابُ الاتّساقِ عَن اضطِرابٍ في فَهمِ المَقاصدِ.

ومَبْعَثُ الأوْهامِ ومَصْدرُها تَعميمُ الشّكِّ والارْتيابِ في النّصِّ القُرآنيّ، وجعْلُه قانوناً يشملُ كلّ ما يتّصلُ بالقُرآنِ من وَحْيٍ وأسبابِ نُزولٍ وفَهمٍ صَحابةٍ وتَفْسيرِ مُفسِّرينَ واسْتنباطِ فُقَهاءَ.

والحقُّ أنّ المُؤوِّلَةَ الحَداثيّينَ لو تأمّلوا آليَةَ الشّكِّ “واسْتقلّوا بنظرِهِم فيها، لَتَبيّنوا أنّها، على خِلافِ ما يَزْعُمُ الآخَرُ الذي قلّدوه، لا تُوصِّلُ إلى الحقيقَةِ في كلِّ شيْءٍ، وإنّما تَقتصرُ فائدَتُها في مَجالٍ واحدٍ بعَيْنِه، هو مَجالُ الظّواهرِ؛ أمّا الآياتُ القُرآنيّةُ [التي تَنتَمي إلى مَجالِ القِيَمِ] فَلا يَنفَعُ في الوُصولِ إلى الحَقيقةِ بشأنِها إلاّ سُلوكٌ واحدٌ يُضادُّ طَريقَ الشّكِّ؛ وغَنيُّ عن البَيانِ أنّه هُوَ طَريقُ الإيمانِ واليَقينِ؛ إذ كُلّما زادَ الإيمانُ بالقيمَةِ زادَ انْكِشافُها للمُؤمِنِ بِها، وكُلّما نقَصَ إيمانُه بِها، نَقصَ انْكشافُها، حَتّى يَضمحِلَّ عندَ تَمامِ الارْتيابِ فيها([19])“.

ـ يُؤكِّدُ المُؤوِّلَةُ الجُددُ عَلى تاريخيّةِ النَّصِّ الدّينيّ ونسبيّتِه، فأسبابُ النّزولِ تَربطُ آياتِ الأحْكامِ بأسبابِ نُزولِها، بَل تُحيلُ عَلى تاريخِ تَفسيراتِها المُتعدِّدَةِ، فيزْدادُ تعلُّقُ المَعاني بظُروفِها، وسيَكونُ هذا التّعلُّقُ مَدعاةً لاختِلافِ المُفسِّرينَ والفُقَهاءِ في فَهمِ هذِه الأحكامِ. وعَلَيْه، لَن يَكونَ لهذه الآياتِ مَعانٍ مُحدّدةٌ مُستقرَّةٌ، وإنّما هيَ فُهومٌ وتأويلاتٌ نِسبيّةٌ تَختلِفُ باختلافِ ثَقافَةِ المُؤوِّلينَ وعُصورِهِم وأحوالِ مُجتَمعاتهِم. ويترتّبُ أيضاً على القَولِ بتاريخيّةِ النّصّ القُرآنيّ، إبطالُ القولِ بأنّ القُرآنَ تضمّنَ كلَّ شيءٍ؛ بِدعْوى أنّ العَمَلَ بآياتِ الأحكامِ يسقُطُ بذَهابِ الأشخاصِ أو الأسبابِ أو الظّروفِ التي ارتبَطَت بنُزولِ الآياتِ، أمّا ما استُنبِطَ بالقياسِ فيدلُّ عندَهُم على نقصٍ لا يتضمّنُ التّشريعَ برُمّتِه. فالقُرآنُ في زَعمِهم لا يَشتمِلُ على القَوانينِ والتّشريعاتِ المُنظِّمَةِ للمُجتمَع، ولكنّ الصِّبغةَ الإجماليّةَ الكلّيّةَ للقُرآنِ في صَوْغِ مَبادئِه ومُعظَمِ أحكامِه ونَمَطِ خِطابِه جعلتْه كتابَ وعظٍ وإرشادٍ وهدايَةٍ([20]).

بَل رأوْا أنّ صفةَ التّاريخيّةِ لا تَقِفُ عِندَ آياتِ الأحْكامِ، ولكنّها  تَتعَدّاها إلى آياتِ العِباداتِ، فالعَقيدةُ مُرتهنةٌ في زَعْمهِم بمُستوى الوَعيِ وبتطوّرِ مُستَوى المعْرِفَةِ في عَصرِ التّنزيلِ([21]).

ومن مُقتَضياتِ النّسبيّةِ التّاريخيّةِ في اعتقادِهِم استخْلاصُ تديُّنٍ خاصٍّ مِنَ النّصِّ القُرآنِيّ ينسجِمُ مع فلسَفَةِ الحَداثَةِ، ليسَ فيه “قَسريّةٌ تحدُّ من حرّيّةِ الأفرادِ، ولا شَعائرِيّةٌ طاغيةٌ تُضيّقُ على سُلوكهِم، ولا أسطوريّةٌ غابرةُ لا تُطيقُها عُقولُهُم، والتّديُّنُ الذي يَكونُ بهذا الوصفِ ينبغي أن يَقومَ على الإيمانِ الشّخصي([22])”.

وَسائلُ جَديدَةٌ لإسْقاطِ وَسائطَ قَديمَةٍ:

تَتَعامَلُ القِراءاتُ التّأويليّةُ الحَداثيّةُ بمَنْهجيّاتٍ ووَسائلِ نَظرٍ حَديثةٍ يقْصِدُ أصْحابُها مِنْ وَرائها إلى “عَقْلَنةِ” الظّاهرةِ القُرآنيّة، وإطْلاقِ سُلْطَةِ العَقْلِ وعَدَم تَقْييدِه بحُدودٍ مُعيّنَةٍ في تَفْسيرِ القُرآنِ، واسْتخدامِ العُلوم الاجتماعيّةِ والإنسانيّةِ، “لنَقْدِ العَقْلِ الدّينيّ” و”لزَحْزَحةِ إشكاليةِ الوَحيِ” من النّظامِ الفكرِيّ الخاصِّ… إلى فَضاءاتِ التأويلِ التي يَفتَتحُها العقْلُ الاستطلاعيُّ الجَديدُ.

ومِنْ هذِه الوَسائلِ المنهَجيّةِ التي يَزْعُمُ المُؤوِّلَةُ الحَداثيّونَ التّعامُلَ مَعَها لهدْمِ العَقْلِ الدّينيّ وإعادةِ تَشكيلِه، نَقْدُ عُلومِ القُرآنِ؛ لأنّها وَسائطُ معرفيّةٌ متحجِّرَةٌ تَحولُ بينَ النّصّ القُرآنيّ وقارئِه، ولأنّها عائقٌ مَعرِفيٌّ يَمْنعُه من قِراءَةٍ ذاتِ بُعدٍ عَقليٍّ صَريحٍ.

ومن الوَسائلِ أيْضاً اعْتمادُ مَناهجِ النّقْد المُتّبَعَةِ في عُلومِ الأديانِ، ثُمّ مَناهِج العُلومِ الإنْسانيّةِ المُختَلِفة، ثُمّ النّظريّاتِ النّقدِيّةِ والفلسفيّةِ واللسانيّةِ، ويُخَصُّ بالذِّكْرِ منها “اتِّجاهاتُ تحْليلِ الخِطابِ والاتّجاهاتُ الجَديدَةُ في النّقْدِ الأدبيّ المُتمثِّلَةُ في البنْيويّاتِ والحَفْرِيّاتِ والتّفكيكيّاتِ([23])” وتَنزيلُها على النّصِّ القُرآنيّ، باعْتبارِ هذا التّنزيلِ خُطوةً نَحو نَقْد العَقْلِ الدّينيّ.

ـ ثُمّ إنّهُم يُنزِّلونَ النّصَّ القُرْآنيَّ مَنزلةَ النُّصوصِ الدّينيّةِ المُحَرَّفَة أو الوَثنيّةِ والشِّرْكيّةِ، بِدَعْوى أنّ ما ثَبَتَ للشّيءِ ثَبَتَ لِمثْلِه، ولا وَجْهَ عندَهُم لادِّعاءِ أفضليّةِ القُرآنِ على غيْرِه من تلكَ النُّصوصِ، فهِيَ تتَساوى عندَهُم من حيثُ هي خطاباتٌ، وليسَ من حَقِّ واحدٍ مِنْها أنْ يُقْصِيَ الآخَرَ ويدّعِيَ امتلاكَ الحَقيقَةِ([24]).

نَقْد العَقْل الحَداثيّ

انطَلَقَ المؤوِّلَةُ الجُدُدُ من التّطبيقِ الغربيّ للحَداثَة، وتَقتضي النُّسخةُ الغَربيّةُ قَطْعَ الصّلَةِ بِكلِّ ما مَضى وما قَدُمَ، ومَعْنى ذلِكَ أنّهُم أعادوا إنتاجَ الفعلِ الحَداثيِّ الغربيّ وقَلّدوه، عندَما تَصدّى المُفكِّرونَ في عصرِ الأنوارِ، لمُواجَهَةِ الكَنيسَةِ وإبطالِ تأثيرِها في الفَرْدِ والمُجتَمَعِ، فانتَهى بِهم المَطافُ إلى تَقْريرِ مَبادئَ منها مَرْكزيّةُ الإنْسانِ ومحوَرِيّتُه، والتّوسُّلُ بالعَقْلِ وتَرْكُ التّوسُّلِ بالوَحْي، ثُمّ رَبطُ الإنْسانِ بالدُّنيا وكلِّ ما تَقَعُ عليْه الحَواسُّ وصرْفُه عن الارْتباطِ بالغَيْبِ.

وهذه الخُطُواتُ كُلُّها إسْقاطاتٌ ساذجَةٌ للفعلِ الحَداثيّ الغَربيّ على طَريقَةِ قِراءَة النّصّ القُرآنيّ وتأويلِه، ومن شأنِها انْعدامُ المُناسبَةِ بيْنَ وسيلةِ التأويلِ ومَوضوعِ التّطبيقِ، ولا تتحَقّقُ المُناسَبَةُ إلاّ إذا أخْضِعَت الوَسيلَةُ التأويليّةُ للنّقْدِ، فإن لَمْ يَكنِ الحَداثيّونَ قادِرينَ على نَقْدِ أدَواتهِم ووَسائلِهم المُسْتَعارَةِ، فإنّه مِن العَبَثِ ادّعاءُ الحَداثَةِ وتَعاطيها، لأنّ حقيقةَ فعلِهِم تَقليدُ الحَداثَةِ الغربيّةِ واستنساخُها من غيْرِ مُراعاةِ خُصوصيةِ النّصّ والمَوْضوعِ. عَلى ما في التّوسُّلِ بتلْكَ الوَسائلِ والَمناهجِ المَنقولَةِ من سطحيّةٍ ونقصٍ وعدمِ تمكُّنٍ، واكتِفاءٍ بالتّلعُّبِ ببعضِ المَفاهيمِ البَرّاقَةِ التي تملأ الأسماعَ وتشغَلُ النّاسَ، والتّصيُّدِ للتُّهَم الباطِلَةِ المُتَجاوَزَةِ التي صَبّوها على النّصّ القُرآنيّ وعلى التُّراثِ الفقهيّ والتّفسيريّ، وقَلْبِ أوْضاعِ المَوضوعاتِ؛ إذْ قَدّموا ممّا أقرّه التّداوُلُ الإسْلاميُّ ما حقُّه التأخيرُ، وأخّروا ما حقّه التّقديمُ، واعْتَمَدوا الأفكارَ الشّاذّةَ والشُّبُهاتِ أصولاً تُبْنى عَليْها مَقاصدُ النّصّ القُرآنيّ وتُحَكَّمُ في بناءِ الأحكامِ؛ “وغيرُ خافٍ أنّ الذي يَتَّبِعُ الشّاذَّ من أقوالِ المُفسِّرينَ ويتعلّقُ بأخطائهِم يُريدُ المَيْلَ عن الحق([25]).”

أمّا تَنزيلُهُمُ النّصَّ القُرآنيَّ مَنزلةَ غيْرِه مِن النُّصوص، فَهُوَ ظُلمٌ عَظيمٌ لَه واعْتداءٌ على حُرمَتِه وجُحودٌ بِحَقيقَتِه، وإخْراجٌ لمَفهومِ الوَحْيِ من سِياقِه الخارِقِ المُتفرِّد إلى مَفهومٍ تأويليّ يخضَعُ لسُلطةِ العَقْلِ، ويتّهمُ التّفسيرَ السّائدَ للوَحْيِ القُرآنيّ بأنّه تَفْسيرٌ مَوروثٌ صادرٌ عَنْ تَصوُّرٍ دينيٍّ مُتَجاوَزٍ عَقْلاً وعِلماً، وأنّه مُؤسَّسٌ على أساطيرَ وأخبارٍ غيْرِ صَحيحةٍ، فالوَحْيُ في ملّتِهِم واعْتِقادِهِم لا يَعدو أنْ يَكونَ مَوهبةً إنسانيّةً بَل عَدّوه موهبةً كَونيّةً يَشترِكُ فيها الإنسانُ والحَيوانُ([26])؛ فَخَلَطوا بيْنَ الوَحْيِ والإلْهام، أمّا العباداتُ التي لا تَقْبَلُ التّعليلَ العقليَّ فَهِيَ عِنْدَهُم ضَربٌ من الطّقوسِ الجامدَةِ.

ـ النّصُّ القُرآنيُّ ومَسألَةُ التّأويلِ عِنْدَ العُلَماء: مَوقفُ العُلَماءِ مِنَ التَّأويلِ والتّأويليَّة:

مَدارُ كَلمةِ التّأويلِ في لُغةِ العَربِ عَلى مادّةِ “أوْل” التي تَعْني الرجوعَ والعَوْد([27]).

لقَدْ وَرَدَ التأويلُ عندَ العُلَماءِ المُتقدِّمينَ بمعنى التّفْسير أيضاً، فالتّفسيرُ تأويلٌ، والتأويلُ في الكِتابِ والسّنّةِ ليسَ بعيداً عَن المعْنى اللّغويّ، فإنّه يَدلُّ على حَقيقةِ ما يؤولُ إليه الكَلامُ، وإنْ وافَقَ ظاهِرَه، ولكنّ الإشكالَ الذي ثارَ مع كثرَةِ اسْتعمالِ لفظِ التأويلِ، أنّه صارَ لَه بِسَبَبِ تَعَدُّدِ الاصْطِلاحاتِ ثَلاثُ مَعَانٍ:

ـ أَحَدُهَا؛ أَنْ يُرادَ بالتَأويلِ حَقيقَةُ ما يَؤولُ إليه الكَلامُ وإنْ وافَقَ ظاهِرَه. وهو المَعْنى الذي يُرادُ بِلَفْظِ التّأويلِ في الكِتابِ والسُّنَةِ نحو قَوْلِه تَعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾ (الأعراف: 52).

ـ والثّاني؛ أنْ يُرادَ بِلَفْظِ التّأْويلِ: التَّفْسِيرُ وهُوَ اصْطِلاحُ كَثيرٍ مِن المفَسِّرين، ولهذا قالَ مُجَاهِدٌ: إنّ “الرّاسِخينَ في العِلْم” يَعْلَمون تَأْويلَ المُتَشابِهِ فَإنّه أَرادَ بذلك تَفْسيرَه وبَيانَ مَعانيهِ، وهذا ممّا يَعْلَمُه الرّاسِخونَ، وهذا عندَ مَن وَقَفَ عَلى الرّاسخينَ في العلمِ وليْسَ عَلى لفظِ الجَلالَةِ، في قَولِه تَعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ (ءال عمران: 7).

ـ والمَعْنى الثّالِثُ في عُرْفِ المُتفقِّهَةِ والمُتكلِّمَةِ والمُتفلسِفَةِ والمُتصوِّفَةِ أنْ يُرادَ بِلَفْظِ “التّأويلِ” صَرْفُ اللّفْظِ عَن الاحتمالِ الرّاجِح إلى الاحْتمالِ المَرْجوحِ لدَليلٍ مُنفَصلٍ يَقترِنُ بذلِكَ. وهذا التّأويلُ لا يكونُ إلاّ مُخالِفًا لِما يَدُلُّ عَليْه اللّفْظُ ويُبيِّنه. وتسْميَةُ هذا تأويلاً لم يَكُنْ في عُرْفِ الأوّلينَ، وإنّما سَمّى هذا وَحْدَه تَأْويلاً طائِفَةٌ من المُتَأخِّرينَ الذينَ اشتَغَلوا بالفِقْه وأصولِه والكَلامِ، وظَنّوا أنّ قَوْله تَعالى: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ يُرادُ بِهِ هذا المعنى ثُمّ صاروا في هذا التّأويلِ على طَريقَيْن: منهُم مَن يَقولُ إنّه لا يَعْلَمُه إلاّ الله. ومنهُم مَن يَقولُ إنّ الرّاسِخين في العِلْمِ يَعْلَمونَه. لكنَّ هذا التَأويلَ في كَثيرٍ مِن المَواضِع مِنْ جِنْسِ تَأويلاتِ الباطِنِيَّة. وهو التَّأْوِيلُ الذي اتُّفقَ على ذَمِّهِ. وقدْ صَنّفَ فيه الإمامُ أَحْمَدُ كِتَابًا في “الرّدّ عَلى الزّنادَقةِ والجهْمية([28])“؛ فَعَابَ عَليْهِم تفْسيرَهُم الْقُرْآنَ بِغَيْرِ ما هُوَ مَعْناهُ، وتمَسُّكَهُم بمُتَشابِه القُرْآنِ، وتكلُّمُهُم فيه بغيْرِ مَعْناه، ممّا عُرِفَ مُنذُ عَهْدِ الصّحابةِ والتّابِعين الذينَ الْتَزَموا بِما أمرَ الله بِه من تَدبُّرِ الكتابِ كلِّه لا بَعضِه: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ﴾ (ص: 28)، ولم يَقُلْ بَعْضَ آيَاتِهِ، وقالَ: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ﴾ (النساء: 81؛ محمد: 25)، وأَمْثالُ ذَلِكَ ممّا يُبَيِّنُ أنّ الله يُحِبُّ أنْ يتَدَبّرَ النّاسُ القُرْآنَ كُلّهُ، وعَنْ عُثْمانَ ابْن عفانَ وعَبْدِ الله بْنِ مَسْعودٍ أَنَّهُمْ قالوا: «كُنّا إذا تَعَلَّمْنا مِنْ النّبِيّ، عليه الصلاة والسلام، عَشْرَ آياتٍ لم نُجاوِزْها حتى نَتَعَلَّمَ ما فيها مِن العِلْم والعَمَلِ»، قالوا: «فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ»([29])؛ فمَنشَأ الشُّبهَةِ في لَفظِ التأويلِ الاشتِراكُ والتّعدُّدُ في المَعاني.

ولكنَّ الاختلافَ في ذاتِه ليسَ بالضّرورةِ أمراً مَذموماً؛ وللأمّةِ فيه طَريقانِ: “أحدُهُما كَالاختلافِ في الأَذانِ وتَكْبير الجَنائزِ، والاخْتِلاف في التشهُّدِ وصَلاةِ الأعْيادِ وتَكبيرِ التّشريقِ، ووُجوهِ القِراءاتِ، واخْتلاف في وجوه الفُتيا وما أشبَهَ ذلك، وليسَ هذا باختلافٍ، إنما هو تخييرٌ وتوسِعةٌ، وتخفيفٌ مِن المحنة، فمن أذَّن مَثنَى وأقام مثنى لم يُؤثَّم، ومَن أذّن مثنَى وأقام فُرادَى لم يُحَوَّب، لا يتَعايَرون ولا يتَعايَبونَ، أنتَ تَرى ذلكَ عياناً وتَشهدُ عَليه بَتاتاً، والاخْتلافُ الآخَرُ كَنحوِ اخْتلافِنا في تأويلِ الآيةِ مِن كتابِنا، وتأويلِ الحَديثِ عَن نَبيِّنا، مَع إجماعنا عَلى أصْل التّنزيلِ، واتِّفاقِنا عَلى عَين الخَبر، فإنْ كانَ الذي أوْحَشَكَ هذا حَتّى أنْكَرْتَ مِن أجْلِه هذا الكتابَ، فقدْ يَنبغي أن يَكونَ اللّفظُ بجميعِ التَّوراةِ والإنجيلِ مُتَّفَقاً على تأويله، كَما يَكونُ مُتَّفَقاً على تَنزيلِه، ولا يَكونَ بين جميعِ النَّصارى واليهودِ اختلافٌ في شيء من التأويلات، وينبغي لك أن لا ترجعَ إلاّ إلى لغةٍ لا اختلافَ في تأويل ألفاظها، ولو شاء الله أن يُنزِلَ كتبَه ويَجعلَ كلامَ أنبيائه وورثَةِ رسله لا يحتاج إلى تفسيرٍ لفَعَل، ولكنّا لم نَرَ شيئاً من الدِّين والدُّنيا دُفِع إلينا عَلى الكِفاية، ولو كانَ الأمرُ كذلكَ لسَقطَت البَلْوَى والمحنةُ، وذهَبت المسابقَةُ والمنافسةُ، ولم يكنْ تفاضلٌ، وليسَ على هذا بَنَى الله الدُّنيا([30])“.

لكنَّ القاعدَةَ المنهجِيَّةَ المُقرَّرَةَ في أصولِ الفقهِ، أنّ الأصْلَ في تَفسيرِ النُّصوصِ العَملُ بالظّاهِرِ ولا يُصارُ إلى التأويلِ إلاّ لمُسوّغٍ صارِفٍ.

ولقَد أنكَرَ العُلَماءُ مَذاهبَ كثيرةً أوّلَت نصوصَ القُرآن الكَريمِ وفقَ أهْوائها، مِنها مَذهبُ القَرامطةِ الذينَ ادّعَوا أنّ للقُرآنِ الكَريمِ باطناً يُخالفُ الظّاهرَ؛ فَيَقولونَ إنّ الصَّلاةَ المأمورَ بِها في الشّرعِ لَيْسَتْ هذِه الصّلاة، أو إنّها هي ولكن لم يُؤمَرْ بِها إلاّ العامّةُ أمّا الخاصّةُ فالصّلاةُ في حقّهِم معرِفةُ أسرارِ باطنيّةِ القَرامطَةِ، والصّيامُ كتمانُ أسرارِهم والحجّ السّفرُ إلى زيارَةِ شُيوخِهم، والجنّةُ للخاصّةِ هي الاستمتاعُ بملذّاتِ الدّنيا… وقد دخلَ في حيّزِ التأويلِ الفاسِدِ كثيرٌ من أقوالِ الجَهْميّةِ والقَرامطَةِ وغُلاةِ الباطنيّةِ وغُلاةِ الصّوفيّةِ والرّوافضِ والزَّنادِقَةِ، الذينَ قَلَبوا دلالاتِ النصوصِ القُرآنيّةِ رأساً على عقِبٍ، ودونَهُم في الرّفضِ باطنيّةُ المُتصوِّفَةِ الذينَ قَلَبوا الحَقائقَ إلى مَجازاتٍ فَعَطّلوا كثيراً من الأحكام، ومنهُم باطنيّةُ الفَلاسفةِ الذينَ فسّروا المَلائكةَ والشّياطينَ بقُوى النّفسِ، وادّعى فَلاسفةُ الباطنيّةِ أنّهُم أعلَمُ من سلَفِ الأمّةِ ومُتقدِّميها، وأعرَفُ ممّن كان قبلَهُم من الفُقَهاءِ والمُفسِّرينَ وأعلمُ بالله من المُرْسَلينَ، ففَسّروا قولَه تَعالى: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا﴾ (نوح: 26) بأنّها التي خَطَت بِهم فَغَرِقوا في بحارِ العلمِ بالله، وزَعَموا أنّهُم يمتلكونَ أدواتٍ دَقيقةً تمكّنُهُم من اسْتنباطِ العلمِ من القُرآن، كالإشاراتِ والحَقائقِ والنّظَرِ الثّاقِبِ والحَدْسِ الصّائبِ والعلم بالباطِنِ والحقيقَةِ والشَّريعَةِ والتّمييز بَينَهُما، وغير ذلِك ممّا لَيْسَ مِنْ كَلامِ الصَّحابةِ ولا مِنْ كَلامِ التّابعينَ، وإنّما هُوَ مِنْ ألفاظِ الصّوفيّةِ واصْطِلاحاتهمْ.

وما وَقَعَ فيه الباطنيّةُ من سوءِ التأويلِ سَقَطَتْ فيه الفِرَقُ الكَلاميّةُ عَلى تَفاوُتٍ، ومنها تأويلاتُ المُرْجِئةِ والجَبْرِيّةِ والمُعتزِلَةِ والأشاعِرَةِ والماتُريديّةِ. وتُعدُّ الفرقُ الضّالّةُ اليومَ امتداداً للفِرَقِ الباطنيّةِ القَديمَةِ، ومنها القاديانيّةُ الذينَ جَحَدوا خَتمَ النّبوّةِ بمُحمّدٍ، صلى الله عليه وسلم، والبَهائيّةُ الذينَ اصطنَعوا ديناً جديداً ذا نُبوّةٍ جَديدةٍ([31]).

ولَقَد حذّرَ العُلماءُ المُفسِّرَ مِنَ الوُقوعِ في المَزالقِ إن لَم يَلْتَزِمْ بشَرائطِ التّفسيرِ الصّحيحِ، وعَلى رأسِها صِحّةُ الاعْتقادِ أوّلاً، ولُزومُ سُنّةِ الدّينِ، فإنّ مَن كانَ مَغْموصاً عَليْهِ في دينهِ مَطعوناً عليْه، فَلا يؤتمَنُ عَلى الدّينِ وعَلى صحّةِ بَيانِ القُرآنِ الكَريم، فَعليْه أنْ يَكونَ ممتلئاً مِنْ عُدّةِ البَيانِ الصّحيحِ لا يَلتَبِسُ عَليْه اخْتلافُ وُجوهِ الكَلامِ، أمّا المؤوِّلَةُ الذينَ يَخرجونَ بِالبَيانِ عَنْ وَضْعِ اللّسانِ وأصولِ الدّينِ إما حقيقة أو مجازاً؛ فتأويلُه تَعْطيلُه.

ومنِ تَحذيرِهِم أيضاً أنّه يَنْبَغي أنْ يُحْصَرَ التأويلُ في الفُروعِ والأحْكامِ التّكليفيّةِ فهي التي يَعْتريها الاحْتِمالُ؛ وتتَفاضلُ التأويلاتُ بِحسبِ قُرْبِ الاحْتِمالِ فيها أو بُعْدِه؛ فَقد يَكونُ قريباً لرجحانِ الدّليلِ أو بَعيداً لضعْفِه. والتأويلُ الصّحيحُ ما وافَقَ الكتابَ والسّنّةَ ولِسانَ العَرَبِ، ولَم يَفْتقِرْ إلى قَرائنَ مُقوِّيةٍ؛ فإنّ المَحذورَ إنّما هو صرْفُ الآيَةِ أو اللفظِ عن فَحْواه بغيْرِ دَليلٍ من الكتابِ أو السّنّةِ أو الإجْماعِ.

وقَد فَعَلَ فعْلَ المؤوِّلَةِ القُدماءِ مُتفلْسِفَةُ اليَومِ والمُؤوِّلَةُ الجُدُدُ المدْعوّونَ بالمُثقّفينَ الحَداثيين والمُفكِّرينَ المُستنيرينَ، حينَ زَعَموا أنّهُم يَستمدّونَ تأويلاتِهِم مِن النّظرِيّاتِ التأويليّةِ الحديثَةِ، ويمتلكونَ أدواتٍ إجرائيّةً تُعينُهم على تأويلِ نُصوصِ القُرآنِ، كالسّطحِ والعُمْقِ، وأبعادِ النّصّ، وسيميائيّةِ الدّوالّ، والعَقْلانيّة، والفِكْرانيّة، والثّقافَة الفَلسفيّة العلميّة، ونَقْد العَقْل الدّينيّ… ونَعَتوا عُلَماءَ الفِقْه والأصولِ والتّفْسيرِ وما تفَرّعَ عَليْهم مِن مَدارسَ فقهيّةٍ على مَدى التاريخِ بالتَّفْكيرِ الدّينيّ والذّهنيّة الدّينيّة والإيديولوجيّة الغَيْبيّة وطُغْيان التّقبُّل العَفويّ للمُعْتَقداتِ والعاداتِ والأفكارِ الهلاميّةِ([32])

بَل زَعَم المؤوِّلَةُ الجُدُدُ أنّهُم يُعيدونَ قِراءَةَ الفكرِ الباطنيّ القَديم بنَظرياتٍ تأويليّةٍ حديثَةٍ، لأنّه يتمتّعُ باستمرارِيّةٍ توجبُ على الباحثينَ إحياءَه وإحياءَ الفكْر الذي لَمْ يُنصَفْ عَبْرَ التّاريخِ؛ فعَمدَ كثيرٌ منهُم إلى استمْدادِ أصولِ تأويلِهِم من الباطنيّةِ القُدماءِ، ومنهُم مَن استَمَدّوا من الفَلاسفةِ المُعاصرينَ، ولكنّهُم يَكادونَ يتّفقونَ عَلى أمرٍ واحدٍ، هو بناءُ جهازٍ مَفاهيميٍّ يَلْتقي فيه التّأويلُ الباطنيّ القَديمُ والتّأويلُ الفلسفيّ الحَديثُ، وذلِكَ بإحياءِ مَذاهبِ القَرامطَةِ والحُلوليّةِ وعُمومِ الباطنيّةِ والرَّوافِض، بأدَواتٍ حَديثةٍ مُقتَبَسَةٍ من مَدارِسِ التّأويلِ الغَربيّةِ الحَديثَةِ، ولهذا فليسَ غَريباً أن تجدَ أسماءً تتبوّأ مواقعَ كبيرةً في الفكرِ الفلسفيّ الحَديثِ مثل الحلاّجِ، وابْن سَبْعين، وابن عَربيّ، وابْنِ الفارِضِ، وابنِ أحلى اللّورقيّ وغيرهم([33]).

الأخذُ بأسْبابِ البَيانِ قَبلَ وُلوجِ باب التّأويل: معيارُ البَيان في تأويل القُرآن

قِراءَة في البِناءِ النّصّيّ للقُرآن الكَريم

مِنْ خَصائِصِ البَيانِ القُرآنيّ في مُخاطَبَة الإنْسانِ:

“قالَ بعضُ الأقْدمينَ: أنزِلَ القُرآنُ على ثَلاثينَ نَحواً، كُلّ نَحوٍ منهُ غَيرُ صاحِبه، فَمنْ عَرفَ وُجوهَها ثم تَكلَّم في الدّين أصابَ ووُفّقَ، ومَن لم يَعرِفْ وتَكَلّم في الدّينِ كانَ الخطأ إليه أقْرَبَ: وهو المكّيُّ والمدَنيُّ، والنّاسخُ والمنْسوخُ، والمُحكَمُ والمُتشابِهُ، والتقديمُ والتأخيرُ، والمقطوعُ والموصولُ، والسّببُ والإضمارُ، والخاصُّ والعامُّ، والأمرُ والنّهيُ، والوَعدُ والوَعيدُ، والحُدودُ والأحْكامُ، والخبرُ والاسْتفهامُ، والأُبَّهَةُ، والحروفُ المصرَّفَةُ، والإعْذارُ والإنذارُ، والحُجّةُ والاحْتجاجُ، والمَواعِظُ والأمثالُ، والقَسَم([34])“.

1. البَيانُ

البيانُ نعمةٌ من النعَم التي أنعَم الله بها على الإنسان، فَهو الوَسيلةُ الطّبيعيّةُ للإعْراب عَن المعاني القائمَة في الصُّدور والمتصوَّرةِ في الأذْهانِ، وإنما تنتعشُ تلك المَعاني الخفيَّاتُ وتَحْيا بالإخبار عَنها واستعمالها بالبيانِ، فالبيانُ اللغويّ سلوكٌ يُقرّبُ المَعاني من الفَهم ويجعلُ الخفيَّ ظاهراً والغائبَ شاهداً والبعيدَ قريباً، وعلى قَدْرِ وُضوح الدّلالة يكونُ إظهار المعنى وكلَّما كانت الدّلالةُ أوضحَ كانَ ذلِكَ أنفعَ للتواصُل.

 وقَد مَدح الله تعالى ملَكَةَ البَيانِ، وذَكر جميلَ بلائه في تَعليم البيانِ، وعظيمَ نِعمته في تقويم اللّسان، فقالَ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآَنَ. خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ (الرحمن: 1-2)، وقالَ: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (ءال عمران: 138)، ومَدحَ القُرآنَ بالبيان فقالَ عنه: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ (الشعراء: 195)، وقالَ: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ (النحل: 89)، وقالَ تَعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ﴾ (إبراهيم: 5)؛ لأنّ مَدارَ الأمرِ عَلى البَيان والتّبيينِ، وعَلى الإفْهام والتّفْهيم، وكُلّما كانَ اللّسانُ أبينَ كانَ أحمدَ.

وبالبَيَانِ عَرَفَ الناسُ القرآنَ، وقَد مَدحَ الله تعالى القرآنَ بالبَيانِ والإفصاحِ، وبِحسن التَّفصيل والإيضاح، وبجودة الإفهام وحِكمة الإبلاغ، وسمّاه  قُرآناً وسمّاه كتاباً، وقالَ: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا﴾ (طه: 110)، وقالَ: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ (النحل: 89) وقالَ: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا﴾ (الإسراء: 12).

لا شكّ أنّ للبَيانِ خطَرَه في مُخاطَبَة الإنسان بِه، والتأثيرِ فيه وتحميلِه رسالةً وحملِه على فعلٍ من الأفعال؛ وقد “كانَ النّبيّ، صلى الله عليه وسلم، بالمحلّ الأقصى في فصاحةِ اللّسان، وجزالَة القولِ، وصحّة المَعاني، وقلّة التّكلُّف، مَخصوصاً ببدائعِ الحكَم، وعُلِّم ألسنةَ العَربِ، يُخاطِبُ كلَّ أمّة بلسانِها، قالَ له أصحابُه: ما رأينا أفصحَ منكَ، قالَ: “ما يمنعُني وأنزِلَ القرآنُ بلساني([35])“.

 وقالَ الجاحظُ في بعضِ رَسائلِه: “في اللّسانِ عَشرُ خِصالٍ‏:‏ أداةٌ يَظهرُ بها البيانُ، وشاهدٌ يُخبِرُ عن الضّميرِ، وحاكمٌ يَفصلُ بينَ الخطابِ، وناطقٌ يُرَدُّ به الجوابُ، وشافعٌ تُدرَكُ به الحاجَةُ، وواصفٌ تُعرَفُ به الأشياءُ، وواعِظٌ يُعرَفُ به القَبيحُ، ومُعزٍّ يُرَدُّ به الأحزانُ، وخاصَّةٌ يُزهى بالصَّنيعَةِ، ومُلْهٍ يونِقُ الأسماعَ‏.‏

وقالَ الحَسنُ البَصريُّ‏:‏ إنّ الله تَعالى رَفعَ دَرجةَ اللّسانِ؛ فَليسَ مِن الأعضاءِ شيءٌ يَنطِقُ بذِكْره غَيرُه([36]).”

2. البَيانُ القُرآنيّ

لقد أنزلَ الله تعالى كتابَه العَظيمَ، وفيه أسرارٌ بيانيّةٌ عميقَةٌ ذاتُ قُدرةٍ عاليةٍ عَلى مُخاطبَة الإنسان في أحوالِه المختلفة، وعلى إقناعه بالطّرُق المُستوْفاةِ المُستقصاةِ، وجُعلَ لسانُ العربِ شعارَ الأمةِ في التّعبير والتّفكير، وكلّ أمةٍ لا تعبّر عن شؤونها بلغتها ولم تفكّرْ بلسانِها فهي إلى زوال أو إلى ذوبانٍ ولا تستطيع أن تُعالجَ مشكلاتها و لا يكون لَها تميّز في النّظر وخصوصيةٌ في المنهَج.

لقد خاطبَ القرآنُ الكريمُ الإنسانَ بالبَيانِ الواضِحِ الصّافي، وجاءَت ألفاظُه على غيرِ مَعْهودٍ في كلام العرب؛ فقد حُمِّلَت الكَلماتُ طاقاتٍ دلاليةً جديدةً، من أجل تأهيلِ اللغةِ للتعبير عن البناءِ الحضاريّ الجديد. وهذا البيانُ القرآنيّ البليغُ خطابٌ ربّانيّ ذو خصائصَ فريدَة منَحَت العربيّةَ أسرارَ البلاغَة والاستمرارِ، وقد علّم الله الإنسانَ هذا البيانَ الفريدَ للقيام بالخلافة في الأرضِ ولتعمير الأرضِ وللإفصاح والتّواصُل، وشغلَ البيانُ العربيّ القرآنيُّ العُلماءَ منذ القَديم، فكتبوا وألّفوا حولَ النّصّ القرآني علوماً ومصنّفاتٍ يبيّنونَ بها مقاصدَ النّصّ القرآنيّ وفَحواه ودلالاته،  لقد اكتسبَت العربيةُ من “لسان القرآن المَجيد ونزولِه بها أبعاداً جعلتْها لغةً غيرَ قابلةٍ للموتِ والاندثارِ، وأعطتها قُدرةً […] على التّجدّد الذّاتيّ […] فالانطلاقُ منها في عمليةِ بناءِ الوعيِ المُشتركِ والثّقافَةِ المُوحّدَة انطلاقٌ سليمٌ ومُيسّرٌ([37])“.

البيانُ القُرآنيُّ ظاهرٌ في الخطابِ القرآنيّ بكلّ مُستوياتِه، في النَّظمِ والعِبارَة والأسْلوبِ والأصواتِ والكَلِماتِ، وقدْ كتبَ فيه العلماءُ قديما في الإعجازِ البيانيّ للقُرآنِ الكَريم([38])، وكَتبَ فيه المحدَثونَ أيضاً([39]).

مِنْ صَميمِ فِقْه مَعاني القُرآن: فِقْهُ البَيانِ العربيّ، ودَلالَةُ اللَّفْظِ عَلى المَعْنى

لا يُفهَمُ النّصُّ القُرآنيّ حقَّ الفهمِ إلاّ بمعرِفَة خَصائصِ هذا البيانِ وأسْرارِ البلاغَةِ القُرآنيةِ وأساليبِ الخطابِ القُرآنيّ التي تتَنوّعُ وتختلفُ باخْتلافِ مَقاماتِ الخطاب وأنواعِ المُخاطَبينَ وباختلافِ الأغراضِ. ولا يَقِفُ على خَصائصِ البيانِ القُرآنيّ في مُخاطبَةِ الإنسانِ في أحوالِه المُختلفةِ وأطوارِه المُتباينَةِ إلاّ مَن كانَ على بيّنَةٍ بِبَيانِ القُرآن. ومَن لَم يكن عَلى علمٍ بِبَيانِ القُرآن وبلِسانِ العَربِ غابَت عنه مَعاني القُرآنِ وألْقِيَ بينَه وبينَ الخطابِ القُرآنيّ ومَقاصدِه حجابٌ حاجزٌ؛ وإنّ الفقْهَ بالبَيانِ العربيّ منْ صَميمِ فقهِ القُرآنِ الكَريم، فَمَن غابَ عنه الأوّلُ فهُو عن الثّاني أعْجَزُ.

 وهذا ما صرّحَ به محمّد بنُ إدريسَ الشّافعيُّ في الرّسالَة عندَما تكلّمَ عن أنواعِ البيانِ في القُرآنِ وجعَلَ مدارَ فهمِ كتابِ الله ومعرِفَةِ أحكامِه، على معرِفَةِ البيانِ القُرآنيّ، فالبيانُ أداةُ فهمِ النّصّ الكَريم، فهو اسمٌ جامعٌ لمَعانٍ مجتمعةِ الأصولِ مُتشعّبةِ الفُروع، أقلُّ ما في تلك المَعاني أنّها بيانٌ لِمَن خوطبَ بها ممّن نزلَ القُرآنُ بلسانِه، فمن التّنزيلِ ما جاءَ بيانُه نصّا فاستُغْنِيَ فيه عن التّفسيرِ بالتّنزيل، ومنه ما بيّنتْه السّنّةُ، ومنه ما لا يتبيّنُ إلاّ بالاجتهاد:

“والقرآنُ يدلُّ عَلى أنْ ليسَ مِن كتابِ الله شيءٌ إلاّ بلسانِ العَربِ […] ولسانُ العَربِ أوسعُ الألسنةِ مَذهباً وأكثرُها ألفاظاً ولا نعلمُه يُحيطُ بجميعِ علمِه إنسانٌ غيرُ نبيٍّ، ولكنّه لا يَذهبُ منه شيءٌ عَلى عامَّتِها حتّى لا يكونَ موجوداً فيها مَن يعرفُه([40]).”

والحقيقةُ أنّ خَصائصَ الخطابِ القُرآنيّ البيانيّةَ تتنوّعُ بتنوّعِ المَقاماتِ وزَوايا النّظرِ، وباختلافِ النّاظرينَ والمُتدبِّرين، وهي غيرُ قابلةٍ للحَصر؛ لأنّ القرآنَ الكريمَ مُطلقٌ، والنّاظرُ فيه وأدَواتُ النّظرِ كلُّ أولائكَ نسبيّ، “وليسَ من شأن النّسبيّ أن يُحيطَ بالمُطلقِ، أو يحصرَ صفاتِه وخَصائِصَه المُطلقةَ([41])“.

ولكنّ نسبيّةَ الأدواتِ لا تُعفي قارئَ القُرآنِ الكَريم ومُحلِّلَ نصِّه من معرِفَةِ قَوانينِ دلالاتِ الألفاظِ عَلى مَعانيها:

ـ كَدلالَةِ العُمومِ الذي يُفيدُ استغراقَ المَعْنى من غيْرِ حَصرٍ، نحو قولِه تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ (الرحمن: 24)، ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا﴾ (الأحقاف: 16)، ﴿أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ (الإسراء: 109).

ـ وقَد يُطلقُ العامُّ ويُرادُ به الخُصوصُ نحو: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (ءال عمران: 173) والقائلُ المُشارُ إليْه بالعُمومِ في هذِه الآيَةِ واحدٌ فيما تَظاهَرَت بِه الرّوايَةُ مِن أهلِ الأخبارِ والسِّيَر أنّه نعيمُ ابنُ مَسعود الأشجعِيّ([42])، و”النّاس” الذين قالوا لَهُم ما قالوا، النَّفرُ مِن عَبدِ القَيسِ الذينَ قالَ لهمْ أبو سُفيانَ بنُ حَربٍ ما قالَ، إنّ أبا سُفيانَ ومَن مَعه راجِعونَ إليكُم، ومِنه قَولُ الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ (المؤمنون: 52)، قيل: عَنى بذلكَ النبيَّ عليه الصلاة والسلام، وذلكَ جائزٌ في كَلام العَربِ، بأنْ تُخبرَ عَن الواحِدِ بمذهَبِ الجمعِ، كَما يُقالُ في الكَلام: “خَرجَ فلانٌ على بِغال البُرُدِ”، وإنما لا يُريدُ خُصوصيةَ الجمعِ، إنما يُريدُ مَركوبَه مِن هذا الجنسِ، “ورَكبَ السُّفُنَ”، وإنما رَكبَ سَفينةً واحِدةً.

ـ أمّا العامُّ من الآياتِ الذي خَصّتْه آياتٌ أخرى، فكَقولِه تَعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ﴾ (المائدة: 4) إلى آخر الآيَة… فقَد خُصَّ من الميْتَةِ المُحرَّمةِ السّمكُ، بقولِه تعالى:  أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ﴾ (المائدة: 98)([43]) إلى آخر الآيَة..، وخُصَّ من الدَمِ الجامدُ بقَولِه تَعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ (الأنعام: 146)؛ أي سائلاً.

ـ وقَد تأتي الآيَةُ تدلُّ على إجمالٍ، والمُجمَلُ اللّفظُ المُبهَمُ الذي لا يُفهَمُ المُرادُ منه إلاّ بقرينةٍ، نحو قولِه تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ (ءال عمران: 7)، يحتَملُ العطفَ فلا يوقَفُ عندَ لَفظ الجَلالَة، ويحتملُ الاستئنافَ فيوقَفُ، وبينَهُما فرقٌ في المَعْنى. ومن المُجمَلِ ما فسّرتْه آيَةٌ بعدَه، كقولِه تَعالى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ (المائدة: 2)، فَسَّر الإجمالَ في الاستثناءِ قولُه تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ (المائدة: 4).

ـ أمّا اللفظُ المُطلَقُ الدّلالةِ، فهو اللّفظُ الذي يدلُّ على الماهيةِ بِلا قَيدٍ، ومَتى وُجدَ دليلٌ على تقييدِ المُطلَقِ كوجودِ أصلٍ يُردُّ إليْه المُطلَقُ صيرَ إليْه، فإن لم يوجَدْ بَقِيَ المُطلَقُ على إطلاقِه، فَما أطْلِقَ من المَواريثِ في آياتِ المواريثِ فَهيَ كلُّها بعدَ الوَصيّةِ والدَّيْنِ…

ـ أمّا المنطوقُ فما دلَّ عليْه في محلّ النُّطقِ، فإن أفادَ معْنىً لا يحتملُ غيرَه فَهو نصٌّ فيه كقولِه تعالى: ﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ (البقرة: 195)، وإنْ أفادَ المنطوقُ معنىً مع احتمالِ غيْرِه فإمّا أن يدُلّ عليْه الظّاهرُ من دلالات الألفاظ، كقولِه تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (البقرة: 172)؛ فإنّ الباغيَ يُطلقُ على الجاهلِ والظّالمِ، ودلالتُه على الظّالمِ أظهَرُ، وإن حُملَ المنطوقُ على مَعنىً مرجوحٍ لدليلٍ، فَهو تأويلٌ، نحو قولِه تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ (الحديد: 4)؛ فإنّه يَسْتحيلُ حَملُ المعيّةِ على القُربِ بالذّاتِ، ويَتعيّنُ صَرْفُه عن ظاهرِ مَعنى المَعيّةِ، ويُحملُ على مَعْنى القُدرةِ والعلمِ أو على الحفظِ والرِّعايةِ.

ومثلُه قولُه تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ (الإسراء: 24)، فإنّه يَستَحيلُ حملُه على الظّاهرِ؛ لأنّه لا يكونُ للإنسانِ أجنحةٌ، فيُحمَلُ على الخُضوعِ وحُسن الخُلُق.

أمّا المَفهومُ فَما دلّ عليْه اللفظُ في غيرِ محلِّ النُّطقِ، كقولِه تعالى: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾ (الإسراء: 23)، دَلّ بالمَفهومِ من النّصّ على تحريمِ الضّربِ؛ لأنّه أشدُّ. وقولِه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ (الحجرات: 6)؛ ومَفهومُه أنّ غيرَ الفاسقِ لا يجبُ التّبيُّنُ في خبَرِه، فيجبُ قَبولُ خبرِ الواحدِ([44]).

ومن وُجوه المُخاطباتِ في النّصِّ القُرآني:

خطابُ العامّ؛ يُرادُ به العُموم نحو قولِه تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً﴾ (الروم: 53)، وخطابُ الخاصّ يُرادُ به الخُصوص، نحو: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ (المائدة: 69)، وخطابُ العامّ يُرادُ به الخُصوصُ نحو: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ (الحج: 1) خوطبَ به العُقَلاءُ والرّاشدونَ دونَ الأطفالِ والمَجانينِ. وخطابُ الخاصِّ يُرادُ به العُمومُ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ﴾ (الطلاق: 1) افتتحَ الخطابُ بالنّبيّ، عليه الصلاة والسلام،  والمُرادُ به مَن يَملكُ الطّلاقَ.

ولقدْ أحْصى العُلماءُ أكثرَ من ثَلاثينَ وجهاً من وُجوه مُخاطَباتِ القُرآن الكَريم، منها ما تقدّم ذكْرُه، ومنها خطابُ الجِنس، وخِطابُ العَيْن، وخطابُ المَدْح، وخطابُ الذّمّ، وخطابُ الكَرامَة، وخطابُ الإهانَة، وخطابُ الجَمعِ بلفظِ الواحدِ، وخطابُ الجَمعِ بَعدَ الواحدِ، وخطابُ الواحدِ بعْدَ الجَمعِ، وخطابُ الواحدِ بلفظِ الاثنَيْن، وخطابُ الاثْنَيْن بلَفظ الجَمع، وخطابُ العَيْن والمُرادُ بِه الغَيْر، والعَكْسُ، وخطابُ العامّ الذي لا يُقصَدُ بِه مُعيَّنٌ، وخطابُ الشّخصِ ثمّ العُدولُ عنه إلى غيْرِه، وخطابُ التّلوينِ وهو الالتفاتُ، وخطابُ الجَمادِ خطابَ العاقِلِ، وخطابُ التّحنُّن والاسْتعطافِ، وخطابُ التّحبُّبِ، وخطابُ التّعْجيز، وخطابُ التّشريفِ، وخطابُ المَعْدوم الذي سادَ في زمانٍ قديمٍ([45]).

الحِكْمَةُ من البَحث في النّصِّ القُرآنِيّ عن الكلّيّات، وعَن الوُجوه والنّظائِر

أمّا المَواضعُ التي التمَسَ لَها النّحويّونَ وُجوهاً بَعيدةً، كَما فعَلوا بقولِه تَعالى: ﴿قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ﴾ (طه: 62) وقولِه: ﴿لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (المنافقون: 10)، وغَيْرها فإنّها لا تحتاجُ إلى طلبِ التأويلاتِ البعيدَةِ والتماسِ الأقْيسَة في مُوافقَةِ لُغاتِ العَرب ولَهَجاتهِم، فإنّما نزَلَت الآياتُ على قِراءاتٍ مُختلفةٍ وأوجهٍ تَدعو إلى إعمالِ النّظرِ واستخراجِ أوجه الحكمةِ الخفيّةِ، ولو نزَلَت آياتُ الكتابِ كلُّها بالأحرُف الظّاهرة وبما يَستوي في مَعرفته الخاصّةُ والعامّةُ لبَطلَت هذِه الفَضليةُ، فَضيلةُ إعمالِ البحثِ والنّظرِ، ولَزالَت المؤونةُ، كَما أنّه لو أنزِلَ جَميعُ الكتابِ مُحكماً بيّناً غيرَ مُشكِلٍ ولا مُجمَلٍ ولا مُحتمِلٍ للتّأويلِ ولا مما يُحتاجُ في مَعرفةِ مَعناه إلى بُرهان ودليلٍ لخفَّت المحنةُ ولَزالَت المؤونةُ وبَطلَت فضيلةُ العالِم على الجاهِل، والمجتَهدِ النّاظرِ عَلى المهمِلِ المقصِّرِ.

ولم يَكنْ لهذا التّعظيمِ لشأنِ أهلِ العلم، والتّفخيمِ والإشادةِ بذكرِهِمْ، والنّصِّ على تَفضيلهم، مِنْ مَعنىً. فهذا وَجهٌ منَ الصّوابِ والحكمةِ بيّنٌ معَ تَسليمِ القولِ بالأصْلحِ، وأنّ الله سُبحانَه لم يأمرْ بذلكَ إلاّ لوجهٍ من وُجوهِ المصالحِ والحكمةِ، منها عَلى سبيلِ المثالِ أن يبعثَ عُلماءَ الأمّة على حفظِ كتابِه وتأمُّلِ ألفاظِه ومَعانيه، وإمعانِ النّظرِ في وُجوهِه ومَبانيه وطُرقِ إعرابِه، فَيصيروا بذلكَ إلى مُلازمةِ دِراستِه وتَصفُّحِه، فتكون هذه المُلازَمَةُ أدعى إلى حِفظِه والإحاطةِ به، ومُداوَمةِ الفكرةِ فيه، وتتبُّعِه والاحتجاجِ له، والاجتهادِ في الرّدِّ على المُخطئينَ في تَأويلِه، ولو أُخْلِيَ من أحرفٍ غَريبةٍ وألفاظٍ شاذّةٍ ووُجوهٍ غيرِ مَألوفةٍ عندَهُم، لَعَدَلوا عَن الدّرسِ والبَحثِ والتّأمّلِ، وتكلُّفِ النّظرِ والاستدلال، ولرَكَنوا إلى أنّه جليٌّ مألوفٌ، مُستَغْنىً عن الفِكرةِ فيه وكَثرةِ الدّرسِ له، فيَصير بهم الحالُ إلى التّقصيرِ والإهمالِ. ولكنّ تحصينَه وحِمايةَ حواشيهِ، حَرّكَ خَوطرَهم، وجمعَ هِمَمَهُم على حفظِه ومُلازَمةِ دَرسِه والتّفكُّر في وُجوه إعرابِه([46]).

الكَلمة الجامعَة والجُملَة الجامعَة والنَّصّ الجامِع

وهكذا نَستطيعُ أن نتحدّثَ هاهنا عَن الكَلمةِ الجامعَة، والجُملةِ الجامعَة، والآيَة الجامعَة، القَليلَةِ الحجمِ ذاتِ المَعْنى الجمِّ، ممّا يقصُرُ العقلُ عن إحصائِه واستيفائِه، وعنِ النّصّ الجامِعِ([47]).

وقدْ ألّفَ العُلَماءُ في ذلكَ مُصنّفاتٍ تَناوَلوا فيها الآيَةَ والآيتيْن والمَقْطعَ من الآيَة، فأفرَدوا الآيَةَ الواحدَةَ بالتّصنيفِ، مثلَما أفرَدَ عُلماءُ الحديثِ الحديثَ الواحدَ بتصنيفٍ بعيْنه، وقد برزَ في هذا الفنّ في القُرآن الكَريم ابنُ القيّم بكتابِه “مَدارج السّالِكين([48])“، وابنُ الجزريّ (ت 833ﻫ) بكتابِه “كِفاية الألمعيّ في آية يا أرضُ ابلَعي([49])” وقد ألّفَه صاحبُه ردّاً على من ادّعى أنّ السّكّاكي بلَغَ فيه الغايةَ، ومحاولةً منه للإحاطَة بما أغفَلَه الزّمخشريّ في الكشّاف والرّازي في التّفسيرِ الكَبير([50]).

وهي آيةٌ عظيمةٌ عِدّةُ ألفاظِها تسعَ عشرةَ لفظةً جَمَعَت عُلوماً شتّى، واجتمَعَ فيها من ضُروبِ المَعاني والبَيانِ والبَديع اثنانِ وثلاثونَ نوعاً، حَسب تتبُّع ابنِ الجَزَريّ([51])، هي الإيجازُ، والمَجازُ، والاستعارَةُ، والكِنايةُ، والإردافُ، والإشارَةُ، والتّمثيلُ، والتّوريةُ، والإبهامُ، والتّقديمُ والتأخيرُ، والفصلُ والوصلُ، والحذفُ والإضمارُ، وحُسنُ التّعليل، وصحّةُ التّقسيم، والإرصادُ، والتّسهيمُ، وإيرادُ المثلِ، والتّجنيسُ والطّباقُ، والمُقابلةُ والمُناسبَةُ، والإيضاحُ والإبداعُ، والاحتراسُ والتّهذيبُ، والتّمكينُ وحُسنُ النّسَق، والائتِلافُ، والمُساواةُ والانسجامُ والوصفُ.

انْسِجامُ النَّصّ القُرآنيّ وتَماسُكُ بِنائه([52])

عندَما نتحدّثُ عن بَلاغةِ الانْسِجامِ والتّماسُك في النّصّ، فإنّما نَتحَدّثُ عَن مِعْيارَيْن رَئيسَيْن من مَعاييرِ بناءِ النّصِّ أو ما يُدْعى بالنّصّيّة (Textualité)([53])؛ فالتّماسُكُ أو الاتّساقُ (Cohérence) مَفهومٌ يُعْنى بخَصائصِ الرّبطِ النّحويّ بينَ الجُمَلِ والعباراتِ لتأليفِ بنيةٍ نصّيّةٍ مُتَماسكةٍ مُتَرابطَةٍ، ويعْتَمدُ الرّبطُ النّحويُّ على الإحالةِ والتَّكرارِ والربطِ بحروفِ العطفِ والفَصلِ والوَصْلِ وغيْرِ ذلِكَ. أمّا الانْسِجامُ (Cohésion) فيدْخُلُ فيه التّرابُطُ الموضوعيّ([54]) والفكريُّ للنّصّ، الذي يجعَلُ من النّصّ وَحدةً دلاليّةً. ومن مَظاهِرِه أيضاً اشْتِمالُ النّصّ على سَيْرورةٍ واستمراريّةٍ وتطوّرٍ واتّجاهٍ نحو غايةٍ محدّدةٍ تَضمنُ لَه التّدرُّجَ والانتقالَ وتَنْفي عَنه الانتقالَ غيرَ المُسَوَّغِ، ووجودُ مثلِ هذه العَلاقاتِ المعْنويّةِ داخلَ النّصّ يُيسِّرُ فهْمَه فَهماً مَنطقياً([55]).

ـ جَمالُ الانسجامِ في النّصّ القُرآنيّ في كَونِه جُملةً مُوَحّدةً تَقومُ عَلى قاعِدةِ التّناسُق؛ أي ليسَ جَمالُه في كَونِه أجزاءً وتفاريقَ، وإنْ كانَ للأجْزاءِ جَمالٌ وسِحرٌ، ولكنّ جمالَه في كَونه جملةً موحّدةً تقومُ على قاعدةٍ خاصّةٍ فيها مِن التّناسُق العَجيب ما لا يُدرِكُه إلاّ مَن عَرفَ قيمَتَه وعانى قِراءَته ومُدارسَته، ووَقفَ على صَميمِ النّسَق القُرآنيّ الذي هو مَنبعُ التأثيرِ والسّحر([56]).

  1. انْسِجامُ الأداةِ التأويليّة: من مَظاهرِ الانسجامِ تَفسيرُ القُرآنِ بالقُرآنِ أي تفسيرُ النّصّ بالنّصّ من داخِلِ النّسَق القُرآنيّ نفْسِه:

ـ مِنْ مَظاهرِ انْسِجامِ النَّصّ القُرآنيّ وتَماسُكِ بِنائه: تَناسُبُ أجْزائه: يَدخلُ في هذا البابِ؛ أي باب المُناسَبَة كلُّ المَباحثِ اللّغويّةِ والنّحويّةِ والبلاغيّة التي تُعْنى بالعلاقات الكُبْرى بينَ أجزاءِ النّصّ، ومن شأن هذه الدّراسَة النّصّيّة أنْ تُجنّبَ النّصّ القُرآنيّ القِراءةَ التّجزيئيّةَ، وتُقدّمَ قِراءةً جامعةً تنتظمُ فيه الكَلماتُ والآياتُ والسّورُ في سِلكٍ واحدٍ، وتَنتظمُ فيه المَعاني والدّلالاتُ والمَقاصدُ في أصلٍ واحدٍ، فيَبْدو النّصُّ القرآنيّ كلُّه قطعةً واحدةً.

ـ ومن مَظاهرِ الانسجامِ أيضاً حُسْنُ النّسَق: وهو أن يأتيَ المتكلِّمُ بكلماتٍ مُتتالياتٍ مَعطوفاتٍ مُتلاحماتٍ تلاحُماً سليماً مُستحسَناً، بحيثُ إذا أُفْرِدَت كلُّ جملةٍ منه قامَت بنفسِها واستقلَّ معناها بلفظِها؛ وقد بيَّنَ الإمامُ البقاعيّ وجهَ الانسجامِ والتّماسُك في نصّ أمّ الكِتابِ، بقولِه: “وكانَتْ سورةُ الفاتحة أمّاً للقُرآنِ، لأنّ القُرآنَ جَميعَه مُفصّلٌ من مجمَلِها، فالآياتُ الثّلاثُ الأولُ شاملةٌ لكلّ مَعنىً تَضمّنته الأسماءُ الحسنى والصّفاتُ العُلى، فكلّ ما في القُرآنِ من ذلكَ فهو مُفصّلٌ من جَوامعِها، والآياتُ الثلاثُ الأُخَرُ مِن قَولِه: ﴿اهْدِنَا﴾ شاملةٌ لكلّ ما يُحيطُ بأمر الخَلْق في الوُصولِ إلى الله والتّحيُّزِ إلى رَحمةِ الله والانقطاعِ دونَ ذلكَ، فكلُّ ما في القُرآنِ منه فَمن تَفصيلِ جَوامِع هذِه، وكلُّ ما يَكونُ وُصْلةً بَين ما ظاهرهنّ هذه من الخلق ومبدؤه وقيامه من الحق فمفصَّلٌ من آية ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾”([57]).

وبيّن أهلُ البَلاغةِ والإعجازِ حُسنَ النسق في آية ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (هود: 44)، فجُمَلُ الآيةِ مَعطوفٌ بَعضُها عَلى بَعضٍ بواوِ النّسَق، عَلى التّرتيبِ الذي تَقتَضيه البَلاغةُ مِن الابتداءِ بالأهمّ الذي هو انحسارُ الماءِ عن الأرضِ المُتوقِّفِ عليْه غايةُ مطلوبِ أهلِ السّفينةِ من الإطلاقِ من سجْنِها، ثمّ انقطاعِ ماءِ السّماءِ المتوقِّفِ عليْه تمامُ ذلِكَ مِن دفْعِ أذاه بعدَ الخُروجِ ومنع إخلافِ ما كانَ بالأرضِ، ثمّ الإخبارِ بذهابِ الماءِ بعدَ انقطاعِ المادّتيْنِ الذي هو متأخّرٌ عنه قَطعاً، ثمّ قَضاءِ الأمرِ الذي هو هلاكُ مَن قُدّرَ هلاكُه ونجاةُ مَن سبقَ نجاتُه، وأُخِّرَ عَمّا قبلَه؛ لأنّ عِلْمَ ذلكَ لأهلِ السّفينةِ بعدَ خُروجِهم مَوقوفٌ على ما تَقدّمَ، ثمّ أخبرَ باستواءِ السّفينةِ واستقرارِها المُفيدِ ذهابَ الخَوفِ وحُصولَ الأمنِ مِن الاضْطِرابِ، ثمّ ختمَ بالدّعاءِ على الظّالمينَ لإفادةِ أنّ الغَرقَ وإنْ عَمّ الأرضَ فلَم يَشملْ إلاّ مَن استَحقَّ العذابَ لظُلمِه([58]).

ـ ومِن مَظاهرِ الانْسجامِ أيضاً اللّفُّ والنّشْرُ([59]).

ـ ومن مَظاهرِ الانسجامِ أيضاً المُشاكلَةُ أو التّشاكُلُ([60]).

ـ ومن مَظاهرِ الانسجامِ في النّصّ القُرآنِيّ: المُطابَقَةُ والمُقابَلَةُ.

ـ ومن مَظاهرِ الانسجامِ أيضاً الوَصْلُ لَفظاً الفَصْلُ مَعْنىً.

وهكذا، فإنّ الحديثَ عن مَظاهرِ انسجامِ النّصّ القُرآنيّ وتَماسُكِ أجزائِه، يُثبِتُ أنّ الوحدةَ المعنويّةَ تؤثّرُ في إحْكامِ الوَحْدةِ البَيانيّةِ الفنّيّةِ، وذلِكَ بالتّقريبِ بينَ الْمُؤلِّفاتِ، حَتّى تتَماسَكَ وتَتعالَقَ([61]). وعليْه فإنّ الكلامَ في المَوضوعِ الواحِد إذا ساءَ نَظمُه انحلَّت وَحْدةُ مَعْناه فتَفَرّقَ من أجزائِها ما كانَ مُجتمِعاً، وانفصَلَ ما كانَ مُتّصلاً… فالتأليفُ بينَ الأجزاءِ حتّى تتعالَقَ وتتعانَقَ مَطلَبٌ كبيرٌ يَستلزِمُ مَهارةً وحِذْقاً ولُطفَ حِسٍّ في اختيارِ أحسنِ المَواقعِ لتلْكَ الأجزاءِ، أيّها أحقُّ أن يُجعلَ أصلاً أو تَكْميلاً، وأيُّها أحقُّ أن يُبدَأ بِه أو يُختَمَ أو يَتَبوّأ مَوقعاً وسَطاً؟ ثمّ يحتاجُ مثلَ ذلِكَ في اختيارِ أحسنِ الطّرُقِ لِمزْجِها: بالإسنادِ أو بالتّعليقِ أو بالعَطْفِ أو بغيْرِها؟ هذا كلُّه بعْدَ التّلطُّفِ في اختيارِ تلكَ الأجزاءِ أنفُسِها، والاطمِئْنانِ على صلةِ كلٍّ منها بِروحِ المَعْنى وأنّها نَقيّةٌ من الحَشوِ قَليلةُ الاستطْرادِ وأنّ أطرافَها وأوساطَها تسْتَوي في تَراميها إلى الغرَضِ([62]).

تلكَ حالُ المَعْنى الواحِدِ الذي تتّصلُ أجزاؤُه فيما بينَها اتّصالاً طبيعيّاً، فَما ظنُّك بالمَعاني المُختلفةِ في جوهرِها، المُنفصِلَةِ بِطبيعتِها؟ كَم من المَهارةِ والحِذْقِ… يتطلّبُه التأليفُ بينَ أمزِجَتِها المُخْتلِفَة المُتَفاوِتَة، ليَصيرَ لَها مِزاجٌ واحدٌ واتّجاهٌ واحدٌ، ولِيَلْزَمَ عَنْ وَحداتِها الصُّغْرى وَحدةٌ جامعةٌ أخْرى. وهذا شأنُ الأغْراضِ المختلفةِ إذا تَناوَلها الكَلامُ الواحدُ في المجلسِ الواحِدِ. فَكيفَ لَوْ قدْ جيءَ بها في ظُروفٍ مُختلفةٍ وأزْمانٍ مُتطاوِلةٍ؟ ألا تَكونُ الصّلةُ فيها أشَدَّ انقِطاعًا، والهوةُ بينها أعْظَمَ اتّساعًا؟

ـ ومن مَظاهرِ الانسجامِ أيضاً ارتباطُ الجُملَة بمَوْضوعِ السّورةِ، وارتباطُها الموضوعيّ بِما تفرّقَ في القرآنِ([63]).

فَمِنَ الخطأ البحثُ في الصِّلاتِ الجزئيّةِ مَعَ غَضِّ البَصَرِ عن النّظامِ الكُليّ الذي وَقعتْ عَليه السّور؛ ففي هذا الغَضِّ جَورٌ عَن القَصدِ، وإغفالٌ لِنَواحي الجَمال في النّظم، وإغْفالٌ لحُسنِ التّشاكُل بَين الجُملة والجُملة.

وكلّ سورةٍ من سُورِ القرآن الكريمِ تشتملُ على مُقدِّمَةٍ ومَقاصدَ واختتامٍ، ولا شكَّ أنّ أهمَّ ما يَطبعُ النّصَّ القُرآنيَّ عُنصرُ الاكتمالِ، آيةً كانَ أم سورةً، وهذا ما يُعبّرُ عنه في لسانيّاتِ النّصّ بعُنصرِ الاخْتِتام Clôture، والنّصُّ الذي لا يُختَمُ بخاتمةٍ يفقدُ اتِّساقَه وغائيتَه. اكْتِمالُ النّصِّ، مقوِّمٌ من مقوِّماتِ النّصّيّةِ، وليسَ طولُ النّصِّ أو حَجمُه أو أبعادُه معْياراً([64]). فلكلِّ سورةٍ وحدةٌ موضوعيّةٌ تشدّ أجزاءَ السّورةِ وتربطُ آياتِها ومَعانيَ جُملِها، وما اشتمَلَت عليْه السّورةُ من مَعانٍ جزئيّةٍ إنّما هو مشتقٌّ من الموضوعِ الكلّيّ للسّورة أو موصولةٌ بِه بوجهٍ من الوُجوه([65]).

وهكَذا فإنّ وراءَ إحْكامِ البُنيانِ القُرآنيّ وتماسُكِه تَدبيراً مٌحكماً وتَقديراً مُبرَماً؛ كانَ قد أعدَّ لهذِه الموادِّ المتفرِّقَة نظامَها، ووَجَّهَها في مَرحلَةِ تشتُّتها نَحْوَ وِجْهَتِها البِنائيَّةِ الأخيرَةِ التي استقرَّت عَليْها في النّصّ القُرآنيّ، حَتى صِيغَ منها عِقدُ القُرآنِ النَّظيمُ.

وإنّ معيارَ البيانِ وبَلاغةِ النّصّ لَهُوَ الطّريقُ النّهجَةُ إلى معرفةِ أسرارِ القرآن الكريمِ والوُقوفِ على مَعانيه، والضّابطُ لتَفْسيرِه وتأويلِه.

الهوامش

([1]) انظر: أصول التأويليّة في الفكرِ اليونانيّ ثمّ تطوّرها عبر العصور، ثمّ ما طرأ على المفهوم من تغيُّر جذريّ على يدِ الفينومينولوجيّين مثل هوسرل وهايدجر، ثمّ شلايرماخر وجورج غوسدورف وبول ريكور وجاك ديريدا، وغادامير، وميشيل فوكو، كتابَ: عبد الكَريم شرفي، من فلسفاتِ التأويل إلى نظرياتِ القراءَة، الدّار العربيّة للعلوم، ناشرون، ط1، (1428ﻫ/2007م)، وكتاب: نصر حامد أبو زيد، إشكاليات القِراءَة وآليات التّأويل، بيروت/الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط3، 1994م.

([2])Paul Ricœur, Le Conflit des interprétations, essais d”herméneutique, Seuil, 1969.

([3]) ويُعَدّ هانس جورج غادامير أنموذَجاً للذي يجعلُ التأويلَ وسيطاً لتحقيقِ الفهْم، وقد يكون الوسيطُ لغويّاً أو غيرَ لغويّ، وقريبٌ منه هانس روبرت ياوس صاحبُ نظريةٍ في القراءَة وجَماليّة التلقّي، الذي يُعدّ التأويلُ عندَه مؤسَّساً على التّفسيرِ والفهم والتّطبيقِ، فالتّفسير يَكشفُ عن خُصوصياتِ النّصّ البنيويّة، والفَهْمُ يُقيّدُ التّعامُلَ مع النّصّ بواقع المُفسِّرِ الرّاهِن، والتّطبيقُ يُبيّنُ مدى تأثيرِ النّصّ في حاضرِ المُفسِّر ومفاهيمِه، وقد استأنَفَ تعاليمَ غادامير التأويليّةَ.

([4]) مع الفيلسوفِ شلاير ماخر.

([5]) مع الفيلسوف هانس جورج غادامير.

([6]) انظر: الفصلَ الأوّل: “الهرمينوطيقا، من التأويل إلى آلياتِ التأويلِ وحدودِه“، من كتاب: عبد الكريم شرفي، “من فَلسَفاتِ التأويلِ إلى نظريّاتِ القراءَة“،

([7]) المرجع نفسُه.

([8]) وهذا مذهبُ أشهر التأويليّينَ، وعلى رأسهِم الفيلسوف الألمانيّ ه-.ج. غاداميرHans Georg Gadamer، انظر: من فلسفات التأويل إلى نظريات القِراءَة، الفصل الأول، م، س.

([9]) طَه عبْد الرّحمن، روح الحَداثَة، المَدخَل إلى تأسيسِ الحَداثَة الإسلاميّة، الدار البيضاء: المَركَز الثَقافيّ العربيّ/المغرِب، ط1، 2006 م، ص175.

([10]) عَبْد المَجيد الشّرفي وآخَرون، في قِراءَة النّصّ الدّينيّ، سِلسلَة: مُوافَقات، الدّار التّونُسيّة للنّشر، ط2، 1990م، ص 12.

([11]) روح الحَداثَة، م، س، ص 176.

([12]) باحثٌ ومسؤولٌ تربويّ باكستاني، كانَ أستاذاً للفكْر الإسلاميّ في جامعة شيكاغو، من مؤلَّفاتِه: “الإسْلام وضَرورَة التّحديث، نَحو إحْداثِ تَغييرٍ في التَّقاليدِ الثَّقافيّة“، تَرْجَمَه إلى العربيّة: إبْراهيم العريس، بيروت: دار السّاقي، ط1، 1993م. والكاتبُ الباكسانيُّ لَم يكُنْ يَعْني بالتّربيّة الإسلاميّةِ الوسائلَ والبَرامج التي تُستَخْدَمُ في التَّعليم، وإنّما كانَ يَعْني بِها النّزعةَ العقْليّةَ الإسلاميّةَ. ومن كُتُبِه أيضاً: “الإسْلام“، وكتابُ “النُّبُوّةُ في الإسْلام: الفَلْسَفَة والسَّلفيّة“.

([13]) الإسْلام وضَرورَة التّحْديث، ص10-11.

 ([14])عُنْوانُ المَشروع: مَشْروعُ رُؤيَةٍ جَديدةٍ للفكْرِ العربيّ مِن بَواكيرِه حَتّى المَرحَلَةِ المُعاصرةِ. وهو في اثْنَيْ عَشَرَ جُزءاً، يُهمُّنا منها الجزءُ الخامسُ المُسَمّى: “النّصُّ القُرآنيُّ أمامَ إشْكاليّةِ البنيَةِ والقِراءَة“، ويهتمُّ بجدليّةِ الفِكر والواقِع في تناوُل نصوصِ القُرآن وتأويلِها، وعرَضَ الباحثُ قَضايا القراءَة التأويليّة من خِلالِ مَجموعةٍ من المَفاهيمِ، منها: النّصُّ القُرآنيّ ذو بنْيَةٍ إجماليّةٍ كلّيّةٍ، والنّصُّ القُرآنيّ ذو بنيَةٍ إشكاليّةٍ، والنّصُّ القُرآنيّ ذو بنيَةٍ تأويليّةٍ احتماليّةٍ مَتْناً ونُطقاً، وثُنائيّة الباطن والظّاهِر في بنيةُ النّصِّ القُرآنيّ.

([15]) محمّد شحْرور، الكِتاب والقُرْآن: قِراءَة مُعاصِرَة، دمشق: الأهالي للطّباعَة والنّشْر والتَّوزيع.

([16])عَبْد المَجيد الشّرفي وآخَرون، في قِراءَة النّصّ الدّينيّ، م، س، ص95.

([17]) روح الحَداثَة، م، س، ص181.

 ([18])طيّب تيزيني، النّصّ القُرآنيّ أمامَ إشكاليّةِ البِنْية والقِراءَة، سلسلَة: مَشروع رُؤيَة جَديدَة للفِكْرِ العربيّ، دار اليَنابيع، 1997م، ص253.

([19]) روح الحَداثَة، م، س، ص192.

([20]) النّصّ القُرآنيّ أمامَ إشكاليّةِ البِنْيَة والقِراءَةِ، م، س، ص 184.

([21]) النّصً، السُّلطَة، الحَقيقَة، م، س، ص134-135، وروح الحَداثَة، م، س، ص186.

([22]) انظُرْ: روح الحَداثَة، م، س، ص188، في سياقِ الحَديثِ عن دَعْوةِ القِراءاتِ التأويليّةِ إلى تَحْديثِ التّديُّن.

([23]) روح الحَداثَة، م، س، ص182.

([24])نصْر حامد أبو زَيْد، النّصّ، السّلطَة، الحَقيقَة، الفِكْر الدّينيّ بَيْنَ إرادَة المَعرِفَة وإرادَة الهَيْمَنَة، الدار البيضاء: المَركَز الثَّقافيّ العربيّ، ط1، 1995م، ص8-9.

([25]) روحُ الحَداثَة، نَقْد القِراءاتِ الحَداثيّةِ المُقلِّدَة، م، س، ص192.

([26]) زَعَموا أنّ النَّحْلَ أوحِيَ إليْه كَما أوحِيَ إلى الأنبِياء، لأنّهُم فَهموا الآيَةَ خطأ أو تَعَمّدوا فَهْمَها كذلِك ادِّعاءً منهُم تَصحيحَ المَفْهوم السّائدِ عَن الوَحْي، والآيَة هي: ﴿êوَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ (النحل: 68).

([27]) لسان العَرَب، مادّة: (أول).

([28]) تَحقيق: محمّد حَسَن راشِد، القاهرة: المطبعة السلفية، 1393ﻫ.

([29]) يُنظرُ بتفصيلٍ: فَتاوى شيخ الإسلامِ ابن تيميّة، كتاب التّفْسير، الرباط: مَكتَبَة المَعارِف.

([30]) البيان والتّبْيين، 3/375-376.

 ([31]) يوسُف القرضاوي، كَيْفَ نَتَعاملُ مع القُرآنِ العَظيم؟ دار الشّروق، ط2، (1420ﻫ/2000م)، ص293-312.

([32]) يُمكنُ استقْراءُ هذه الحَرَكة التأويليّة الواسعَة منذُ القَديم من خلالِ عَشَراتِ المصادِرِ الكَلاميّةِ القَديمَة والفلسفيّةِ العربيّةِ الحَديثَة، ومن خِلالِ المصادِرِ النّقديّةِ التي تتبعَت المَذاهِبَ التأويليّةَ، كمَصادِرِ ابنِ تَيْمِيةَ التي وَضعَ فيها قَواعدَ حِجاجيّةً لمنهجِ أهلِ السّنّةِ والجَماعةِ لمُناظَرَةِ أهلِ المَذاهبِ الكَلاميّةِ، وردَّ فيها على المخالفينَ من المَذاهِبِ خاصةً بعد ظُهورِ عَقائدَ مُنحَرِفةٍ وطرُقٍ بدْعيةٍ وشَطحاتٍ فكريّةٍ، وذلِك من خِلالِ جَمهَرةٍ من المُؤلَّفاتِ التي حدّدَت مَعالمَ نقْدٍ مُمَنْهَجٍ عَميقِ الاطّلاعِ واسِعِ المَعْرِفَةِ، هذه المُؤّلَفات التي اجتَمَعَ بينَ يدَيْها ما لَم يجتمِعْ لغيْرِها من مؤلَّفاتِ عُلَماء آخَرينَ، وقَد شهدَ لابنِ تيميّةَ أهلُ الاختصاصِ في نقدِ الرِّجالِ وهُم أهلُ الحَديثِ والفقه.

([33]) لا شكّ أنّ هذه الفِرَقَ، ما كانَ أمرُها ليَخْفى على الأئمّةِ المُحقّقينَ وجَهابذَةِ العلمِ النّاقِدينَ، وفي ذلِك يَقولُ أبو حَيّانَ النّحويُّ الأندلسيّ، في سياقِ الرّدّ على مَن ادّعى الرّمزيّةَ في كتابِ الله: “إثباتُ الرُّموز في كِتابِ الله تعالى… مَذهبُ الباطِنيّةِ، ومَذاهِبُ مَن يَنتمي إلى الإسْلامِ مِنْ غُلاة الصّوفيةِ، وقَد أشَرْنا إليهم في خُطبةِ هذا الكِتابِ؛ وإنما هؤلاءِ زَنادقةُ تَستّروا بالانتماءِ إلى مِلّةِ الإسْلامِ. وكتابُ الله جاءَ بِلسانٍ عَربيّ مُبينٍ، لا رَمزَ فيه ولا لغزَ ولا باطِنَ، ولا إيماءَ لشيءٍ ممّا تَنتحِلُه الفَلاسفةُ ولا أهلُ الطّبائعِ. ولقدْ ضَمَّنَ تَفسيرَه أبو عَبدِ الله الرّازيّ المعروفُ بابنِ خَطيبِ الرّيّ أشْياءَ ممّا قالَه الحُكَماءُ عندَه وأصْحابُ النُّجومِ وأصْحابُ الهيئةِ، وذلكَ كلُّه بمعزلٍ عَن تَفسيرِ كِتابِ الله تعالى”، أبو حيّان الأندلسي، البَحر المُحيط، بعناية مجموعةٍ من العُلَماء، دار الفكْرِ للطّباعَة، ط1، (1412ﻫ/1992م).

([34]) الإتْقان، 2/751.

 ([35])النّصُّ مِن كَلام تقي الدّين السّبكي، في كتابه “السَيف المسلول، تحقيق: إياد أحمد الغوج، عمّان: دار الفَتْح/الأردنّ، ط1، (1421ﻫ/2000م)، ص472. والحديثُ أخرجَه البيهقي في شُعَب الإيمان، 2/158.

([36]) أبو عُثمانَ عمرو بنُ بحرٍ الجاحظُ، الرسالَة العاشرة من رسائل الجاحظ، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، القاهرة: مكتبة الخانجي، (1384ﻫ/1964م)، 1/379.

([37])طه جابر العلوانيّ، لسان القُرآن ومُستقبل الأمّة القُطب، سلسلة: دراسات قُرآنيّة (4)، القاهرة: مكتبة الشّروق الدّوليّة، ط1، 2006م، ص26.

([38]) منهُم الباقلانيُّ والرّمّانِيّ والخطّابيّ وعبدُ القاهِر الجرجانيُّ والرّازي…

([39]) منهُم مُصطفى صادق الرّافعيّ وسيّد قُطب وبَدوي طبانة ومحمّد أحمد خلف الله وعبد الله درّاز وعائشَة عبدالرّحمن…

([40]) الإمام محمّد بنِ إدريسَ الشّافعيّ، الرّسالَة، تحقيق: أحمد محمّد شاكِر، بيروت: دار الفكر، ص42.

([41]) لسانُ القُرآن ومُستقبَل الأمّة القُطب، ص8.

([42]) انظُر ابنِ عبدِ البَرِّ النَّمريّ القُرطبيّ، الاستيعاب في مَعرِفَة الأصحاب، ترجمةَ نُعيْم بنِ مَسعودٍ، تحقيق: علي معوض وعادل عبد الموجود، بيروت: دار الكُتُب العلميّة، 2002م، وانظُرْ: الآيَةَ وسياقَها في تَفسير الطَّبَري للآيَة: جامِع البَيان، بيروت: دار الكتب العلمية، 1999م، والإتقان، م، س، 1/684.

([43])وخصّتْه السّنّةُ أيضاً، بقولِه عليه الصلاة والصلام عن البَحر: «هو الطَّهورُ ماؤُه الحِلُّ ميتَتُه» سُنَن التّرمِذي، كتابُ الطّهارة، بابُ: ما جاءَ في ماء البَحرِ أنّه طَهورٌ، حديث رقم: 69.

([44]) يُراجَعُ في مسألة قَوانينِ دلالات الألفاظِ على مَعانيها: أو إسحاق الشّاطبيّ،  المُوافَقات، بحواشي الشيخ عبدالله درّاز، بيروت: دار الفكر العربي، ج 3، ويُنظرُ أيضاً: الإتقان، م، س، 1/740.

([45])انظر: في ألوانِ الخِطابِ القُرآنيّ: الإتقان، م، س، 2/744-750.

([46]) يُنظرُ في شأنِ الحكمَةِ من نشأةِ الدّراساتِ والعلومِ المتعلّقَةِ بالقُرآن الكريمِ، وأوجُه تَسْويغِها، القاضي أبو بَكر الباقلاّني، الانتصار للقرآن، تحقيق: محمّد عصام القُضاة، دار الفتح، دار ابن حزم، ط1، (1422ﻫ/2001م)، 2/564-566.

([47]) يُمكنُ أن نستعيرَ هاهنا مُصطَلَحَ “جامِع النّصّ” “Architexte” الذي أطلَقَه الباحثُ الفرنسيّ جيرار جينيتGérard  وأرادَ بِه مجموعَ الخَصائصِ العامّةِ أو المُتعاليَةِ التي يَنتمي إليْها كلُّ نصٍّ على حدَةٍ في كتابِه:G.Genette: Introduction à l”architexte, Ed. du Seuil, Collection Poétique, Paris 1979  وقَد تَرْجَمَ الكتابَ إلى العربيّة عبد الرّحمن أيّوب، بعُنوان: “مَدْخَل لِجامِع النّصّ” مع مُقدّمةٍ خَصَّ بها المُؤلِّفُ الفرنسيُّ التّرجمةَ العربيّةَ، بغداد: دار الشؤون الثّقافيّة العامّة، والدار البيضاء: دار توبقال.

([48]) ابن قيّم الجَوزيّة، مَدارِج السّالِكين بَين مَنازِل إيّاكَ نَعبدُ وإيّاكَ نَستَعينُ، بيروت: دار الكتب العلمية، 1999م.

([49])ابن الجَزَريّ، كفايَة الألمعي في آيَة يا أرضُ ابلعي، تحقيق: نشيد حميد سعيد آل محمود، بيروت: منشورات دار الآفاق الجديدَة، ط1، 2003م.

([50]) كفايَة الألمعي، ص72.

([51]) وذكَر صاحبُ تحرير التّحبير، وابنُ مَعصوم في “أنوار الرّبيع  أنّ عدّةَ ألفاظها سبعَ عشرةَ لفظةً.

([52]) يَحلو لِبَعْضِ الباحِثينَ المُعاصرينَ أن يَنفوا عَن القُرآن الكَريمِ كلّ مّظاهرِ النًصّيّةِ المُوحَّدةِ للقرآنِ الكريم، وأنه ليسَ نصاً منسجماً بالمَعْنى الحَديث، الذي يستلزمُ درجةً كبيرةً من التّرابُط في مُستوى التأليفِ اللّغويّ، فليسَ في القُرآن نص مترابطٌ و لا مُنسَجمٌ، بل لا يوجَدُ ذلِكَ حتّى في السّورةِ الواحدةِ على الرّغمِ من المُحاولاتِ الجادّةِ لبعض الدّراساتِ حولَ التّفسيرِ الموضوعيّ للقرآن، والدّراسات الجادّة في المُناسَبَة الموضوعيّةِ بينَ السّوَر، بَل ذهبَ هؤلاءِ الباحثونَ إلى أنّ القُرآنَ الكريمَ مجموعةٌ من المدوّناتِ كمدوّنَة العَقيدَة ومُدوَّنَة الشّريعَة ومُدوَّنَة الوَعظِ ومدوَّنَة الغَيْب ومُدَوَّنَةِ القصَص، ولكلّ مدوَّنةٍ أسلوبُها وعباراتُها، وباستثناءِ مدوَّنَة الشّريعَة، يُمكنُ أن نتصوَّرَ درجاتٍ من الغُموضِ الدّلاليّ تُتيحُ للتأويلِ مَكاناً في فهمِ النّصّ والاجتهادِ فيه. انظُر: المصطفى تاج الدّين، التّحليل اللّسانيّ وعَالَميّة القيم الدّينيّة، مجلّة: الإحياء، الرابطة المحمّديّة للعُلَماء، العدد المزدوج 32-33، (رمضان 1431ﻫ/غشت 2010م)، ص168-183.

وهذا الرأيُ يفتقرُ إلى الأدلّةِ على خلوّ النّصّ القُرآنيّ من عناصرِ التّماسُك والانسجامِ النّصّيّيْن، وهي عناصرُ اجتهَدَ عُلماءُ البلاغةِ وعُلومِ القُرآنِ لإثباتِها والبرهنَةِ عليْها بالشّواهدِ الكَثيرَة من الآياتِ والسُّوَر، ووبسْطِها وبيانِها في كتُبِهِم.

([53]) تُراجعُ المُؤلَّفاتُ التي عُنِيَت بلسانيات النّصّ وتَحليل الخطاب، مثل: محمد خطابي، لسانيات النص، مدخَل إلى انْسِجام الخِطاب، الدار البيضاء: المركَز الثّقافي العربي، ط2، 2006م. و حسَن خَمري، نظرية النص، من بِنيَة المَعْنى إلى سيميائيّة الدّالّ، الدّار العربيّة للعُلوم ناشرون، بيروت: منشورات الاختلاف، ط1، 2007م، و إبراهيم خَليل،  في نظرية الأدب وعِلْم النّصّ، بُحوث وقِراءات، الدّار العربيّة للعُلوم ناشرون، بيروت: منشورات الاختلاف، ط1، 2010م، و محمّد الأخضر الصّبيحي، مَدخَل إلى عِلم النّصّ ومجالات تطْبيقِه، الدّار العربيّة للعُلوم ناشرون، بيروت: منشورات الاختلاف ، ط1، 2008م، و صلاح فَضل، بَلاغة الخِطاب وعلم النّصّ، مكتبة لُبنان ناشرون، لونجمان – بيروت: الشركة المصريّة العالَميّة للنّشر، 1996م، و سَعيد حَسَن بحيري، علم لُغَة النّصّ، المَفاهيم والاتّجاهات، مكتبة لُبنان ناشرون، لونجمان–بيروت: الشركة المصريّة العالَميّة للنّشر، 1997م. و نعمان بوقرة، المُصطَلَحات الأساسيّة في لسانيات النّصّ وتَحليل الخِطاب، دراسَة مُعجميّة، عالَم الكتُب الحديث، الأردن: جدارا للكِتاب العالَميّ، ط2، 2010 م.

([54]) مَدخَل إلى عِلمِ النّصّ ومجالات تَطبيقِه، م، س، ص82.

([55])براون ويول، تَحليل الخطاب، ترجمة: محمد لطفي الزليطي ومنير التريكي، الرياض: منشورات جامعة الملك سَعود ، 1997م، ص234.

([56]) يُنظرُ كتابُ: الأستاذ سيّد قُطب V، “التّصوير الفني في القرآن“.

([57]) نَظم الدُّرَر في تناسب الآيات والسُّوَر، 1/23.

([58])عليّ صدر الدّين بن مَعْصوم المَدَنيّ، أنوار الرّبيع في أنواع البَديع، تحقيق: شاكِر هادي شكر، النّجف الأشرَف: مطبعة النّعمان،(1389ﻫ/1969م)، 6/133. وهذا الكلامُ مأخوذٌ عن السّيوطي بتصرّفٍ يسيرٍ: الإتقانُ في عُلوم القُرآن، م، س، 2/925.

وقَد سبقَ أنْ بيّنَ عبدُ القاهر الجُرجانيّ مزيّةَ ألفاظِ آيَة: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي﴾ في ارتباطِ بعضِها ببعضٍ وائتلافِها فيما بينَها، وبرْهَنَ على أنّه لا يقعُ في وَهمٍ أن تَتفاضلَ كَلمتانِ مُفردَتانِ مِن غَير أنْ يُنظرَ إلى مَوقِعهِما مِن التّأليفِ والنّظم، ولا تَجدُ أحداً يقولُ: هذِه اللفظةُ فَصيحةٌ، إلاّ وهو يَعتبِرُ مَكانَها مِن النّظمِ وحُسنِ مُلاءَمةِ مَعناها لمعنى جاراتها، وفَضلِ مُؤانَستِها لأخَواتها. ولا يقولونَ: لَفظةٌ مُتمكّنةٌ ومَقبولةٌ، أو قَلقةٌ ونابيةٌ ومُستكْرَهَة، إلاّ وغَرضُهم أنْ يُعبّروا بالتّمكُّن عن حُسنِ الاتّفاقِ بين هذه وتلك من جهة معناهما، وبالقَلقِ والنُّبوِّ عن سوء التّلاؤم. و لا يشكُّ النّاظرُ في قولِه تَعالى: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾، أنّ ما وَجَدَه من المزيةِ الظّاهرة، إلاّ لأمرٍ يَرجِعُ إلى ارتباطِ هذِه الكَلِمِ بَعضِها ببعضٍ، وأنْ لمْ يَعرِضْ لها الحُسنُ والشّرفُ إلاّ مِن حيثُ لاقَت الأولى بالثّانية والثالثةَ بالرّابعة، وهكذا، إلى أن يَسْتقرِيَها إلى آخرِها. انظُرْ رأي عبدِ القاهِر بِتفصيل في كتابِه: دَلائل الإعجاز، تحقيق: محمود محمّد شاكِر، القاهرة: مكتبة الخانجي، ص44-46.

([59]) الإتقان، م، س، 2/929، ومُعتَرَك الأقران،  1/310.

([60]) المرجع نفسه.

([61]) للتّوسُّعِ في قضيّةِ تأثيرِ وحدةِ المَعْنى في وحدةِ المَبْنى، يُراجَعُ كتابُ: محمّد عبْد الله درّاز، النّبأ العَظيم، نَظرات جَديدَة في القُرآن، الدوحة: دار الثّقافَة/قَطَر، (1405ﻫ/1985م)، ص 142-163.

([62]) النّبأ العَظيم، ص143.

([63]) هذه قاعدةٌ ذكَرَها الأستاذ عَبْد الرّحمن حَسَن حبنَّكَة الميْدانيّ في كتابِه: قَواعِد التّدبُّر الأمثَل لكِتابِ الله تعالى، دمشق: دار القَلَم، بيروت: الدّار الشّاميّة، ط4،  (1430ﻫ/2009 م)، ص13.

([64])صَلاح فَضل، بَلاغَة الخطابِ وعِلْم النّصّ، مكتبة لُبنان ناشرون، لونجمان: الشركة المصريّة العالَميّة للنّشر  ط1، 1996م، ص298، وانظر: محمّد الأخضر الصّبيحي،  مَدخل إلى عِلْم النّصّ، م، س، ص84.

([65]) قَواعد التّدبُّر الأمثَل، ص27.

Science
الوسوم

الدكتور عبد الرحمن بودراع

• أستاذ التعليم العالي بجامعة عبد المالك السعدي، كلّيّة الآداب و العلوم الإنسانيّة، تطوان – المغرب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق